الأحد، 23 نوفمبر 2014

يتحدثون عن المصالحة في العراق / وليد الزبيدي

المصالحة من بين المصطلحات الكثيرة التي تداولها ساسة العراق واستمع إليها العراقيون دون أن يتحقق شيئ على ارض الواقع، فعندما شرع بول بريمر في بداية يوليو 2003 في تشكيل مجلس الحكم الانتقالي في العراق، بعد شهر ونصف الشهر من وصول الأخير لبغداد خلفا للحاكم العسكري الأميركي جي جارنر، الذي وصل بغداد قادما من الكويت بعد الغزو مباشرة، ترددت لفظة المصالحة في الاوساط العراقية، وقال الكثيرون أن تشكيلة مجلس الحكم تعكس مجموع اطياف المجتمع العراقي، ما يعني وضع لبنات رصينة للمصالحة في العراق ـ هكذا زعموا ـ ورغم الحديث الواسع إلا أن أحدا لم يضع تعريفا دقيقا وشاملا وموضوعيا لهذا المصطلح، في بلد ظل يئن تحت ضربات الحصار القاسي يوميا ولأكثر من عقد من الزمان، وأن شعبا ما زال يستنشق مرغما بارود الحرب التي استخدم خلالها الأميركان والبريطانيون مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، وأن الإنسان العراقي يرزح تحت ثقل الغزو والاحتلال ، وأن الذين يتسابقون للترحيب بالمحتلين إنما يخالفون بذلك جميع المباديء والقيم والاعراف، وأن الغيوم السود المعلنة والخفية تزحف في سماء العراقيين وتغرق حياتهم بالمجهول.
لكن المصالحة تصدرت الواجهات الشعارية دون غيرها.
عندما غادر بريمر في 28 يونيو بغداد في اجواء مدلهمة بسبب تدهور الأوضاع الأمنية حينذاك، ربط الكثيرون بين ما اسموه بانتقال “السيادة” للعراقيين ومسألة المصالحة التي لم يتحقق شيئ منها في ظل مجلس الحكم، وظهر “سياسيون ” كثر مخاطبين العراقيين ومبشرين ب”حقبة ” وردية جديدة، وحجتهم في ذلك أن السلطة قد انتقلت فعليا وعمليا وجوهريا من الكرسي الأميركي إلى العراقيين، وتم تكريس الخطوات الاولى لتشكيل الأجهزة الأمنية على أساس طائفي ودفع الأجهزة الأمنية على ممارسة العنف ضد العراقيين وارتكاب الانتهاكات بحق كل من يشتبه بتصديه للقوات المحتلة، فوق ذلك تم توجيه جهد هذه القوات لحماية القوات الأميركية على حساب أمن الوطن والمواطن، وانتهت حقبة انتقال السيادة لتكون حصيلتها اعتقال آلاف العراقيين ومطاردة الكثيرين، والشروع في تكريس الفساد المالي والاداري، دون أن يتحقق أي شيء من ” المصالحة ” المزعومة.
في الحقبة الثالثة، وبسبب تدهور اوضاع القوات الأميركية في العراق وحرص الدول الغربية والعربية وإيران على انجاح العملية السياسية، فقد تم العمل على عقد مؤتمر للمصالحة، اطلق عليه مؤتمر ” الوفاق ” وعقد في مقر جامعة الدول العربية ( 19 إلى 21 نوفمبر عام 2005)، وشاركت فيه شخصيات مستقلة وقوى عراقية مناهضة للاحتلال والعملية السياسية، وطرحت هذه القوى شروطها للدخول في العملية السياسية، وكانت خلاصة تلك الشروط، التخلص بالكامل من الغزو والاحتلال وتداعياته وتخليص العراقيين جميعا من شرور ذلك وتبعاته.
لكن ذلك لم يرق للحكوميين والسياسيين والطامعين في العراق وشعبه وثرواته وناسه، فتنصل الحكوميون عما توصل إليه المؤتمر.
وفي يوليوعام 2007 تم عقد اجتماع آخر في جامعة الدول العربية ايضا، ولم يتحقق منه شيئ.
بعد ذلك، لم يسمع العراقيون إلا أحاديث وتصريحات عن ” المصالحة”.

لم نستطع خلق جيش عراقي فعال في عشر سنوات. كيف سنفعل ذلك هذه المرة؟

هذه وجهة نظر الكاتب وهو لا يدين جريمة احتلال العراق لكنه يكشف عن نقطة مهمة وربما دون قصد لماذا تم تدمير العراق وليس الفشل في انقاذه 



لقد شاهدنا بـ رهبة اندلاع "الربيع العربي" في نهاية عام 2010. كانت شجاعة مدهشة من قبل المحتجين عبر العالم العربي في خروجهم على أنظمة سلبت المنطقة من خلال أقوى أسلحتها: وهو الخوف.
الناس لم يعودوا خائفين . أما في العراق اليوم، فاننا نرى عكس هذه الظاهرة في صفوف الجيش العراقي - السلاح ذو التأثير الكبير الذي تستخدمه ما تسمى الدولة الإسلامية ضدهم هو الخوف - من خلال وحشيتها التي لا توصف.
فانه مجرد ذكر أن قوات "الدولة" قادمة على الطريق السريع يكون كافيا لضباط ومراتب الجيش العراقي ليلوذوا بالفرار، كما فعلوا في الموصل في يونيو حزيران. حيث ان الاختطاف الجماعي والمجازر من قبل "الدولة" هي رسالة يحسب لها لدى الجيش العراقي حول المصير الذي ينتظرهم لذا يجب أن يجدوا الجرأة في الصمود والقتال.
ان ذلك الخوف وعدم قدرة القيادة التي يعصف بها الفساد لابقاء امدادات قواتها كافية، هذا كله من غير المحتمل أن يتغير في وقت قريب.
وعليه ماذا يستطيع 3000 "مستشار" أمريكي، ناهيك عن بضع مئات من الاستراليين، القيام به لجعل الجيش العراقي الذي لا يريد القتال، أن يقاتل؟
في ما يبدو للتأكيد على أن القوات الخاصة الاسترالية وصلت أخيرا الى العراق، قال رئيس الوزراء البريطاني توني أبوت: "الدولة" أعلنت الحرب على العالم ... لذلك فمن المهم الرد بقوة، وهو ما تقوم به قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة.... لدينا أولوية في الوقت الراهن هو وصول قواتنا الخاصة الى بغداد ومن ثم الى الميدان في مهمة المشورة والمساعدة التي كانت اعدت لذلك ".
من المضحك أن الحصول على فوز معين على الأرض لم يكن من أولويات حكومة بغداد. حيث تم تأجيل عملية نشر القوات التي تنتظر في الخليج منذ سبتمبر وكان من المفترض ان زيارة وزيرة الخارجية الاسترالية جولي بيشوب في الـ 18 من أكتوبر إلى بغداد قد مهدت الطريق لوصول القوات الاسترالية - ولكن بعد ذلك نقرأ أن بغداد تتباطأ في إصدار التأشيرات لهم.
في حين ان واشنطن تنفق ما يزيد عن 60 مليار دولار سنويا للحرب في العراق، فإنها ستساهم (مكرهة) أيضا بـ 25 مليار دولار لإعادة بناء وإعادة تدريب الجيش العراقي بعد أن قررت أنها ستكون فكرة عظيمة حل الجيش بعد غزوها البلاد عام 2003 . وان ذروة التزام القوات الاسترالية للأمن والتدريب في محافظة المثنى، كان هناك 1400 فرد استرالي على الأرض.
نحن الآن مطلوب منا ان نعتقد بأننا بعد أن فشلنا في تقديم قوة قتالية مع كل هذه الاموال ومع 10 اعوام لاعطائها الزخم، أنه بطريقة ما سوف تكون هذه القوات قادرة على القيام بذلك، مع مساعدة عدد أقل من الاستراليين، في أقل من 10 أشهر ناهيك عن عشر الميزانية الأصلية.
وفي قول أبوت "من المهم الرد بقوة" خطاب يثير تساؤلات أخرى.
وقد نوه أبوت كثيرا الى ان "الحرب ستكون على عاتق العراقيين" و "لا أحد سيقاتل بحق من أجل العراق سوى العراقيين". ان فشله في لفظ كلمة "الجيش العراقي" فتح المجال للتحليل في واشنطن هذه الأيام حول لماذا لا تستجيب الولايات المتحدة بقوة كما يستوجب النزاع في سوريا والعراق.
وخلاصة ذلك هو : ان واشنطن لا تشن غارات جوية على نظام بشار الأسد الديكتاتوري لأنه حليف للنظام الإيراني، والذي يمكنه الحصول على دعم الميليشيات الشيعية التي ترعاها المؤسسة في العراق كقوة أمنية وطنية بديلة لتحويل النار على الاميركيين، لذلك لن يكون من الصواب إبرام اتفاق نووي مع طهران ومن ثم تطويع الايرانيين كحليف أكثر فائدة في تحقيق الاستقرار في المنطقة التي هي في حالة من الفوضى
ربما سيكون من المفيد للاستراليين الذين يتساءلون لماذا يجب علينا خوض هذه الحرب لو كان رئيس الوزراء يعالج هذه القضايا بدلا من الانجرار إلى الخطاب حول ما نعلمه جميعا - هو ان الدولة الاسلامية شيء بغيض.
تقارير مترجمة....
ترجمة : د. أيمن العاني
يقين نت + سدني مورننج هيرالد

الأحد، 16 نوفمبر 2014

محملة حكومة العبادي مسؤوليتها..الهيئة تستنكر الجرائم الوحشية التي يتعرض لها العراقيون




تصريح صحفي

    تتعرض منطقة الكراغول التابعة لناحية يثرب بمحافظة صلاح الدين إلى جرائم وانتهاكات تعسفية تمثلت بالاعتقال والقتل والتهجير وتفجير المنازل وقتل المواشي وسرقتها، حيث أقدمت قوات الجيش الحكومي وميليشيات الحشد الطائفي أول أمس -حسب شهود عيان-على قتل تسعة أشخاص ودفنهم في حفرة واحدة، واعتقال نحو (100) شخص من أبناء المنطقة واقتيادهم إلى جهة مجهولة، ومصيرهم إلى الآن مجهول.
    إن هيئة علماء المسلمين إذ تدين هذه الجرائم الطائفية النكراء التي تأتي في سلسلة من الجرائم المماثلة التي تستهدف قرى ومناطق ومحافظات بعينها بدوافع طائفية مقيته؛ فإنها تحمل حكومة العبادي المسؤولية الكاملة عنها، وتنبه العالم أجمع على بشاعة جرائم الحكومة وميليشياتها واستخفافها بدماء العراقيين، وتدعو الأحرار في العالم إلى التدخل لوقف استباحة الدم العراقي وامتهان كرامته في بلده وسلب أمنه وممتلكاته. 


قسم الثقافة والإعلام
22 محرم/ 1436هـ
15/11/2014م 

علاقات واشنطن وطهران: الديكور والكاريكاتور


صبحي حديدي


«لا يمكن، بأي حال، أن نقبل بصناعة نووية ديكورية وكاريكاتورية»، هكذا صرّح علي شمخاني، الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني، تعليقاً على مستجدات ملفّ المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني؛ واستباقاً لجولة العاصمة العُمانية مسقط، التي جمعت وزيرَي خارجية إيران وأمريكا وكاترين أشتون مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. كان شمخاني يعلّق، أيضاً، على الرسالة التي تلقاها علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، من الرئيس الأمريكي باراك أوباما؛ والتي ظلت سرّية حتى قرر البيت الأبيض تسريبها إلى صحيفة «وول ستريت جورنال»: هذه ليست المرّة الأولى، قال شمخاني، وقد تولّت إيران الردّ على بعضها في حينه، وبما يناسب.
والحال أنّ منطقة رمادية، وبالتالي غامضة أو مسكوتاً عنها، تظلّ كامنة في تصريحات شمخاني، وعلى محورَين: ما الذي تعتبره طهران ديكورياً، بالضبط، وما الذي تراه نقيضاً للكاريكاتور النووي، في مستوى عدد أجهزة الطرد المركزي مثلاً: 4000، كما تقبل أمريكا وأوروبا؛ أم ذلك العدد اللامحدود، والبعض يلمّح إلى 19.000، الذي يمكن أن تقبل به إيران؟ المحور الثاني يخصّ الديكور والكاريكاتور في الثمن الذي ستقبضه إيران (أو سوف تضطر إلى سداده، سواء بسواء) لقاء التوصل إلى اتفاق نهائي بحلول موعد 24 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي: على صعيد دور سياسي إقليمي لإيران، هو جوهر رسالة أوباما إلى خامنئي؛ ثمّ، والأهمّ ربما، على صعيد تخفيف العقوبات المفروضة على طهران، ورفع بعضها نهائياً، في ضوء هيمنة الجمهوريين على مجلسَي الشيوخ والنواب في أمريكا، جرّاء الانتخابات التكميلية الأخيرة.
الأيام القليلة القادمة كفيلة بجلاء الكثير من الغموض في مواقف إيران، سواء تلك الرمادية التي تصدر عن شمخاني (بعد أن صدرت، مراراً وتكراراً، عن سلفه سعيد جليلي)؛ أو الواضحة، القاطعة، التي تصدر عن رجالات خامنئي الموثوقين، خاصة حين تكون التصريحات مسلّحة بمزيج من شبه الفتوى وشبه التكليف الشرعي! وفي انتظار مستجدات أوضح، على جبهة التفاصيل التقنية الصرفة التي يتولاها فنّيون محترفون، وتدور خلف الأستار وفي الكواليس؛ يبقى أنّ الرابح، الواضح، الأوّل هو سلطنة عُمان التي رعت جولة مسقط، ولم تتوقف عن رعاية جولات ترطيب دائمة في العلاقات العربية ـ الإيرانية؛ من منطلقات شتى، مبدئية ثابتة أو نفعية عابرة، لكنها تظلّ براغماتية وبالمعنى الذرائعي الأعرض والأكثر مرونة.
وفي المقابل، وحتى إشعار آخر، رمادي تماماً بدوره، تظلّ المملكة العربية السعودية (التي تركها أوباما في العتمة، فلم يطلعها على مكاتباته مع خامنئي) في موقع المستقبِل السلبي لنتائج جولة مسقط، أسوة بالجولات التالية، واحتمالات التوصل إلى اتفاق بين إيران ومجموعة الخمس (أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين). وحين تخسر الرياض في هذا الملفّ، إذْ يصعب أن تكون فيه رابحة بأيّ معنى جيو ـ سياسي ملموس؛ فإنّ الخسارة سوف تتجاوز حدود مصالح الرياض المباشرة القريبة، لتشمل مصالحها الإقليمية الأبعد، على نقيض ما ستفوز به طهران إذا تمّت الصفقة.
ثمة، أيضاً، انتظار من طراز آخر يخصّ نفخ الحياة في العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية، على مستوى تجاري بادىء ذي بدء؛ على غرار مباحثات، نصفها سرّي ونصفها علني ومعظمها مسرّب مفتضَح، تشهدها باكو، عاصمة أذربيجان، حول افتتاح مكتب تجاري أمريكي في طهران، سوف يكون صيغة التواصل الدبلوماسي الأولى منذ اقتحام السفارة الأمريكية، سنة 1979. وحين يتصل الأمر بالاستثمار والتجارة، فإنّ الديكور لا قيمة له إلا من حيث المظهر والزخرف؛ ومثله الكاريكاتور، الذي يسخر قليلاً من جشع المال وطمع الأعمال، ثمّ ينطوي ويذهب أدراج الرياح!


الاثنين، 10 نوفمبر 2014

ديفيد فيشر متسائلاً: الحروب العادلة وغير العادلة


  
قصي الحسين

التنويه بكتاب «الأخلاقيات والحرب» لديفيد فيشر (ت: فبراير 2014) إنما يرجع لأسباب أكاديمية وجيهة تأخذ بعين الاعتبار أولاً: اختصاص المؤلف في مجال دراسات الحرب من كينغ كوليج بلندن وتدريسه فيها، وكون هذا الكتاب قد حصل على جائزة دراسات الحروب في العام 2013، أي قبل عام واحد على وفاة مؤلفه. وتالياً: إن المؤلف كان قد تقلب في مناصب رفيعة بوزارتي الدفاع والخارجية البريطانيتين، وعمل مستشاراً في رئاسة الوزراء مستشار دفاع للمملكة المتحدة بحلف شمال الأطلسي (ناتو) وكذلك مستشاراً عسكرياً في الحلف نفسه. وقد كانت له فعالية في رئاسة «مجلس المقاربات المسيحية للدفاع ونزع السلاح، وفي تقديم بحوث دورية تتصل بقضايا الدفاع والأخلاقيات. وأما المترجم عماد عواد، فقد اشتهر بأطروحته: «التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي» من جامعة باريس 2 بالإضافة إلى كتبه المختصة الأخرى وبلغات عديدة. ومنها: «أي عملية سلام في الشرق الأوسط»: دراسة في المغترب الإسرائيلي (باللغة الفرنسية 1988) والخطوط الحمراء: مفهوم السلام الإسرائيلي (معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة 2000) والشرق الأوسط وتحديات النظام الدولي الجديد (معهد البحوث والدراسات العربية- القاهرة 2000)، والشرق الأوسط السلام الموعود: من جنيف إلى أنابوليس (دار النهضة العربية القاهرة 2008). بالإضافة إلى عمله بوزارة الخارجية المصرية وبمنظمة الوحدة الإفريقية ومركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، وانتدابه لتدريس العلوم السياسية في جامعة القاهرة وجامعة المستقبل والجامعة البريطانية بمصر.

وإشكالية البحث لدى ديفيد فيشر: هل يمكن أن تكون الحرب عادلة في القرن الحادي والعشرين؟ وهو الّذي يرى الحاجة في وقت الحرب كما هو في وقت السلام، ليس فقط إلى اتباع القواعد، ولكن أيضاً إلى دمج الالتزامات الأخلاقية لتصبح جزءاً من الذات. وبرأيه أن الأصوليين منذ القرن السابع عشر وجدوا بيئة سياسية خصبة، بمجرد تخلي زعماء الدول عن الالتزامات السابقة نحو التقاليد والأعراف العلمانية، وسعوا إلى تشجيع رؤية رجعية للدين والأمة لمصلحة أغراضهم الشخصية (ص 29). فالحرب عنده بلا أخلاق، استناداً لمقولة تيودور درابر في نقاشه حول الأسلحة النووية: «إذا كان من اللازم عض ألسنتنا قبل النطق بكلمة واحدة في هذه المناقشة، فإن تلك الكلمة هي الأخلاق». ذلك أن الواقعية السياسية، إنما تسعى إلى استبعاد الأخلاقيات من بعض مجالات النشاط الإنساني ومن جميع مجالات العلاقات الدولية بما في ذلك الحرب وطريق إدارتها أيضاً.

يرى الباحث أن انتشار عملية التشكيك في الأخلاقيات كان له أثره العميق في التعليم الأخلاقي، حيث قوضت الثقة في قدرة الإنسان: المعلم والمتعلم على الإجابة عن السؤال: لماذا يجب علي الالتزام بالأخلاقيات؟ (ص 55). وهذا التوجه يستند حتماً إلى نظرة سلبية حول حدود الأخلاقيات في المجتمع الغربي في القرنين العشرين والواحد والعشرين. 

وفي مقابلته بين الفضائل والعواقب (ص 77) يرى ديفيد فيشر أن سقراط حين طرح السؤال الخاص: «كيف يجب على الإنسان أن يعيش حياته»، لم يكن يحرض على الالتزام الأخلاقي، بل على تقديم إرشادات حول ما يلزم عمله من أجل الوصول إلى السعادة والعيش حياة مكتملة وازدهار الكائن البشري. ويضيف الباحث قائلاً: «مع قيامنا بتغيير نموذجنا للطبيعة البشريَّة يمكننا أن نرى بشكل أكثر وضوحاً، كيف من الممكن أن يكون الإنسان عادلاً. ويرى أيضاً أن الهوة بين أخلاقيات الفضيلة وأخلاقيات الواجب من جانب، والعواقبية من جانب آخر، ليست غير قابلة للجسر، لأن الأخلاقيات هي نشاط متعدد الأبعاد، ومن ضمنها أخلاقيات الحرب، في مجموعة التعاليم المعروفة بتقاليد الحرب العادلة (ص 104).

إن تقليد الحرب العادلة لدى الباحث، كان له أصل مسيحي، خصوصاً عند القديس أوغسطين، وعند توما الأكويني. إلا أنه جرى تطويره كما يقول، بشكل يتعارض مع نظريات الحرب الّتي شنت باسم الدين فيما بعد. وعلى هذا الأساس انتقد فيتوريا بشكل صارخ سلوك الفاتحين المسيحيين في الحروب الّتي خاضوها حديثاً ضد الإنكا والازتيك في جنوب ووسط أميركا، واعتبروها حروب استيلاء، وأدانها بقسوة باعتبارها غير عادلة (ص 107).

ويتحدث الباحث عن حصانة غير المقاتلين مستنداً إلى قول «كريستين دي بيسان»: «إن الجند والشجعان المهذبين يلتزمون قدر الإمكان بالامتناع عن الإضرار بعامة الشعب البسطاء» (ص 124). ومستنداً أيضاً إلى ما يراه توما الأكويني وقبله أرسطو باعتبار أن الفضائل مكون رئيسي لتعاليم الحرب العادلة. إذ التدريب والتعليم الجيد على الفضائل يمثلان عنصرين أساسيين للتصرف السليم في الحرب، حيث التحدي الضخم للمغريات الّتي تقود للخطأ (ص 134).

ويتساءل الباحث: هل حصانة غير المقاتلين مطلقة؟ فيقول إن المعتقدات والمشاعر الّتي نكنها للآخرين تشكل جزءاً مهماً من طريقة رؤيتنا لهم، ومن ردود أفعالنا تجاههم ككائنات بشرية ومن حكمنا على مدى أخلاقية أعمالهم. غير أنه يذكر بمذبحة حرب البلوبونيز (القرن الخامس ق.م) في حق البالغين من الذكور في ميلوس واستعباد جميع النساء والأطفال في تلك الجزيرة التعيسة وبمذبحة ليننغراد (1941 1943) حيث قضى مليون مدني جراء القصف والجوع والمرض.

وفي الحرب على غزة و«الرصاص المصبوب« (2008- 2009) يقول الباحث: ادعى الاسرائيليون أنهم لم يتعمدوا قتل المدنيين، غير أن العمليات العسكرية نفذت بقسوة وكثافة بالغة في منطقة ذات كثافة سكانية (مليون ونصف في 139 ميلاً مربعاً) واستخدام قنابل الفسفور الأبيض والانذارات بإخلاء المناطق دون تأمين مناطق آمنة. ولهذا ورد في تقرير «غولدستون» أن القوات الإسرائيلية «فشلت في اتخاذ إجراءات حيطة ملموسة في اختيار طرق وأساليب الهجوم لتجنب أو تقليل الخسائر في أرواح المدنيين أو في عدد الجرحى بصفوفهم وإيقاع الخسائر في ممتلكاتهم» (ص 125).

وفي حديثه عن الفضائل يستشهد الباحث بقول بروسبيرو: «عندما أضع تفكيري النبيل في مواجهة غضبي الشديد، هل أشارك؟ إن العمل الفذ يوجد في الفضيلة وليس في الانتقام. ويتساءل بعد ذلك فيقول: «كيف يمكن للرجل الحصيف أن يحدد ما من شأنه أن يحقق السعادة ويمنع الألم» ويقول إن الجنود الأميركيين أظهروا في اساءتهم معاملة المحتجزين في البصرة افتقاراً إلى الفضائل، بما في ذلك التحكم في الذات واحترام الآخرين الّتي تتطلبها العدالة» (ص 193).

ويتحدث الباحث عن «العواقبية الفاضلة»، فيقول: «ليس هناك مجال آخر تكون فيه الحاجة ملحة للطلب من السياسيين والمسؤولين أن يكونوا ملتزمين أخلاقياً كما هي الحال في مجال الحرب» (ص 201). وهو في ذلك يرد على الفلسفة الانجلو- ساكسونية الّتي سادت في القرن العشرين والتي تعتبر أن الأخلاقيات تمثل نشاطاً غير عقلاني، لا تقيده الحقائق وأنها مجرد تعبير عن المشاعر أو العواطف. وهو الّذي يرى الأخلاقيات إنما توفر الضابط الخارجي الضروري على الحرب الجيدة، الّتي يجري خوضها بعدالة وفق ضوابط أخلاقية.

وبالنسبة لرؤيته للحرب الاستباقية يقول الباحث: إذا كان تقليد الحرب العادلة يقر بالحق في العمل الاستباقي، فإن الشروط الواجب توافرها للقيام بذلك تتسم بالصراحة ويصعب تحقيقها عملياً (ص 245). إذ من المهم عندما تقوم ديموقراطية ليبرالية بالدفاع عن نفسها ضد تهديد إرهابي أو غيره، ألا تفعل ذلك بطريقة تعرض القيم الّتي تدافع عنها للمخاطر ومنها تقليد الحرب العادلة. (ص 280). وفي حروب الخليج يقول إن من وجهة نظر الولايات المتحدة الأميركية كان تبرير العمل العسكري ضد العراق ليس فقط لفرض قرارات بالنيابة عن الأمم المتحدة، ولكن أيضاً استناداً إلى عقيدة الاستراتيجية الجديدة القائمة على العمل الاستباقي. وبرأيه أن غزو العراق لم يكن عملاً عادلاً. وأن الولايات المتحدة لم تلتزم التكفير عن ذلك بإعادة السلام وبنقل منظم للمسؤولية إلى حكومة عراقية منتخبة ديموقراطياً (ص 320).

وفي الحديث عن «التدخل الإنساني»، يرى الباحث أن هناك حاجة لتقوية آليات التنفيذ في المجال الدولي من خلال العمل النشط للمؤسسات: من قبيل المحكمة الجنائية الدولية. فالامتناع عن دعم المطالب الدولية المتصلة بالأخلاقيات، يسهل وقوع إبادة جماعية على النحو الّذي عرفته راوندا سنة 1994. ولهذا نرى الباحث يؤكد على ضرورة انقاذ ملايين الأشخاص من الذبح في غزة وسوريا والعراق والسودان وليبيا وذلك من خلال التدخل الانساني (ص 350). وهو بالتالي يؤكد على ضرورة أن تجعل الدول الحرب عادلة. إذ إن تقليد الحرب العادلة إنما يعلمنا أن الحرب تكون عادلة فقط إذا ما استندت إلى سلطة عادلة وقضية عادلة. وإذا ما اعتبر أن الذهاب إلى الحرب باعتبارها ملاذاً أخير لتحقيق العدالة إنما هو الذهاب إلى العدالة نفسها، بشروط تحقيق الأخلاقيات الفردية نفسها، وليس بانتهاكها، إن في غزة أو في سوريا أو في ليبيا ومالي.

[ديفيد فيشر: الأخلاقيات والحرب.

[ترجمة د. عماد عواد.

[المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت

[2014 (430 ص تقريباً)

الأحد، 9 نوفمبر 2014

البلدان العربية مصابة بمرض فقدان المناعة الاجتماعية لغياب الديمقراطية

النشر لا يعني اننا نتفق مع ما طرحة الاستاذ الفاضل لكنه يعبر عن وعي كبير بالمشكلة ..





البلدان العربية مصابة بمرض فقدان المناعة الاجتماعية لغياب الديمقراطية
عزالدين عناية في حوار مع عبدالسلام سكية الصحفي في جريدة الشروق الجزائرية

-      كيف تنظر إلى تسابق الكثير من شباب الدول الغربية إلى الإلتحاق بصفوف الدولة الإسلامية , هل تعتقد أنّ التنشئة الإسلامية في العالم الغربي تميل إلى التشدد ورفض ما في العالم الغربي؟
ثمة حملة قذرة يتعرض لها المسلم في الغرب، سواء منه المهتدي إلى دين الإسلام أو الوليد في تلك الربوع ويعود إلى أرومة إسلامية، ولا أستبعد دوائر كنسية ويمينية وراء ذلك التشويه المتعمد بقصد محاصرته وصده، باعتباره مريضا نفسيا يتحول إلى دين عنيف وهمجي، أو باعتباره رافضا للاندماج. الإسلام يخطو خطى مهمة في الغرب، ولا سيما في أوساط الطلاب والمثقفين، حتى ليمكن الحديث عن ظاهرة اهتداء للإسلام لا تخلو منها أي دولة أوروبية، تم ابتكار أساليب مستجدة للوقوف أمامها.
ومن هذا الباب أرى أنه ليس هناك تسابق على الالتحاق بصفوف تنظيم الدولة الإسلامية، وإنما هذه حالات فردية مضخَّمة ومهوَّلة بفعل الآلة الدعائية الجبارة التي يساهم فيها الإعلام العربي التبيع، وبدون قصد ووعي. العملية تستهدف البلاد العربية، والعرب لا حول لهم ولا قوة، لا على مستوى إعلامي، ولا على مستوى معرفي، ولا على مستوى سياسي. وتنظيم الدولة الإسلامية هو تنظيم يقوم أساسا على المتوافدين من دول عربية، بعد أن فشلت الثورة السورية المصطنعة، لأنها ليست ثورة طبيعية، وكذلك بعد أن بلغت الحالة في العراق مستوى من التعفن السياسي مع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي إلى درجة لا يطاق، وأما الأجانب في تنظيم الدولة الإسلامية فهم قلة قليلة، تُوظَّف للدعاية لا غير.
ولا ريب ان الملتحقين بتنظيم الدولة الإسلامية هم ضحية أمرين أساسيين: وَهْمُ نصرة الإسلام، وهو ناتج عن محدودية المعرفة، وقصر النظر، وتدني الإلمام بالواقع السياسي لمنطقة الشرق الأوسط؛ ومن جانب آخر هو نتاج لفشل المجتمع الدولي، أو بالأحرى إهمال المجتمع الدولي، للإنسان السوري وتركه يواجه قدره، الذي لن يخرج من ورطته إلا بالتعويل على ذاته وبناء المصالحة الداخلية بأقل التكاليف وبأسرع وقت ممكن. وبالتالي يبقى سؤال لاهب وعاجل وهو، كيف نخرج من هذه الأهوال التي تضرب البلاد العربية؟ الجواب وهو من حق الشعوب العربية أن تذهب إلى الديمقراطية وأن تطالب بها، ولكن بدون عنف وبدون رفع السلاح، وبالمثل من واجب الدول أن تنتهي فورا عن ممارسة العنف ضد شعوبها حين تكون مطالبها مشروعة. من جانب آخر لا بد أن نعيد النظر في سياساتنا التعليمية والتربوية الفاشلة بكل جدّ وحزم، وهذا يكون على مستوى بعيد.
- هل تعتقد أنّ مسألة الالتحاق بصفوف الدولة الإسلامية "نفسية" أكثر منها مسألة قناعة طبيعة الظروف التي تربوا عليها من بلدانهم التي تظلم المسلمين وتتدخل في شؤونهم ما حفّزهم إلى ركوب أي موجة للثأر؟
لا ريب أن كل مجتمع يعاني من مشاكل ذات طابع نفسي واجتماعي، ولكن أعتقد أن المشاكل النفسية والاجتماعية في العالم العربي هي أقوى وأشد مما في غيره، ففيه الإنسان متروك في العراء التام. الإنسان في الغرب أقرب إلى الشخصية السوية مما نجده في البلاد العربية، المشكلة أن الإنسان العربي يتصور نفسه في جنات علّيين، والحال أنه يعاني انهيارا بنيويا على جميع الأصعدة. فهناك مغالطات يعيشها العقل العربي الفاشل، تتصور أن الغرب يعاني من مشاكل نفسية أسرية، ومن تمزقات عائلية، ومن اضطرابات نفسية، ومن انحلال خلقي، وغيرها من التصورات المسقَطة واللاواقعية.
- كثيرا ما كانت مسألة الإسلاموفوبيا مشكلا خطيرا في العالم الغربي تعرضت دونه الأقليات المسلمة إلى أبشع أنواع الإهانات التي وصلت إلى الاعتداء الجسدي، هل ساهمت هذه في إنماء نزعة "التطرف" و "الحقد" على الغرب وفضحت حقيقة دعاويه بالحفاظ على حقوق الإنسان.
تميّز الباحثة الإيطالية مونيكا ماسّاري في مؤلفها "الإسلاموفوبيا. الخوف من الإسلام" ثلاثة أطراف مروِّجة للإسلاموفوبيا، وهي: اليمين المتطرف؛ وبعض الأطراف الكنسية؛ وطائفة من المثقفين. ويعود خوف اليمين المتطرف من الإسلام وفق عالم الاجتماع الفرنسي ألان توران إلى أن "الآخر، والعربي بالخصوص، يتم رفضه لأنه يمثل صورة منيعة، رسوخا ثقافيا تتعذّر مجابهته". ونزعم أن هناك إصرارا ضمنيا في الأوساط اليمينية على النقاء العرقي والديني في زمن شهدت فيه المجتمعات تحولات عميقة.
وجراء العداء السافر مثلا لرابطة الشمال في إيطاليا نحو الإسلام، عبّر بعض الناشطين في منطقة لودي (Lodi) في السادس من أكتوبر 2000 عن معارضتهم إنشاء فضاء لأداء الشعائر الإسلامية بصبِّ كميات من الفضلات البشرية (بول وغائط) وروث للخنازير في المكان المزمع إقامة المسجد عليه بقصد تدنيسه.
وأما الطرف الثاني المشارك في صناعة الإسلاموفوبيا، فهو شق تابع للكنيسة الكاثوليكية. فقد بدأت هواجس الكنيسة تجاه المهاجرين المسلمين منذ مطلع التسعينيات. إذ مثّل المهاجر المسلم عنصر قلق دائم للكنيسة. وفي السياق ذاته جاءت تصريحات أسقف كومو المونسنيور أليساندرو ماجوليني سنة 1998 منددة بالغزو التدريجي للبلد؛ وأيضا تصريحات رئيس أساقفة بولونيا الكردينال جاكومو بيفي، الذي عدّ الإسلام، خلال العام 2000، خصما للمسيحية، داعيا إلى إعطاء الأولوية للمهاجرين المسيحيين وغير المسلمين، باعتبار المسلمين غرباء عن "إنسانيتنا".
ودائما في نطاق التخوف من المسلمين، أصدرت رئاسة المؤتمر الأسقفي الإيطالي سنة 2005 وثيقة، أعربت فيها عن عميق انشغالها بقضية الزواج المختلط بين الكاثوليكيات والمسلمين. ناهيك عن العودة بشكل متكرر للتوصية بعدم إتاحة الفرصة للمسلمين لاستعمال فضاءات راعوية بقصد أداء الشعائر أو القيام بأنشطة.
نأتي إلى الشق الثالث في صناعة الإسلاموفوبيا، المتمثل في طائفة من المثقفين والإعلاميين يتربعون على المشهد الإعلامي. كان الباحث الفرنسي فينسن جيسي (Vincent Geisser) من أوائل الذين نبهوا للأمر حينما نشر بحثه "الإسلاموفوبيا الجديدة" سنة 2003. هذا الاتهام للمثقفين يتكرر ثانية في المؤلف المشترك لعبداللالي حجات ومروان محمد اللذين تناولا كيفية صنع النخبة الفرنسية مشكلة الإسلام. ذلك أن "صناعة الخوف من الإسلام" قد سادت في العديد من الأوساط الإعلامية الأوروبية حتى تسببت في تلويث المخيال الغربي. ففي مؤلف يرصد التأثير القوي للتلفزيون تناول "قناة الراي" الإيطالية، يورد إحالة مفردات على غرار "الإسلام" و "الله" إلى دلالات مثل "الأصولية" و"الإرهاب" و"الحجاب".
- كيف تقيّم العلاقات بين الاثنيات والطوائف والملل في العالم الغربي وهل يمكن القول بأنّ غياب ثقافة الحوار بين الثقافات ساهمت في بروز عناصر "متطرفة" من هؤلاء سواء المسلمين أو المسيحيين أو اليهود وغيرهم؟
في الحقيقة لم يتسنّ للأديان الإبراهيمية، حتى عصرنا الراهن، رسم خطّة مشتركة في التعايش والاحتضان بين بعضها البعض. تتواضع بمقتضاها على حضور أتباع الدين الآخر بين ظهرانيها، دون أن يلحقهم أذى أو ترهقهم ذلّة. وإن كانت حصلت معالجات منفردة لهذه المسألة، اختلفت تفاصيلها من دين إلى آخر، دون بلوغ أسس جامعة. فمن الأديان الثلاثة من يملك تشريعات في الشأن، غير أنها تقادمت، أو هُجرت، أو داهمتها التبدلات الاجتماعية الهائلة، دون أن يتعهدها أهلها بالتهذيب والتنقيح، على غرار مؤسسة أهل الذمة، أو مفهوم أهل الكتاب في الإسلام؛ ومن تلك الأديان من لا يزال في طور تخليق منظومة لاستيعاب الآخر، لم يحصل بشأنها إجماع داخل المواقع النافذة في المؤسسة الدينية، على غرار "لاهوت الأديان" في المسيحية.
ذلك أن مفهوم الأديان الإبراهيمية حمّال ذو وجوه، كلّ له دلالته وكلّ له تأويله؛ وما نشهده من إيلاف في الراهن داخل المجتمعات، يأتي بفعل الإطار التشريعي للدولة المدنية الحديثة لا بموجب تحريض تلك الأديان. رغم ما يلوح جليا من قواسم مشتركة، ومن تقارب عقائدي بين اليهودية والمسيحية والإسلام. وبالتالي يبقى التحدي يواجه الجميع، وهو كيف تعيش تلك الأديان شراكة الأوطان؟ وكيف تغدو حاضنة لبعضها البعض ولا تكون طاردة؟ إذْ ما برحت اليهودية والمسيحية والإسلام دون مفهوم "أهل الكتاب" الضامن للعيش المشترك، ودون مفهوم "الأديان الإبراهيمية" الجامع للتنوع المفترق، وينطبق عليها مفهوم "الأديان الثلاثة" المتجاورة والمتباعدة في الآن نفسه.
فالأديان الثلاثة تبدو مقبلة على مواسم تفوق قدراتها الهرمنوطيقية التقليدية، يفرضهما التعايش والتداخل بين المؤمنين، ما عادت المدونات الفقهية واللاهوتية الكلاسيكية كفيلة بحلها. كما أن هناك قضايا تواجه تلك الأديان تتخطى إمكانيات دين بعينه، وتتطلب تضافر الجهود، مثلإشكاليات البيئة والمناخ والفاقة والأمية، وغيرها من المشاكل العويصة. فالعالم اليوم يتغير من تحت أقدام الأديان الثلاثة -إن صح التعبير- بوتيرة متسارعة، غالبا ما توفّق التشريعات المدنية في التأقلم معها، وتتعثر الديانات الإبراهيمية عن مواكبتها، في وقت يُفترض فيه أن تكون الأقدر والأجدر لما بينها من رؤى أنطولوجية جامعة.
كان علماء الاجتماع الديني الأمريكان، أمثال رودناي ستارك ولورانس إياناكوني وروبار توليسون، من أوائل الذين نبهوا إلى أن الفضاء الديني الغربي، أو كما يطلقون عليه "السوق الدينية"، محكوم بالاحتكار من طرف متعهّد قوي يمسك بمقدرات الفضاء، يضيّق على غيره التواجد، ويحدد مقاييس الحضور وفق مراده. ومن المفارقات الكبرى في عصرنا، أن الدين المستضعَف المهاجر، بات يستجير بالعلمانية وبالدولة المدنية طلبا للمقام الآمن، ولا يجد ذلك المأمن وتلك النُّصرة عند رفيقه في رحلة الإيمان، وهو حال الإسلام الأوروبي. فهو ليس في استضافة الكاثوليكية "التقليدية" ولا البروتستانتية "التقدمية"، ولكن هو في كنف العلمانية. فقد وفقت المجتمعات الحديثة في ما خابت فيه الأديان الثلاثة، من حيث إتاحة فرص الحضور للآخر. في وقت يُفترض فيه أن يكون المؤمن "الإبراهيمي"، بين أهله وملّته، حين يكون في الحاضنة الحضارية لدين من الأديان الثلاثة، لكنه في الحقيقة لا يجد تلك السكينة، وغالبا ما يلقى حرجا، ويأخذ صورة الخصم والمنازع والمهدّد القادم من وراء البحار، ولذلك أمام دعاة الحوار اليهودي المسيحي الإسلامي، ثمة ضرورة ملحة لطرح سؤال: هل هناك فعلا أمة إبراهيمية أو تراث إبراهيمي جامع؟
- البعض يرجع مسألة التحاق الغربيين بصفوف الدولة الإسلامية إلى طبيعة النشأة التي تربوا عليها والتي تأله القوة وتعبدها سواء وافقت الحق أو خالفته فكان لظهور تنظيم يحمل هويتهم ويجابه بالقوة أعداءهم الدعاية القوية في تجنيدهم؟
إن من يعاني الانهيار الخطير حسب تصوري هو الإنسان العربي، الذي تراكمت عليه تعفنات اجتماعية وسياسية مزمنة. ليس هناك وجه للمقارنة بين الطفل الغربي والطفل العربي، من حيث الحالة السوية التي ينعم بها هذا وذاك، ليس هناك وجه مقارنة بين ظروف الطالب العربي والطالب الغربي فالبون شاسع. أنا ابن البلاد العربية ودرست في تونس ودرست في الغرب وأعرف دقائق الأمور عن الفضاءين. لا بد أن نصحح رؤانا وننظر إلى الأمور بصدق لأن الحق أحق أن يُتّبع.

فالحديث عن أزمة نفسية اجتماعية في الغرب لتبرير، أو لتفسير التحاق أنفار غربيين بتنظيم الدولة الإسلامية هو حديث مغلوط من أساسه وهروب من الجواب الصحيح. ففي الراهن الحالي هناك بلدان عربية عدة مصابة بمرض فقدان المناعة الاجتماعية، وغير قادرة على حماية حدودها وشعوبها، ولا هي أيضا قادرة على تأمين العيش الكريم لمواطنيها، مما حولها إلى مسرح لصراعات خارجية. ثمة فشل لمؤسسات البلاد العربية التعليمية والدينية والتربوية، ولّدت ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق. وليست سائر المناطق الأخرى في مأمن من بروز هذه الظاهرة. فالواقع العربي الحالي هو منتج بالقوة وبالفعل لهذه الانحرافات الاجتماعية في ظل الاضطراب الكبير لبنية الاجتماع العربي.