الاثنين، 10 نوفمبر 2014

ديفيد فيشر متسائلاً: الحروب العادلة وغير العادلة


  
قصي الحسين

التنويه بكتاب «الأخلاقيات والحرب» لديفيد فيشر (ت: فبراير 2014) إنما يرجع لأسباب أكاديمية وجيهة تأخذ بعين الاعتبار أولاً: اختصاص المؤلف في مجال دراسات الحرب من كينغ كوليج بلندن وتدريسه فيها، وكون هذا الكتاب قد حصل على جائزة دراسات الحروب في العام 2013، أي قبل عام واحد على وفاة مؤلفه. وتالياً: إن المؤلف كان قد تقلب في مناصب رفيعة بوزارتي الدفاع والخارجية البريطانيتين، وعمل مستشاراً في رئاسة الوزراء مستشار دفاع للمملكة المتحدة بحلف شمال الأطلسي (ناتو) وكذلك مستشاراً عسكرياً في الحلف نفسه. وقد كانت له فعالية في رئاسة «مجلس المقاربات المسيحية للدفاع ونزع السلاح، وفي تقديم بحوث دورية تتصل بقضايا الدفاع والأخلاقيات. وأما المترجم عماد عواد، فقد اشتهر بأطروحته: «التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي» من جامعة باريس 2 بالإضافة إلى كتبه المختصة الأخرى وبلغات عديدة. ومنها: «أي عملية سلام في الشرق الأوسط»: دراسة في المغترب الإسرائيلي (باللغة الفرنسية 1988) والخطوط الحمراء: مفهوم السلام الإسرائيلي (معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة 2000) والشرق الأوسط وتحديات النظام الدولي الجديد (معهد البحوث والدراسات العربية- القاهرة 2000)، والشرق الأوسط السلام الموعود: من جنيف إلى أنابوليس (دار النهضة العربية القاهرة 2008). بالإضافة إلى عمله بوزارة الخارجية المصرية وبمنظمة الوحدة الإفريقية ومركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، وانتدابه لتدريس العلوم السياسية في جامعة القاهرة وجامعة المستقبل والجامعة البريطانية بمصر.

وإشكالية البحث لدى ديفيد فيشر: هل يمكن أن تكون الحرب عادلة في القرن الحادي والعشرين؟ وهو الّذي يرى الحاجة في وقت الحرب كما هو في وقت السلام، ليس فقط إلى اتباع القواعد، ولكن أيضاً إلى دمج الالتزامات الأخلاقية لتصبح جزءاً من الذات. وبرأيه أن الأصوليين منذ القرن السابع عشر وجدوا بيئة سياسية خصبة، بمجرد تخلي زعماء الدول عن الالتزامات السابقة نحو التقاليد والأعراف العلمانية، وسعوا إلى تشجيع رؤية رجعية للدين والأمة لمصلحة أغراضهم الشخصية (ص 29). فالحرب عنده بلا أخلاق، استناداً لمقولة تيودور درابر في نقاشه حول الأسلحة النووية: «إذا كان من اللازم عض ألسنتنا قبل النطق بكلمة واحدة في هذه المناقشة، فإن تلك الكلمة هي الأخلاق». ذلك أن الواقعية السياسية، إنما تسعى إلى استبعاد الأخلاقيات من بعض مجالات النشاط الإنساني ومن جميع مجالات العلاقات الدولية بما في ذلك الحرب وطريق إدارتها أيضاً.

يرى الباحث أن انتشار عملية التشكيك في الأخلاقيات كان له أثره العميق في التعليم الأخلاقي، حيث قوضت الثقة في قدرة الإنسان: المعلم والمتعلم على الإجابة عن السؤال: لماذا يجب علي الالتزام بالأخلاقيات؟ (ص 55). وهذا التوجه يستند حتماً إلى نظرة سلبية حول حدود الأخلاقيات في المجتمع الغربي في القرنين العشرين والواحد والعشرين. 

وفي مقابلته بين الفضائل والعواقب (ص 77) يرى ديفيد فيشر أن سقراط حين طرح السؤال الخاص: «كيف يجب على الإنسان أن يعيش حياته»، لم يكن يحرض على الالتزام الأخلاقي، بل على تقديم إرشادات حول ما يلزم عمله من أجل الوصول إلى السعادة والعيش حياة مكتملة وازدهار الكائن البشري. ويضيف الباحث قائلاً: «مع قيامنا بتغيير نموذجنا للطبيعة البشريَّة يمكننا أن نرى بشكل أكثر وضوحاً، كيف من الممكن أن يكون الإنسان عادلاً. ويرى أيضاً أن الهوة بين أخلاقيات الفضيلة وأخلاقيات الواجب من جانب، والعواقبية من جانب آخر، ليست غير قابلة للجسر، لأن الأخلاقيات هي نشاط متعدد الأبعاد، ومن ضمنها أخلاقيات الحرب، في مجموعة التعاليم المعروفة بتقاليد الحرب العادلة (ص 104).

إن تقليد الحرب العادلة لدى الباحث، كان له أصل مسيحي، خصوصاً عند القديس أوغسطين، وعند توما الأكويني. إلا أنه جرى تطويره كما يقول، بشكل يتعارض مع نظريات الحرب الّتي شنت باسم الدين فيما بعد. وعلى هذا الأساس انتقد فيتوريا بشكل صارخ سلوك الفاتحين المسيحيين في الحروب الّتي خاضوها حديثاً ضد الإنكا والازتيك في جنوب ووسط أميركا، واعتبروها حروب استيلاء، وأدانها بقسوة باعتبارها غير عادلة (ص 107).

ويتحدث الباحث عن حصانة غير المقاتلين مستنداً إلى قول «كريستين دي بيسان»: «إن الجند والشجعان المهذبين يلتزمون قدر الإمكان بالامتناع عن الإضرار بعامة الشعب البسطاء» (ص 124). ومستنداً أيضاً إلى ما يراه توما الأكويني وقبله أرسطو باعتبار أن الفضائل مكون رئيسي لتعاليم الحرب العادلة. إذ التدريب والتعليم الجيد على الفضائل يمثلان عنصرين أساسيين للتصرف السليم في الحرب، حيث التحدي الضخم للمغريات الّتي تقود للخطأ (ص 134).

ويتساءل الباحث: هل حصانة غير المقاتلين مطلقة؟ فيقول إن المعتقدات والمشاعر الّتي نكنها للآخرين تشكل جزءاً مهماً من طريقة رؤيتنا لهم، ومن ردود أفعالنا تجاههم ككائنات بشرية ومن حكمنا على مدى أخلاقية أعمالهم. غير أنه يذكر بمذبحة حرب البلوبونيز (القرن الخامس ق.م) في حق البالغين من الذكور في ميلوس واستعباد جميع النساء والأطفال في تلك الجزيرة التعيسة وبمذبحة ليننغراد (1941 1943) حيث قضى مليون مدني جراء القصف والجوع والمرض.

وفي الحرب على غزة و«الرصاص المصبوب« (2008- 2009) يقول الباحث: ادعى الاسرائيليون أنهم لم يتعمدوا قتل المدنيين، غير أن العمليات العسكرية نفذت بقسوة وكثافة بالغة في منطقة ذات كثافة سكانية (مليون ونصف في 139 ميلاً مربعاً) واستخدام قنابل الفسفور الأبيض والانذارات بإخلاء المناطق دون تأمين مناطق آمنة. ولهذا ورد في تقرير «غولدستون» أن القوات الإسرائيلية «فشلت في اتخاذ إجراءات حيطة ملموسة في اختيار طرق وأساليب الهجوم لتجنب أو تقليل الخسائر في أرواح المدنيين أو في عدد الجرحى بصفوفهم وإيقاع الخسائر في ممتلكاتهم» (ص 125).

وفي حديثه عن الفضائل يستشهد الباحث بقول بروسبيرو: «عندما أضع تفكيري النبيل في مواجهة غضبي الشديد، هل أشارك؟ إن العمل الفذ يوجد في الفضيلة وليس في الانتقام. ويتساءل بعد ذلك فيقول: «كيف يمكن للرجل الحصيف أن يحدد ما من شأنه أن يحقق السعادة ويمنع الألم» ويقول إن الجنود الأميركيين أظهروا في اساءتهم معاملة المحتجزين في البصرة افتقاراً إلى الفضائل، بما في ذلك التحكم في الذات واحترام الآخرين الّتي تتطلبها العدالة» (ص 193).

ويتحدث الباحث عن «العواقبية الفاضلة»، فيقول: «ليس هناك مجال آخر تكون فيه الحاجة ملحة للطلب من السياسيين والمسؤولين أن يكونوا ملتزمين أخلاقياً كما هي الحال في مجال الحرب» (ص 201). وهو في ذلك يرد على الفلسفة الانجلو- ساكسونية الّتي سادت في القرن العشرين والتي تعتبر أن الأخلاقيات تمثل نشاطاً غير عقلاني، لا تقيده الحقائق وأنها مجرد تعبير عن المشاعر أو العواطف. وهو الّذي يرى الأخلاقيات إنما توفر الضابط الخارجي الضروري على الحرب الجيدة، الّتي يجري خوضها بعدالة وفق ضوابط أخلاقية.

وبالنسبة لرؤيته للحرب الاستباقية يقول الباحث: إذا كان تقليد الحرب العادلة يقر بالحق في العمل الاستباقي، فإن الشروط الواجب توافرها للقيام بذلك تتسم بالصراحة ويصعب تحقيقها عملياً (ص 245). إذ من المهم عندما تقوم ديموقراطية ليبرالية بالدفاع عن نفسها ضد تهديد إرهابي أو غيره، ألا تفعل ذلك بطريقة تعرض القيم الّتي تدافع عنها للمخاطر ومنها تقليد الحرب العادلة. (ص 280). وفي حروب الخليج يقول إن من وجهة نظر الولايات المتحدة الأميركية كان تبرير العمل العسكري ضد العراق ليس فقط لفرض قرارات بالنيابة عن الأمم المتحدة، ولكن أيضاً استناداً إلى عقيدة الاستراتيجية الجديدة القائمة على العمل الاستباقي. وبرأيه أن غزو العراق لم يكن عملاً عادلاً. وأن الولايات المتحدة لم تلتزم التكفير عن ذلك بإعادة السلام وبنقل منظم للمسؤولية إلى حكومة عراقية منتخبة ديموقراطياً (ص 320).

وفي الحديث عن «التدخل الإنساني»، يرى الباحث أن هناك حاجة لتقوية آليات التنفيذ في المجال الدولي من خلال العمل النشط للمؤسسات: من قبيل المحكمة الجنائية الدولية. فالامتناع عن دعم المطالب الدولية المتصلة بالأخلاقيات، يسهل وقوع إبادة جماعية على النحو الّذي عرفته راوندا سنة 1994. ولهذا نرى الباحث يؤكد على ضرورة انقاذ ملايين الأشخاص من الذبح في غزة وسوريا والعراق والسودان وليبيا وذلك من خلال التدخل الانساني (ص 350). وهو بالتالي يؤكد على ضرورة أن تجعل الدول الحرب عادلة. إذ إن تقليد الحرب العادلة إنما يعلمنا أن الحرب تكون عادلة فقط إذا ما استندت إلى سلطة عادلة وقضية عادلة. وإذا ما اعتبر أن الذهاب إلى الحرب باعتبارها ملاذاً أخير لتحقيق العدالة إنما هو الذهاب إلى العدالة نفسها، بشروط تحقيق الأخلاقيات الفردية نفسها، وليس بانتهاكها، إن في غزة أو في سوريا أو في ليبيا ومالي.

[ديفيد فيشر: الأخلاقيات والحرب.

[ترجمة د. عماد عواد.

[المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت

[2014 (430 ص تقريباً)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق