الاثنين، 14 أبريل 2014

مصير الشام والعراق / جهاد فاضل



لم يخطئ الملاّ مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان عندما تحدث قبل أيام عن «تفكك العراق» وعن «أن سوريا لن تعود كما كانت قبل الحرب» الدائرة فيها حالياً، فعلى ما ذكره ما لا يحصى من الأدلة والشواهد، ويكفي ان يجول المرء ببصره في واقع العراق السياسي الحالي حتى يجد أمامه لا وطناً أو قطراً عربياً، كما كان عليه الحال زمن الملكية أو زمن صدام حسين، بل مناطق وأقاليم وعصبيات وملل ونحل متعادية متنابزة. أما حكومته المركزية التي يُفترض أن تنظر إلى عموم رعيتها أو شعبها نظرة واحدة متساوية، فلم تضبط مرة في مثل هذا الموقف، ذلك أن الرعية بالنسبة إليها رعيتان لا رعية واحدة: إحداهما، وهي الفئة الشيعية، تظفر برعايتها ولدرجة ان تسعين بالمائة من الجيش العراقي هم منها، أما الثانية وهي الفئة السنّية فمتروكة لحالها أو لقدرها تماماً كما لو أنها سفينة تائهة في البحر بلا رباّن. وعلى هذه الفئة السنية أن تدبّر نفسها بنفسها دون ان تطالب حكومة المركز بشيء. ذلك ان حكومة المركز تخصّ الشيعة وحدهم. وبنظر هذه الحكومة، حكم السنةُ العراق طيلة القرن العشرين، وربما على مدار التاريخ، وقد آن الأوان ليحكمه الشيعة. ولا يتردد رئيس الحكومة نوري المالكي في البوح بكل ذلك، فهو يقول علناً إنه حان الوقت لإنصاف الشيعة من الغبن التاريخي الذي وقع عليهم، وعلى أهل السنُة أن يتفهموا وأن يذعنوا.
وإذا توقف المالكي عند هذا الحد ولم يقل انه هو بالذات رئيس حكومة العراق الشيعي، فقد قال بذلك كل المراقبين الذين يعرفون جيداً ما يجري في العراق، فالعراق تحكمه حكومة مذهبية على رأسها حاكم هو في الأساس رئيس لحزب اسمه حزب الدعوة. والدعوة هذه هي لآل البيت وعلى رأسهم الامام علي وأبناؤه ومن الطبيعي لمن أمضى حياته في مثل هذا المناخ المذهبي الضيق الأفق، منها ١٧ سنة في ضيافة آل الأسد في سوريا، ان لا يكون في حساباته عراق وطني عربي ناصع العروبة، بل عراق مذهبي متطلع إلى إيران الخميني والخامنئي. وهذا ما اضطلع به المالكي على أفضل وجه منذ وصل إلى السلطة في العراق.
العراق يتفكك، هي صورة ترى بالعين المجردة ولا تحتاج إلى أدلة وبراهين، انفصل الأكراد وأنشأوا كانتوناً أو إقليماً خاصاً بهم وارتاحوا من الدعاة والدعوة وانصرفوا إلى بناء دولة ومؤسسات حديثة، أما أهل السنة والجماعة فقد بات الكانتون أو الإقليم الخاص بهم حلماً من الأحلام طالما ان الدعاة والدعوة غير معنيين بهم، بل يتربصون بهم ويعمدون إلى إذلالهم والانتقام منهم.
ليس السنّة بالطبع انفصاليين كما هو شأن الأكراد، ولكن إذا كان أبغض الحلال عند الله الطلاق، فلا مفرّ عند اشتداد الضيق من ان ينجو المرء بجلده بانتظار ساعة فرج تمنّ بها الأقدار. طبعاً العراق المعاصر الذي عرفه العالم في القرن العشرين بناه كل أبنائه من سنّة وشيعة وكان وجه الحكم فيه وجهاً وطنياً وقومياً والحقيقة ان العراق لم يعرف في تاريخه الحديث نزعات طائفية إلا في الحد الأدنى. وقد ظل هذا الايقاع سائداً حتى نهاية عهد صدام حسين وتغلغل النفوذ الإيراني فيه. عندها بدأ أهل السّنة على الخصوص يفقدون نفوذهم ليتحول العراق إلى بلد ملحق تقريباً بإيران.
إذا استثنينا العراق الكردي في الشمال ومناطق الأنبار والرمادي وهي مناطق سنية محاذية له، أمكن القول ان العراق الشيعي هو كل ما تبقى بعد ذلك، فمن بغداد، وهي مشاع بين الطائفتين وتتضمن أحيانا أحياء هي وقف على أبناء طائفة واحدة، نزولًا إلى الحلّة والنجف وكربلاء والناصرية وصولًا إلى البصرة، لا يجد المرء من نفوذ يُذكر للسنّة. فهي مناطق شيعية بوجه عام مرتبطة من حيث الجغرافيا ببلاد فارس، ولا حدود عملياً بين البلدين، وإذا تفكك العراق، وسادت فيه الأقاليم والكانتونات، فلا شك أن الشيعة ستكون لهم حصة الأسد. ولا ننسى أن الجيش العراقي الحالي هو جيش دعاة ودعوة.
فاذا انتقلنا إلى سوريا تبين ان الملا مسعود البارزاني لم يكن يبالغ حين اعتبر ان «سوريا لن تعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب» أو قبل الثورة.
لم يرسم البارزاني تخطيطاً أوليا لصورة سوريا هذه، بل اكتفى بالقول بأنها لن تعود إلى ما كانت عليه، ولكن العالِم بالوضع السوري يمكنه ان يتوقع قيام دويلات قومية أو جهوية، أو مذهبية من نوع كردتسان سورية في جهات القامشلي والحسكة متاخمة لكردستان العراق. وكذلك عودة دويلة العلويين إلى الظهور في جبال العلويين والساحل السوري تضّم فيما تضمّ وادي النصارى وكذلك مدينة حمص المدمرة والسهل المحيط بها. أما دويلة الدروز فهي بدورها جاهزة للإعلان، تماماً كما أعلنها (وأعلن دولة العلويين) الانتداب الفرنسي في أوائل العشرينيات من القرن الماضي. ما الذي يبقى للسنّة؟ دولة دمشق ودولة حلب وكانتا منفصلتين زمن الفرنسيين استنادا إلى المبدأ الاستعماري المعروف: فرق تسد، طبعا ليس هناك ما يمنع من قيام «وحدة» بين دولة دمشق ودولة حلب، ولكن أي «وحدة» وسورية في قاع القبر تبكي وتحلم لا بوحدة أراضيها فقط لا غير، بل بوحدة عربية شاملة ألغت نفسها وكيانها وسيادتها ذات يوم من أجلها؟
الأكيد أن سورية لن تعود كما كانت قبل الحرب. لم تكن الثقافة السياسية التي سادت في سوريا آل الأسد ثقافة وطنية أو قومية، بل ثقافة طائفية ومذهبية بحتة. كان واضحاً أن الحاكم الذي يحكم سوريا ليس سورياً وليس مسلماً وليس عربي التوجه. وكان واضحا أيضاً أن نظام هذا الحاكم إذا انهار في دمشق، فستوهب له الحياة في الساحل والجبل العلوي. ولعل أكثر ما كان واضحاً هو أن سوريا العرب والعروبة وفلسطين والوحدة قد انتهت إلى غير رجعة، وأن سوريا آل الأسد هي سوريا لا تنظر أبداً إلى إسرائيل على أنها عدو لان العدو عندها هو شعبها دون سواه، وعلى التحديد أهل السنّة والجماعة وهذا ما أثبته التجربة المرة المستمرة منذ سنوات.
ولكن هل من نهاية لهذا الليل العراقي والسوري الطويل؟ هل يمكن حماية العراق وسوريا من التفكك والعودة بهما إلى ما كاناه في السابق: بلدين عربيين ولو بدون طموحات ومشاريع قومية؟ ليس في الأفق ما يدل على ذلك بل على عكسه فللتفلُّك مَن يسهر عليه وعلى دوامه، وطالما ان المناعة العربية فيما لا تحسد عليه، فالمخططات التي تتوخى انهيار الأمة العربية إلى الأبد لا تواجه من يحبطها. إيران في طليعة الساهرين على حراسة هذا الليل الذي نشير إليه، ومعها إسرائيل في حلف موضوعي ان لم يكن واقعياً.
ولم يأتنا خبر يقول ان الأمريكيين والروس في وارد اعتناق الفكر القومي العربي، وليس صحيحاً ان برنامج الائتلاف الوطني السوري سيعرف طريقه إلى التنفيذ يوما فأقصى المتاح أو المتوقع، ولكن البعيد المنال، هو «جنيف٢» الذي لا يفنى فيه الذئب ولا تموت الشاة.
وطالما أن الذئب باق في الحكم، فسوريا كما تحلم بها نخبها ممنوعة.
ولا شك ان العراق العربي ممنوع أيضاً، والعراق الحالي، كما العراق المتوقع، في المدى المنظور، هو عراق فارسي سواء كان المالكي يقيم في المنطقة الخضراء في بغداد أو يقيم سواه، خلال عصر صدام حسين كان للنُخب الوطنية العراقية المقيمة خارج العراق برنامج وطني طموح لا يختلف في جوهره عن برنامج الائتلاف السوري الحالي، ولكن ما الذي تحقق بعد زوال صدام حسين: برنامج إيران والمذهبية المرتبطة بها ام برنامج المعارضة الوطنية؟.
والذين يتحدثون اليوم عن سوريا ديموقراطية تعددية وعن حقوق شتى من نوع حقوق الانسنان وما إليها، عليهم أن يدعوا التنظير للمستقبل جانباً وأن يروا المشهد السوري رؤية عيانية وعلمية. لم يعرف التاريخ دمارًا مادياً وروحياً بحجم الدمار الذي لحق، وسيلحق أيضاً بسوريا، وأقصى المنى الآن ان يتوقف والا يجهز على ما تبقى. ومع ان الدمار المادي الذي لحق بالعراق لا يقاس بالطبع بالدمار المادي السوري، الا ان البلدين يتشاركان في انعدام الأمل في مستقبل قريب يحقق فيه شعباهما ما يحق لهما أن يطمحا فيه. وعندما تكون الشام والعراق على هذه الصورة فمعنى ذلك أن الأمة العربية في مأزق تاريخي خطير، وأن المشروع النهضوي الذي كثيراً ما لاح في آفاق القرن العشرين قد طوي إلى غير رجعة.
نشرهنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق