الخميس، 14 يناير 2016

هل تسللت "العلمنة" إلى الحركات الإسلامية؟



بسام ناصر

لا تفتأ إكراهات الواقع تلجئ اتجاهات وحركات إسلامية إلى تكييف مشاريعها وبرامجها بما يجعلها متوافقة مع دساتير الدولة القومية الحديثة، وخاضعة لقوانينها النافذة، لأن تلك الاتجاهات اختارت العمل العلني ضمن الأطر المتاحة دستوريا وقانونيا.

عملية التكيف مع شروط الأنظمة القائمة ومواصفات العمل المسموح به في قوانينها، تتطلب عقولا قادرة على اجتراح صيغ توائم بين ما تراه تلك الحركات ثوابت ومحددات رئيسة لمشروعها، وبين شروط الواقع وإكراهاته، صيغ تمكنها من التكيف مع القائم، من غير أن تذوب فيه وهي التي ما قامت إلا لإصلاحه وتغييره.

التعاطي مع تلك المعادلة الصعبة أفرز مواقف متباينة في أوساط تلك الحركات، بين ما يمكن قبوله والخضوع لنظامه، وبين ما يجب الاحتراز منه والتحفظ عليه، ولأن غالب الأنظمة السياسية في عالمنا الإسلامي أنظمة علمانية، فإن التحدي الأكبر الذي واجه تلك الحركات تمثل في كيفية التعاطي مع الأنظمة العلمانية في مختلف تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

عبر مسيرتها الرامية إلى إيجاد صيغ توفيقية بين النظام العلماني بدساتيره وقوانينه النافذة وبين ثوابتها وأصولها الحاكمة، تعرضت تلك الحركات لموجات من النقد الشديد والقاسي، من قبل شخصيات علمية ودعوية، واتجاهات إسلامية، توصف بتبنيها لأجندات أصولية متشددة، كان أشد ألوان ذلك النقد اتهام تلك الحركات بوقوعها في براثن العلمانية (الآثمة). 

تضمن كتاب "العلمانية من الداخل"* للداعية المغربي الدكتور البشير عصام المراكشي، الصادر عن مركز تفكر للبحوث والدراسات سنة 2015، اتهامات واضحة لتلك الحركات "بتمرغها في حمأة العلمانية" بدرجات متفاوتة، فكان عنوانه الفرعي "رصد تسرب التأصيلات العلمانية إلى فكر التيارات الإسلامية المعاصرة" معبرا عن ذلك المعنى. 

ما هي العلمانية المتسللة؟ 

ما هو مفهوم العلمانية الذي استند إليه المراكشي في معايرة واقع الحركات الإسلامية عليه؟ بعد سرده لتعريفات معروفة ومتداولة للعلمانية جعلتها مضاهية للدين، حدد المؤلف مفهوم العلمانية الذي بنى عليه انتقاده، فهي "نزع القيم الدينية الإسلامية عن الممارسة السياسية بمعناها الشامل للاقتصاد والاجتماع والثقافة". 

وما قصده المراكشي بالعلمنة التي تسللت إلى الحركات الإسلامية، هو ذلك القدر من العلمانية الذي "سرى إلى أفكار بعض الإسلاميين وتأصيلاتهم في هذه المجالات كلها، ولكن دون أن تصل إلى درجة العلمانية الشاملة". ووفقا للكاتب، فإن تأثر العالم الإسلامي بالعلمانية أثر على مدى حضور المرجعية الإسلامية والتي تراوحت تحت وقع انتشار العلمانية وشيوعها إلى تنحية الشريعة جزئيا (التجريئ)، أو تنحيتها كليا (التنصل).

في معرض تحديده لمبررات وجود الحركات الإسلامية في أصل نشأتها، تساءل المراكشي: "لم وجدت الحركات الإسلامية؟ وما الذي يميزها عن غيرها من التيارات الفكرية والسياسية؟"، ليجيب بشكل مباشر: "الغاية التي من أجلها قامت هذه الحركات الإسلامية، هي: تطبيق الشريعة الإسلامية، وإقامة دولة الإسلام على أرض الواقع".

أما عن "المرجعية التي تميزت التيارات الإسلامية بتبنيها في الأصل، فهي المرجعية الإسلامية، أو قل: هي الشريعة، بأحكامها الكلية والجزئية"، طبقا للمراكشي الذي أكد أنه "لا يمكن لمنتسب لهذه الحركة أن يقلل من شأن هذه المرجعية، فإن التيار الإسلامي لو فرط في مرجعيته الإسلامية، فما الذي يميزه عن غيره، وما فائدة وجوده في معترك السياسية أصلا؟".

العلمنة وجدل المرجعية

وبناء على ما سبق بيانه، فإن المراكشي خصص بابا كاملا "لمناقشة مدى التزام الحركة الإسلامية بهذه المرجعية، ومظاهر التزامها بمرجعية أخرى مناقضة، هي المرجعية العلمانية". ويتضح لقارئ الكتاب أن فكرة الكتاب المركزية تتمثل في كشف النقاب عن مستوى تراجع المرجعية الإسلامية - بدرجاتها المتفاوتة ـ لدى تلك الحركات، وفي الوقت نفسه إثبات جنوحها إلى مرجعية أخرى مناقضة لها ألا وهي المرجعية العلمانية.

ما هي صور الانفصام عن المرجعية الإسلامية؟ حددها الكتاب بصورتين متفاوتتين في الخطورة، مع اتحادهما في استدعاء المرجعية العلمانية، وإحلالها في الموضع الذي ينبغي أن تكون فيه الشريعة، والشريعة وحدها.. الصورة الأولى: تنحية المرجعية الإسلامية جزئيا، وهو ما أسماه "التجزيئ"، والثانية: تنحية المرجعية الإسلامية كليا، وهو ما أسماه "التنصل".

حينما ينتقل قارئ الكتاب ليطالع أمثلة صور انفصام الحركات الإسلامية عن مرجعيتها الإسلامية، يجد نفسه أمام حالات لا تعبر بصورة واضحة وكافية عما أراده الكاتب، فمن تلك الحالات انطلاق المؤلف مما أسماه "أبجديات العلمانية" والتي تعني "التفريق بين الالتزام الفردي بأحكام الدين، والتزام المجتمع والدولة بها؛ أو بعبارة أخرى: بين الدين القلبي الإيماني على صعيد الفرد خصوصا، وبين الدين في صيغته العملية المهيمنة على حياة المجتمع والدولة..".

بنى المراكشي على تلك الأبجدية من أبجديات العلمانية استخلاصه بأنه "قد تسرب هذا الفصل العلماني الشهير بين الأمرين بقبول الأول، ورفض الثاني إلى كثير من دعاة الإسلام، والتيارات الإسلامية العاملة مع رفضهم النظري للعلمانية. فما صحة هذا البناء الاستدلالي؟ وما مدى دقة تلك النتيجة؟

إن التفريق بين الأمرين اللذين ذكرهما المؤلف، ليس من صنيع الحركات الإسلامية ولا من قرارتها، حتى تلام على فعله، بل هو من إنتاج النظام العلماني ذاته، فكيف تلام الحركات على أمر لا يد لها فيه، ثم يتم إلحاقها في الحكم بالعلمانية، ولقارئ الكتاب أن يتساءل: من هي تلك الحركات التي تقبل بالتدين القلبي الإيماني الفردي، وترفض الدين في صيغته العملية المهيمنة على حياة المجتمع والدولة؟

من تلك التيارات الإسلامية التي ذكرها الكاتب باعتبارها فرقت بين الأحكام الفردية والجماعية "بعض التيارات السلفية خصوصا، فصار بعض مشايخ هذا التيار – مع إنكارهم العلمانية، وعدم انتسابهم إليها – لا يستنكفون عن التصريح بأن مهمتهم الدعوة إلى تصحيح عقيدة الأفراد وعباداتهم، وعدم الخوض في قضايا المجتمع والسياسية".. ليتساءل بعد ذلك: "أليس هذا تسللا علمانيا خفيا؟".

من حق مشايخ التيارات السلفية مناقشة الكاتب في حكمه عليهم، وسؤاله عن مدى انطباق ذلك التوصيف عليهم، فهم إنما يفعلون ذلك، ويسلكون تلك المسالك، بناء على فهمهم للدين، وترتيبهم للأولويات، فيشتغلون بما يرونه أولى من غيره، فتصحيح العقائد أولا، وترسيخ التوحيد هو المطلب الأول عندهم، ولا علاقة لذلك كله بما تقوله العلمانية وتروج له. 

وكذلك سيجادله أتباع التيارات الإسلامية الأخرى الذين وصف اشتغالهم بإصلاح القلوب، وتزكية النفوس، والتركيز على التخلق بالأخلاق الفاضلة، مع ابتعادهم عن الشأن السياسي، بأنه لون من ألوان التأثر بالعلمانية، أنهم إنما يفعلون ذلك انطلاقا من فهمهم للدين، ورؤيتهم أن هذه القضايا تحتل الصدارة في إصلاح المسلم الفرد، وإقامة المجتمع الإسلامي، فلماذا يُدرج عملهم ضمن دوائر التأثر بالعلمنة؟

تكاد جل الأمثلة والشواهد التي ساقها الكتاب للتدليل على دعوى تنحية الحركات الإسلامية للمرجعية بصفة جزئية، لا ترقى لمستوى إثبات ما ادعاه الكاتب، فأمثلته في أغلبها غير دقيقة ولا متماسكة في بنيتها الاستدلالية، ويمكن لمخالفيه الاعتراض عليها، ونقضها بحجج متينة، وأدلة قوية.

صور "التنصل" من المرجعية الإسلامية

في هذا المقام يتهم المؤلف حركات إسلامية بانسلاخها من مرجعيتها الإسلامية، بحيث يصبح السياسي (الإسلامي) "كائنا منضبطا في القوالب العلمانية الجاهزة، متجردا من كل خلفية فكرية شرعية"، موضحا أنه يعني بالتنصل في هذا السياق "تنحية المرجعية الإسلامية خلال الممارسة السياسية، ويتخذ ذلك مراتب متفاوتة الخطورة، تمتد حتى تصل إلى حالة الذين يزيلون هذه المرجعية مطلقا من خطابهم". 

ولبيان حالة "التماهي بين الخطاب السياسي لهؤلاء وبين الخطاب العلماني المهيمن" كما يراها المؤلف، نقل عن عبد الله بوانو، رئيس الفريق البرلماني لحزب العدالة والتنمية المغربي قوله: "لا بد من التمايز في المجالات والرموز والخطاب.. لأنه ليس مطلوبا مني أنا باعتباري سياسيا استحضار الآيات في ممارستي السياسية، بقدر ما أنا مطالب بتطبيق القانون والتشريع".

ووفقا للمراكشي فإن "المسالك الخطيرة لهذه الصورة تتجلى في اتجاهين اثنين: أولهما: عدم الإفصاح عن المرجعية الإسلامية، والاكتفاء بفهم الناس وتصنيفهم، المأخوذ من بعض الإشارات والقرائن. والثاني: تغليف المرجعية الإسلامية بمقولات علمانية مائعة، يتستر الناشط الإسلامي وراءها، ويحتمي بها من النقد الفكري أو البطش المادي". واصفا الأول بأنه ستر للحق، والثاني بالتلبيس على الخلق.  

انتقد المؤلف تلك الحركات الإسلامية الممارسة للعمل السياسي بأنها لا تفصح عن مرجعيتها الإسلامية بوضوح، معتبرا ذلك في بعض صوره تنصلا من المرجعية الإسلامية، ما يطرح سؤالا إشكاليا: هل مجرد الإفصاح عن المرجعية الإسلامية بوضوح يكسب تلك الحركات صفة "الإسلامية" في ممارستها السياسية؟

ألا يمكننا العثور على حركات إسلامية أعلنت عن مرجعيتها الإسلامية بقدر كبير من التشدد، كحزب النور المصري؟ لكنه مع إعلانه لتلك المرجعية بكل وضوح، تلبس بممارسات سياسية منكرة ومسترذلة، فهل معيار التقييم هو مجرد الإعلان والإفصاح كما يطالب المؤلف؟

ولا يستريب أحد أن الحركات الإسلامية حينما لا تعلن عن مرجعتيها الإسلامية بشكل واضح، فإنما تكون تحت هواجس الواقع وإكراهاته وضغوطه، وبطش الأنظمة البوليسية وجبروتها ما يجبر تلك الحركات على سلوك تلك المسالك، بحثا لها عن موطأ قدم لها هنا أو هناك، تحمي به نفسها من القمع والاضطهاد والملاحقة القانونية والبوليسية الباطشة.  

مظاهر الاختراق العلماني وآفاق العلاج

أكد المراكشي في معرض شرحه وبيانه لتسلل العلمانية إلى داخل الأمة الإسلامية، أن آخر "المعاقل التي كانت مستعصية على التأثر إلى عهد قريب" على التأثر بالعلمنة قد تم اختراقها، ويعني بها الحركة الإسلامية، مبديا قلقه الشديد "من حجم التغلغل العميق للمنطق العلماني" بين بعض أبناء هذه الحركة، رغم استمرار بعض المظاهر الإسلامية الظاهرة.

وبين المؤلف أن لهذا "التغلغل مستويات متراكبة، بعضها أعمق من بعضها الآخر، تبدأ من الاختراق المعرفي العميق، وتنتهي بالاختراق الأخلاقي السطحي الظاهر، وتمر عبر مستوى تلفيقي يتبنى عملية التبرير الشرعي للفكرة العلمانية المخترقة".

واهتم الكتاب بشكل مركز بنموذج الداعية طارق رمضان، المصري الأصل، والمقيم في أوروبا، معتبرا نموذجه يقدم (علمانية صريحة بثوب إسلامي)، وركز في نقده على جملة من الأفكار والمقولات التي يدعو إليها رمضان، كخطئه في تعريف العلمانية والديمقراطية، ومفهوم الهوية المتعددة (الإسلام الغربي)، وتسويته بين الإسلام وغيره، وتوفيقه بين الوطنية والدين، ومناداته بتجديد أصول الفقه.

كما انتقد الكتاب مسالك بعض الحركات الإسلامية، وتمييعها لأحكام الشريعة في قضايا الجهاد والعلاقات بين الدول، ورأيها بإلغاء جهاد الطلب، وعدم تحريرها وضبطها لجملة من المفاهيم كالحرية والمساواة، وتركيزها على تاريخية النص، والمقاصد الكلية للشريعة، ونزع القداسة عن الديني، معتبرا ذلك كله من مظاهر الاختراق العلماني، وتسلل العلمانية إلى الداخل الإسلامي.

في نهاية الكتاب وتحت عنوان "آفاق العلاج"، يدعو الكاتب الحركات الإسلامية إلى أن "تحقق لأبنائها نوعَ عزلة تحميهم من أثر العلمانية، وتحفظ عليهم دينهم من الانحراف والتميع.."، مبينا أنه يريد بذلك ما أسماه المفكر سيد قطب بـ"العزلة الشعورية"، وكذلك حذر تلك الحركات "من الانفتاح الفكري غير المنضبط"، داعيا تلك الحركات إلى الاهتمام بالعلم الشرعي وتعليمه، وضرورة المحافظة على صفتها ومرجعيتها الإسلامية. 

لن تستطيع الحركات الإسلامية الممارسة للعمل السياسي، النأي بنفسها عن تداعيات ضغوط الواقع وإكراهاته المختلفة، والتي قد تندرج في دائرة الضرورة والاضطرار كما يصنفها فقهاء تلك الحركات، في الوقت الذي يصفها آخرون باختراقات علمانية تسللت إلى معاقل تلك الحركات، كما فعل المؤلف المراكشي في كتابه هذا، لكن معطيات الفكر والواقع تشير إلى أن نموذج الدولة الحديثة لا يصلح محلا لتطبيق الشريعة، وإقامة الدولة الإسلامية التي تتوق إلى إقامتها تلك الحركات. 

* الكتاب صدر عن مركز تفكر للدراسات و الأبحاث 2015

الثلاثاء، 12 يناير 2016

هي جريمة امريكا وايران قبل ان تكون جريمة للميلشيات الشيعية العميلة

الشيهد سيف طلال 


Crimes of Shiite militias in Iraq , the execution of a journalist. A country without law . This Iraqi government : industry is in the US and Iran

جرائم المليشيات الشيعية في العراق، إعدام الصحفي. بلد بدون قانون. هذه الحكومة العراقية صناعة  الولايات المتحدة وإيران

الاثنين، 11 يناير 2016

منافسات المقابر الجماعية في العراق / هيفاء زنكنة

Crimes of Shiite militias in Iraq


استقبل أهالي مدينة تكريت، محافظة صلاح الدين، في العراق، العام الجديد، باعلان القوات الأمنية العثورعلى مقبرة جماعيّة تضم 46 شخصاً.. ولا يزيد عمرها عن الأربعة أشهر». وهو أعلان، كان من الممكن ان يساعد اهل الضحايا على معرفة مصير احبائهم المفقودين، لو تم التعامل مع الحدث المأساوي بشكل انساني يكرس الحقيقة. إلا ان التعامل مع هذه المقبرة، كما أثبت مسار التعامل مع عشرات المقابر التي تم العثور عليها منذ غزو البلد عام 2003 وحتى اليوم، لن يتعدى الجانب الإعلامي والتقاط الصور وعقد المؤتمرات الصحافية، وتجريد الحدث من أي لمحة انسانية عبر تجييره، سياسيا، لصالح هذا الحزب أو ذاك. 
وبدت ملامح نسيان الضحايا وأهاليهم واضحة، حالما عثر على المقبرة. اذ اعلن مسؤول في اللجنة الأمنية في مجلس المحافظة، أنّ «الجثث نُقلت إلى وحدات الطب العدلي، لأجل تحليلها ومعرفة هويات أصحابها». بينما سارع عضو مجلس المحافظة، أحمد الجبوري، بدلا من انتظار نتائج التحليل، إلى اتهام تنظيم «داعش». في ذات الوقت الذي لم يستبعد فيه، عضو مجلس عشائر صلاح الدين، الشيخ محمود أنّ «تكون المقبرة من ضحايا الميليشيات التي لم تقل جرائمها عن جرائم داعش». ولأن تكريت كانت لفترة تحت سيطرة داعش زمنا، قامت خلالها بحملات اعتقال وخطف وتصفيات، ثم أصبحت تحت سيطرة ميليشيات «الحشد الشعبي» زمنا آخر، نفذت خلالها حملات اعتقال وخطف وتصفيات، بات تشخيص القتلة، ناهيك عن تقديمهم للعدالة، في جو يهيمن عليه الخوف والأكاذيب والتهويل والمبالغات والتدليس السياسي، أمرا غير مرغوب فيه.
وكما يتضح من كيفية التعامل مع قضية المقابر الجماعية، على ضبابية تعريفها، لم يبذل النظام اي جهد لكشف حقيقتها، سواء من ناحية عدد المقابر، ومواقعها، وحقبتها الزمنية وهوية الضحايا وعددهم، ومن المسؤول عنها، على الرغم من كون المقابر الجماعية واحدة من الأسباب التي طالما استخدمت لادانة النظام السابق، وحث المجتمع الدولي على التخلص منه، لتحقيق العدالة للضحايا والمظلومين من الشيعة والكرد ( مما استثنى السنة وجعلهم، بالنتيجة، من المسؤولين عن المقابر). فرئيس الوزراء البريطاني توني بلير أوصل رقم ضحايا نظام صدام حسين، في المقابر الجماعية إلى 400 ألف. مستندا إلى صحيفة حقائق أصدرتها الادارة الأمريكية، وكررها الرئيس الأمريكي بوش. زايد عليهما اياد علاوي، كما لو كان في مزاد علني، ليوصل الرقم إلى مليون، فتمت مكافأته، بعد الغزو، بتعيينه رئيسا للوزراء. ولم يتوقف يوما لذكر ضحايا نظامه والاحتلال، خاصة في الفلوجة. وأعلنت منظمة «هيومان رايتس ووتش» الدولية، ان عدد الضحايا هو 390 ألفا، وهو تقديري كما اعترفت هانيا المفتي، الباحثة في المنظمة: «استندت تقديراتنا على التقديرات. واستند هذا الرقم في نهاية المطاف في جزء منه على معلومات ظرفية جمعت على مدى سنوات». كما تنصلت الحكومة البريطانية (الغارديان 18 تموز 2004) من تصريح بلير، خاصة، بعد ان أثبت تحقيق استقصائي لصحيفة «الأوبزرفر»، حجم تضخيم الارقام واستخدامها من قبل الساسة في أمريكا وبريطانيا بالاضافة إلى المتعاونين معهم من العراقيين، اثر الغزو، لتغطية اكذوبة اسلحة الدمار الشامل. 
ادت حملات التضليل الإعلامية ونبش القبور والتقاط الصور لمسؤولين يقفون على حافات حفر، متناثرة، في ارجاء العراق، ومن ثم ترك المواقع، مهما كانت هوية المدفونين وعددهم، بلا حفظ او حماية للأدلة، إلى تشويه قضية المفقودين الانسانية وتجيير معاناة اهاليهم لأغراض دعائية سياسية مبتذلة، والى تغييب الحقيقة. الأمر الذي ينعكس على بنية المجتمع ليمد جذور التقسيم العرقي والديني والطائفي حيث أصبح «أنا» البريء و»الآخر» هو المتهم. وهي مسألة خطيرة الابعاد لأنها تشرعن الحقد والانتقام والقتل. فالبحث عن الجناة ومقاضاة المسؤولين ومعاقبتهم وتعويض اهالي الضحايا هو صلب العدالة الانتقالية وتنقية الاجواء والمصالحة. ولتحقيق ذلك، لسنا بحاجة إلى المبالغات وتوجيه التهم الجاهزة. كلنا يعلم ان نظام صدام حسين ارتكب الجرائم ضد شعبه ولم يسلم حتى أهله، ولكن.. ماذا عن مقابر المحتل وحكوماته المتعاقبة؟ كيف نصف المقبرة الجماعية إذا كانت تضم رفات الجنود الذين قاتلوا الغزاة؟ والمقابر التي تضم رفات الجنود المنسحبين من الكويت عام 1991؟ وضحايا الاعدامات الجماعية في معتقلات وزارات الداخلية والعدل والدفاع برعاية نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق (حزب الدعوة)، بالاضافة إلى ضحايا الميليشيات وداعش؟ هذه الضبابية الناتجة عن تشويه الحقيقة تنقلنا إلى سؤال أكثر الحاحا وهو : كيف يتم التعامل مع ذوي الضحايا؟ هل ينظر إلى الضحايا، عبر الحقب، باعتبارهم شهداء وبالتالي تتوجب توفير الرعاية والتعويضات لذويهم؟ 
لا مجال للتفاؤل في هذا المجال. فالجنود الذين قاتلوا في الحرب العراقية الإيرانية وأعتبروا شهداء، في حينها، خلعت عنهم صفة الشهادة وما يترتب عليها من اعانة لعوائلهم مع مجيء النظام الموالي لإيران. وتم تشريع قانون « حماية المقابر الجماعية» الصادر في 12 آذار 2006، الذي يحصر صفة الشهيد بضحايا النظام السابق. الأمر الذي دفع عبدالستار رمضان روزبياني، وهو نائب مدعي عام سابق، وبالتأكيد ليس داعشيا أو من أزلام النظام السابق، إلى التساؤل: «فما هو الموقف لو اكتشفت مقابر جماعية حديثة أي حدثت بعد 9 نيسان 2003 أو انه قد ارتكبت من أحزاب أو جماعات أومن قبل القوات الأمريكية أو حتى من قبل قوات محسوبة على الحكومة العراقية فما هو الحكم والمركز القانوني للضحايا أو الشهداء؟»
ان سياسة توجيه التهم الجاهزة وعدم التحقيق في هوية الجناة ومقاضاتهم بعد جمع الأدلة سيكرس الطائفية السياسية والعرقية بابعادها الانتقامية الوحشية بينما يمنح المحتل صك الغفران على كل ما ارتكبه وساهم في خلقه.

الاثنين، 4 يناير 2016

لأوهام الانتصار على داعش آلاف الآباء


هيفاء زنكنة / كاتبة عراقية 



حين نرى مدينة الرمادي التي أصبحت كتلة من الخرائب ببيوتها، ومبانيها الحكومية، وجوامعها، ومدارسها، وننظر بدقة لنميزها مما تبقى من المدن السورية، ومن قبلها مدينة الفلوجة، نرى مناظر الخراب الشامل في اليوم التالي « للقيامة»، كما تقدمها استديوهات هوليوود، في أفلام تحتل المرتبة الأولى، في شباك التذاكر، أمريكيا وعالميا، ويسارع الناس لمشاهدتها لأنها تمثل عالما غرائبيا، يسليهم ولا يمسهم. فالخراب الشامل، كخلفية لصعود البطل الامريكي القاهر، المنتقم، ثيمة هوليوودية مفضلة، تقع أحداثها في البلدان التي احتلتها أمريكا وحلفاؤها عسكريا، كما في فييتنام والعراق، الى ان أستلتها وقلدتها بتقنيتها العالية، الدولة الاسلامية. فهل هي آلة تصنيع وانتاج الموت تتحدى المخيلة، لتعيد انتاج الاحداث المرعبة، بأشكال وتنويعات تلائم مكانا وزمانا محددا، أم انها الاحداث الترويعية، مثل وجبات ماكدونالد السريعة، تقذف على الشعوب قذفا فلا يستطيعون مجاراتها؟ ما الذي يبقى من مدن تتعرض، يوميا، لقصف احدث الطائرات الامريكية، تحت راية التحالف الدولي الستيني، والذي قيل تبجحا انها بلغت 650 غارة على الرمادي وحدها، منها 150 غارة اثناء الهجوم الأخير، يضاف اليها البراميل المتفجرة لحكام يستقتلون لمحاكاة « الشيطان الأكبر» بدعوى محاربته؟ 
ما الذي يبقى من الانسان وهو يتلقى جرعات السموم جسدا وبيئة ومجتمعا؟ وكيف نتعامل مع الحياة والأمل بالمستقبل والموت الأسود، يفترس أهلنا ويغدر بالاحياء، وأن رفعوا رايات السلام البيضاء؟ هل يساعدنا اعادة تعريف المفاهيم كالوطنية، الخيانة، العمالة، الارهاب، والانتصار العسكري، على فهم ما يحيط بنا من جنون عبثي؟ 
كيف نصف اعلان الانتصار على مدينة بدأت سياسة مسحها وسكانها عن الوجود، منذ الغزو الأنكلو أمريكي في 2003، وليس كما يشاع ويرسخ كحقيقة الآن، منذ سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية قبل سبعة أشهر على المدينة، وزعماء العالم المسؤولون، بشكل مباشر وغير مباشر، عن ولادة التنظيم، يصفقون ويهللون، ويتبادلون التهاني لتحريرهم المدينة منه؟ الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني والكندي ووزراء الدفاع والأركان، في جميع انحاء العالم، عبروا عن فرحهم بالانتصار، والذي هو بالحقيقة نزيف دم عراقي مهما كان اسم الجهة المقاتلة. يقولون إنه انتصار للتحالف الدولي بقيادة أمريكا. حيدر العبادي، رئيس الوزراء، يقول إنه انتصار الجيش. ميليشيا الحشد الشعبي تدعي انه لولاها لما تم الانتصار. رئيس الوزراء الفرنسي وصفه بأنه الانتصار الأكبر.
في الرمادي، بين الخرائب، صار للنصر آلاف الآباء. لم يتحدث زعماء العالم عن محو 80 بالمئة من الرمادي، ومن قبلها 70 بالمئة من الفلوجة بيد قوات الاحتلال الامريكي والبريطاني، وليس تنظيم الدولة الاسلامية. عن معاملة الأهالي كرهائن سواء من قبل قوات الاحتلال أو الدولة الاسلامية أو النظام العراقي الذي بزها في ارهابه وترويعه وتهجيره المدنيين. المدن « المحررة» سابقا مثالا يحتذى. 
يقول يان كوبيش، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، واصفا المناطق المحررة: « هناك في المناطق التي تم تحريرها من سيطرة داعش تقارير تفيد بحصول اعتقالات عشوائية، وعمليات قتل، وتدمير ممتلكات، وتقارير متزايدة، أيضاً، عن جهود لتغيير التركيبة السكانية لتلك المناطق على نحو قسري». 
أين يمضي الهاربون من جور تنظيم الدولة ونازحو المدن – الخرائب « المحررة» اذن؟
يشير تقرير أصدره، مركز جنيف للعدالة، بعنوان « العراق: معارك الانبار، سياسة الأرض المحروقة والابادة الجماعيّة « الى معاناة النازحين الكارثية : « لقدّ عانى المدنيون في مدن الانبار اسوأ معاناة وتمثل جزءاً منها في عدم السماح حتى للفارين منهم الدخول الى بغداد في رحلة البحث عن مكان آمن. ومارست السلطات سياسة طائفية واضحة اكدنا في اكثر من مناسبة انها سياسة تطهير طائفي ممنهجة وموجهة تحديداً ضد سكّان مناطق بعينها تهدف الى تشريدهم قسرياً وحرمانهم من العودة الى مناطق سكناهم بعد مذابح جماعية ترتكبها ضد من لا يتمكن من الهروب». 
هذا هو أحد جوانب « انتصار» النظام الذي يصفق له العالم الغربي بازدواجية معايير تزداد اسفافا، يوما بعد يوم. وهو الجانب الذي تؤكد كل التقارير الحقوقية، والانسانية، العراقية والدولية، على وجوب ايجاد حل جذري له. يقول يان كوبيش : « لا يمكن هزيمة داعش بالوسائل العسكرية، فقط، دون معالجة الأسباب الجذرية للعنف والفكر الذي يستند إليه التنظيم… فالفوارق، والحرمان والظلم وعدم المساواة تخلق إستياءً مشروعاً، ولا يمكن معالجة هذه الشواغل وغيرها إلا من خلال مشاركة متساوية، وتشمل الجميع في العمليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية، إستناداً على مبدأ الحقوق المتساوية والمساءلة والعدالة للجميع «. ويشير مركز العدالة الى انه كان بامكان السلطات العراقية ان تسلك طريق الحل السلمي للاوضاع قبل اللجوء الى الحل العسكري « فقد تظاهر الملايين من ابناء المناطق المهمشة، سلميا، منذ كانون الأول/ديسمبر 2012، مطالبين بحقوقهم المشروعة الا انهم جوبهوا بالرفض واتهم كل من شارك في التظاهرات، بانه ارهابي». 
ويرى المركز ان الأمم المتحدّة تتحمل واجباً اخلاقياً وقانونياً بضرورة تشكيل لجنة تحقيق، دولية، مستقلة للتحقيق في الجرائم وتقديم المسؤولين عنها للعدالة، والعمل الفوري والجادّ لإيقاف مسلسل الدمار في البلد والذي يتحمل الاحتلال الامريكي المسؤولية الأولى عن كل ما جرى ويجري فيه منذ عام 2003. 
ان سبب اقتباسي لهذه التقارير هو اعتقادي بان الحلول السلمية لما يجري في العراق غير مستحيلة ومطروحة بشكل واضح اذا ما توفرت النية الوطنية عراقيا واحترام القانون دوليا. واذا ما أريد للعراق ان يبقى بلدا موحدا، يتمتع فيه الجميع بالعدالة وحقوق المواطنة بعيدا عن الانتقام والاحباط والتطرف. عدا ذلك، سيبقى الحديث عن المصالحة والقضاء على الارهاب مجرد هراء.