الاثنين، 10 فبراير 2014

تأمّلات في المسألة السوريّة / جهاد فاضل


لم يكن وزير الخارجية السوري وليد المعلم يُبالغ أو يتحامل عندما وصف ما سمّاه "الطرف الآخر" في محادثات جنيف 2، ويقصد "الائتلاف"، بقلة النضج وكثرة الوهم أو الأوهام، وهي عبارته بالضبط. فقلة النضج يُمكن أن يستدعي المراقب لتأييدها ما لا يُحصى من الأمثلة والأدلّة منذ بداية عمل المعارضة السوريّة في الخارج وحتى وقتنا الراهن، وبخاصّة منذ تأليف "الائتلاف" الذي يُشكّل العمود الفقري لهذه المعارضة. ولكن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك أقلّه، لذلك نكتفي بالاستشهاد بموقف "الائتلاف" بقيادته الحالية من الروس. فعند وصول الجربا إلى قيادة هذا الائتلاف دعاه الروس لزيارة موسكو للتباحث فردّ الجربا بتذكير الروس بمواقفهم الشائنة من قضيّة الشعب السوري، وكذلك بقبول اللقاء ولكن على أن يتمّ في بلد آخر غير روسيا. وكان جواب الروس هو السخرية من اقتراح الجربا ووصفه بالسذاجة وقلة النضج. ومع أن كثيرين يومها انحازوا عاطفيًّا لموقف الجربا بسبب قلوبهم "المليانة" من سياسة لافروف وبوتين، إلاّ أن البعض تساءل عمّا إذا كان موقف الجربا، أو "الائتلاف" موقفًا تُمليه "الحكمة" أو "السياسة" ذلك أنّ من أسهل ما يكون أن يقف المرء موقفًا يستدرّ التصفيق ولكنه يُورث الندم لاحقًا.

ولكن "الائتلاف" يتراجع الآن عن اقتراحه بالاجتماع بلافروف خارج روسيا وبلقائه في موسكو نفسها. ولا شكّ أنّ جهة ما نصحت بمثل هذه الزيارة وأقنعت "الائتلاف" بأنّ دخول المعارضة دمشق منتصرة انتصارًا عسكريًّا ناجزًا كما دخل محمد الفاتح إسطنبول هو أمر من رابع المستحيلات وأنّ البحث يجري الآن في الغرف السرّية العليا على تسوية لا يموت فيها الذئب، أو الأسد، ولا تفنى الغنم. فقد أنتجت الأشهر الأخيرة قناعة راسخة باستحالة انتصار أحد الطرفين على الآخر، وبأنّ ثلاث سنوات من الدمار الفائق الوصف الذي حلّ بسوريا وبشعبها، كافية ليستيقظ العقل ويبحث عن حلٍّ يُنهي الأزمة خاصّة أنّ الطرفين اللذين راهنت المعارضة السورية، العسكريّة والسياسيّة عليهما أي الأوروبيّين والأمريكان خذلا هذه المعارضة خذلانًا فاضحًا، فلم يبق والحالة هذه سوى زيارة موسكو ولقاء لافروف.

ثمّة مسألة لا يُعيرها بعضنا اهتمامًا تستحقه هي مدى تجذّر الروس في سوريا وكون هذه الأخيرة بلدًا يدخل تحت المظلة الروسيّة مثله أيّ بلد في القوفاز سواء كان ضمن "الاتحاد الروسي" أو خارجه. فمن الصعب والحالة هذه البحث في المصير السوري في غياب روسيا نظرًا لعمق الروابط السياسيّة والاقتصاديّة والاستراتيجيّة القائمة بين البلدين. ولعلّ من أحدث الأمثلة المعبّرة عن عمق هذه الروابط أن سوريا وروسيا أبرمتا، وقبل شهر فقط من اليوم، اتفاقًا للتنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط وهو اتفاق تعامل البعض معه باستخفاف إلاّ أنّ البعض الآخر توقف مليّاً عنده. لقد استخفّ البعض به عن ظنٍّ بأنّه ورقة من شجرة خريف نظام آيل حتمًا إلى السقوط. ولكن البعض الآخر لا يجد مثل هذا التحليل في محلّه لأنّ النظام السوري مستمر بشكل أو بآخر، بهذا الأسد أو بسواه، ولأنّ الروس لا يزولون من سوريا حتى ولو زال الأسد، فسوريا إذا كانت عبارة عن صكّ ملكيّة في "طابو" دولي ما، فإنّ للروس حصّة في هذا الصكّ، كما لآخرين أيضًا. ولكن الأكيد أن لروسيا حصّة ثابتة ترسّخت مع الوقت حتى بات عبء التحرّر منها مسألة في غاية الصعوبة حتى ولو رغبت الأجيال السوريّة اللاحقة في مثل هذا التحرّر. وفي ظلّ انحسار ملحوظ للدور الأمريكي في المنطقة وبخاصّة في منطقة الشرق الأدنى بالذات التي تتصدّرها سوريا، يُلاحظ نفوذ آخذ بالتزايد للروس كانت صورته الأخيرة اتفاق الغاز والنفط السوري/ الروسي في المتوسط. والمعروف أن الدولة الروسيّة تملك مباشرة شركات النفط والغاز، ومكانة روسيا كقوّة عظمى في مناطق عدّة من العالم باتت تتحقق عبر صفقات النفط والغاز وربّما لهذا السبب حاولت روسيا في السنوات الأخيرة إيجاد موطئ قدم لها في مكامن نفط وغاز أخرى في الشرق الأوسط. وبعد عشرين كيلومترًا من بلوك 2 السوري البحري قبالة طرطوس تُوجد المياه اللبنانيّة حيث ستُوزّع الحكومة اللبنانيّة قريبًا امتيازات التنقيب البحريّة حتى الحدود مع إسرائيل. وتُوجد ثلاث شركات روسيّة بين حوالي عشرين شركة دوليّة تتنافس على الامتيازات اللبنانيّة ولا شكّ أن حزب الله اللبناني المتحالفة دولته أي إيران مع الروس سيدفع في اتجاه تلزيم الروس عمليّات التنقيب هذه خاصّة أن وزير الطاقة اللبناني المُولج بهذا الموضوع مرتبط من حيث التحالف السياسي مع حزب الله.

وإلى تاريخ يرقى ما لا يقل عن نصف قرن وجدت روسيا موطئ قدم مريحًا لها في سوريا ذلك أن العلويّين السوريّين الذين استولوا على الحكم بحثوا فور وصولهم إلى السلطة عن حلفاء خارجيّين أقوياء يُمكنهم الاتكال عليهم، فوجدوا هؤلاء الحلفاء في الاتحاد السوفييتي. وهكذا قامت علاقة قويّة بين الفريقين أمّنت لكل منهما مصالحه. وقد جاء وقت كان الرئيس السوري حافظ الأسد قريب الشبه بأي رئيس دولة آخر من كتلة الدول الشيوعيّة في أوروبا الشرقيّة من حيث علاقته بالروس. ويعود إلى المخابرات الروسيّة فضل تنظيم المخابرات السوريّة وربّما فضل تنظيم مؤسّسات وإدارات سوريّة أخرى. ولا شكّ أن صمود نظام بشار الأسد طيلة أزمة السنوات الثلاث الماضية مع خصومه الثائرين عليه، يعود في قسم كبير منه إلى ما بناه الروس في سوريا وإلى أهمّية ما قدّموه للأسد ودولته. سنوات طويلة لبس خلالها حافظ الأسد المعطف السوفييتي قبل أن يضمّ إليه المعطف الفارسي الإيراني. وعندما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة كان واثقًا أنّ النظام الذي أرساه في سوريا من الأنظمة التي لا تُحرق ولا تُغرق، وأن ابنه بشار من بعده سينعم بالإرث السياسي الذي أورثه إيّاه، وأن أعداءه السنّة لن يعودوا أبدًا إلى حكم سوريا مرّة أخرى.

لكل ذلك يبدو الأفق السوري الوطني والسياسي على الخصوص، مكفهرّاً وغامضًا. فالتسوية التي استقرّ عليها الروس والأمريكان تؤول إلى قيام حكومة يتعايش فيها نظام الأسد مع أعدائه ولا ينتصر فيها أحد على أحد. ولكن ماذا عن "هويّة" سوريا و"عقيدتها"؟ هل ستعود سوريا إلى العروبة كما كان عليه الأمر قبل وصول حافظ الأسد إلى السلطة، أم أنّ سوريا فقدت هذه العروبة نهائيًّا وباتت هويّتها هي تلك الهويّة الباهتة المشبوهة التي مارسها الأب ثم ابنه حوالي نصف قرن؟

قد لا نُبالغ إذا زعمنا أن عمليّة "تعريب سوريا"، أو تعريب السلطة فيها وبوصلتها السياسيّة والقوميّة والاستراتيجيّة على الخصوص، مسألة في غاية الدقة والخطورة. فسوريا بيعت كما هو معروف في سوق النخاسة العالمي، وكان في طليعة من حاز أسهمها الروس والإيرانيون الذين يتشبّثون الآن بحقوقهم ولا يُفرّطون قيْد أنملة فيها نظرًا لما تُدرّه عليهم سوريا من خيرات. ولكن الإنصاف يقتضي منّا الإشارة إلى أن في الكينونة السوريّة نقطة ضعف أصيلة تتمثل في "لبنانيّتها" أي في كونها تضم مللاً ونحلاً ومذاهب وطوائف وأقليّات ونزعات ترعى هذه الهويّة السوريّة الباهة والمشبوهة، ولا تُريد لسوريا أن تستردّ عروبتها الأصيلة التي كانت لها قبل وصول العلويّين إلى السلطة فيها.

إن عملية "تعريب سوريا" خلال السنوات المقبلة لن تكون عمليّة سهلة، ولكن على هذه العمليّة يتوقف مصير سوريا ومصير العروبة في آن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق