الأحد، 1 فبراير 2015

تغيير النظام اللبناني / جهاد فاضل


ليست عملية تغيير النظام السياسي في أي بلد من البلدان بالعملية السهلة فهي تشبه العملية الجراحية التي قد تودي بالمريض إلى الموت إن لم تُهيأ لها ظروف النجاح. وفي لبنان بالذات تكثر في هذه الأيام الدعوة إلى تغيير النظام واستبداله بنظام آخر يتناسب، كما يقولون مع الحقائق والموازين الجديدة، الداخلية والخارجية. لا يفصح هؤلاء الدعاة عن طبيعة النظام الجديد الذي يدعون إليه، ولكنهم يلمحون إلى "الفيديرالية" دون أن يخفوا خشيتهم من نتائجها عند التحقيق.


ذلك أن لبنان لا يضم منطقة واحدة "نقية" من حيث انتمائها الطائفي. فالمناطق اللبنانية كلها مختلطة وموزعة على أكثر من طائفة، والمنطقة التي قد يُظن أنها خالصة لهذه الطائفة أو تلك، هي في واقع أمرها غير ذلك تماما. ومن الأمثلة على ذلك منطقة الجنوب اللبناني التي تُحسب عادة على الشيعة، في حين أن نصفها بالتأكيد ليس شيعياً. ويمكن قول ذلك عن بقية المناطق.

ولكن ما يدعو إلى التريث وتأجيل هذا الموضوع إلى وقت آخر مناسب أكثر لطرحه، هو أن الظروف الموضوعية، اللبنانية والإقليمية على الخصوص غير ملائمة للبحث فيه. ففي لبنان نفسه ينقسم اللبنانيون انقساماً حاداً بين اتجاهين متصادمين متعاكسين لا يمكن أن يلتقيا أبدًا إلا في الحد الأدنى. وحتى هذا الحد الأدنى، كثيرا ما يتم التراجع عنه بعد حين نزولا عند هذا المقتضى أو ذاك.

 فهل يمكن في ظل مناخ وطني أو سياسي كالمناخ الحالي طرح موضوع تغيير النظام السياسي طرحًا موضوعيًا بحثًا دون أن تطفو على السطح الحساسيات والنعرات والمصالح والشهوات؟ ثم إن البلد الذي عجز طيلة ثمانية أشهر عن انتخاب رئيس للجمهورية، بسبب تدخل الأجانب في شؤونه، يمكنه الانصراف إلى ورشة تغيير نظامه السياسي؟ وإذا لم يكن بإمكان اللبنانيين انتخاب رئيس لهم بسبب التدخل الخارجي، فهل بإمكانهم وحدهم تغيير نظام بلدهم؟ صحيح أن عام 1990 شهد تغييرًا في النظام اللبناني كان نتيجة مؤتمر الطائف الشهير، ولكن هل كان هذا التغيير حصيلة "قناعة لبنانية" صافية، أم حصيلة توافق إقليمي ودولي كرسه المؤتمر المذكور؟ لقد بات معروفا الآن أن أكثر من جهة عربية ودولية كانت تُحاط علما، ساعة بعد ساعة بمناقشات ومداولات النواب اللبنانيين في الطائف، فتوافق أو ترفض وظل الأمر على هذه الحال حتى تم التوافق بين حافظ الأسد والأمريكيين والفرنسيين والسعوديين. وهكذا أُعطي اللبنانيون نظاما جديدا لبلدهم حل محل النظام السابق الذي أرساه الفرنسيون عند تأسيسهم للبنان عام 1920.

وليس الوضع الإقليمي الحار والملتهب بالوضع الذي يشجع على طرح موضوع تغيير النظام فسورية غارقة في حرب بلا أفق وقسم من اللبنانيين هو حزب الله أو الشيعة مشارك في هذه الحرب. والواقع أن هذه الحرب لا تعد في سوريا وحدها، بل في لبنان ذاته: على حدوده وفي داخله. وفي لبنان الآن مليون ونصف سوري أو أكثر وهم يثقلون بلا شك على البلد ويصعبون على اللبنانيين ظروف عيشهم. هذا بالإضافة إلى أن الحرب قد تنشب في أي لحظة بين حزب الله والإسرائيليين وعندها لا يدري أحد كيف تتطور وما هي نتيجتها على المجتمع والناس.

يضاف إلى كل ذلك أن مجلس النواب اللبناني معطل بفعل انقسامات السياسيين ولم يجتمع منذ أكثر من سنة إلا ليجدد لنفسه بعد أن انتهت مدة ولايته.

فأي أداة دستورية ستكرس التغيير؟ ولا ننسى أيضا أن عملية تغيير النظام السياسي تستوجب توفر مناخ وطني ملائم وإرادة وطنية واحدة وموحدة، وقبل كل شيء توفر قرارا لبنانيا مستقلا يراعي مصلحة لبنان لا مصلحة إيران مثلا، وكل ذلك غير متوفر كما لا يخفى على القاصي والداني.

في تاريخ لبنان الحديث توفر مرة ظرف ملائم لتغيير حقيقي للنظام اللبناني يقود لبنان نحو آفاق الحضارة الحديثة، ومن شأنه تحرير لبنان فعلا من الطائفة والمذهبية وسائر العلل والأمراض المعروفة. كان ذلك عندما انتهى عهد اللواء الرئيس فؤاد شهاب، وكان فعلًا عهدًا نهضويًا تقدميًا، فطالبه الناس بأن يجدد ولايته ست سنوات أخرى. حار الرجل، تلكأ، تردد بعدها اعتذر عن تجديد ولايته. وعندما ازداد الضغط النيابي والشعبي عليه، أذاع بيانًا من ستة أو سبعة أسطر لا أكثر قال فيها إن تجديد ولايته لا معنى له إلا إذا انصبت سنوات الولاية الثانية على إحداث انقلاب في النظام السياسي فيكرس أموراً ومبادئ ويلغي أنظمة وأعرافاً ومواضعات كثيرة، والأمر ليس سهلاً، وسيواجه صعوبات كثيرة، واللبنانيون غير مجمعين على التغيير الذي ينشد. ولذلك فهو يعتذر نهائيًا ويصر على عدم الترشح لولاية ثانية!

كان فؤاد شهاب يملك أكثرية أعضاء مجلس النواب وكان هناك رأي عام يدعمه، ومعارضة قوية ضده ولكن المناخ الإقليمي كان ملائما فعبدالناصر الذي كان سيد الساحة في مصر وسوريا وفي المنطقة ، كان صديقا له. وباختصار، فإن فؤاد شهاب رغم توفر ظروف كثيرة، لبنانية وإقليمية ودولية ملائمة لتغيير النظام اللبناني الطائفي باتجاه نظام عصري غير طائفي، خاف من هذا التغيير كان يريد من اللبنانيين "إجماعا" .. لم يحصل عليه. المهم أنه رغم كل الظروف التي كانت ملائمة للتغيير تراجع الرئيس ولم يقدم على المغامرة الكبرى.

في الوقت الراهن لا يتوفر أي ظرف من الظروف التي كانت متوفرة لفؤاد شهاب. كان فؤاد شهاب يعمل عند رب عمل واحد اسمه لبنان. في الوقت الراهن أرباب عمل أكثر السياسيين هم خارج لبنان وتعنيهم مصالحهم لا مصالح لبنان، السياسيون اللبنانيون في الأعم الأغلب، مرتبطون بأجندات خارجية، ولن يوافقوا على أي تغيير في النظام اللبناني، إلا إذا كان لصالح الطائفة المرتبطة بهم. التغيير المرجو إذن لن يقع، والتغيير الذي سيقع لن يكون لا لصالح لبنان ولا لصالح تقدمه وتطوره فمن أجل ماذا نلح على التغيير الآن؟ التغيير ينبغي أن يكون لصالح نقل لبنان من بلد الطوائف والمذاهب إلى بلد المواطنة والعدالة وتكافؤ الفرص والمؤسسات وحكم القانون . فهل يمكن تصور حصول مثل هذه النقلة في الوقت الراهن؟.

الوقت الراهن هو وقت تصريف الأعمال لا أكثر وقت تحصين الوحدة الوطنية ومواجهة الأخطار والتحديات الخارجية. وقت الحفاظ على البقاء في زمن العواصف التي تقتلع لا شجرة من الأشجار، بل بلدا من البلدان، كما تقتلع العواصف الآن سوريا والعراق واليمن وليبيا، وتحول مدنها إلى آثار وأطلال.

ألا تشكل الدعوة إلى تغيير النظام اللبناني الآن، والحالة هذه ، دعوة في غير محلها، أو ترفا يؤثر عن الكسالى الخالي الذهن والنفس من أية صلة لهم مع الواقع؟ وهل تغيير هذا النظام بالسهولة التي يتصورون؟ وهل في زمن يقظة المذهبية والطائفية ندعو إلى دولة مدنية علمانية على الطريقة السويسرية وهل الوقت هو وقت مثل هذه الدولة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق