الأحد، 8 فبراير 2015

اليسار اليوناني كتعويض عن خيبات «يسارنا»! / ماجد كيالي


شكّل فوز أحد الأحزاب اليسارية في الانتخابات التشريعية في اليونان مناسبة لبعض «اليساريين» عندنا للاحتفاء، كأن هذا فوزهم، بل إن ذلك جعلهم يجددون صوابية مواقفهم، التي تتناسب مع حركة التاريخ، وسمة العصر، والنظرة الطبقية، للواقع والعالم، وفق الترسيمات النمطية للماركسية ـ اللينينية، التي تم صوغها في العالم الأوروبي قبل أكثر من قرن. واضح أن هذا الموقف ينطلق من وجهات نظر أيديولوجية، في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع، مفادها أن تلك النظرية، تصلح لكل زمان ومكان وظرف، ما يضفي عليها طابعا «دينياً»، وهو ما ينزع عنها علميتها، وحيويتها، وقابليتها للتكيف والتطور.


ويمكن تشبيه هؤلاء المحتفين بـ «القرعة التي تتباهى بشعر ابنة خالتها»، حسب المثل المعروف، إذ ليس ثمة أوجه شبه بين اليسار في المجتمعات الأوروبية، واليسار المحنّط عندنا، الذي بات شغله الشاغل محاباة نظم الاستبداد، والتمسّح بمواقفها ضد الامبريالية والصهيونية، والاشتغال في مديح فصائل المقاومة الإسلامية والطائفية. 

ناحية أخرى يفترض الانتباه إليها جيدا، وهي أن اليسار في المجتمعات الأوروبية، وضمنه في اليونان، لا صلة له باليسار الأيديولوجي الكلاسيكي، إذ لن ينجم عن صعوده، لا دكتاتورية البروليتاريا، وحزبها «الطليعي»، ولا تأميم وسائل الإنتاج وتحولها الى ملكية عامة، ولا إلغاء نمط العلاقات الرأسمالية. فقط قد ينتج عنه تحجيم النيوليبرالية المتوحشة، وتعزيز الليبرالية السياسية، المتعلقة بالحريات الفردية والعامة، وتوزيع أفضل للموارد، وزيادة التقديمات والضمانات الاجتماعية.

ما يجدر ببعض يساريينا ملاحظته، أيضاً، أن نظم الليبرالية السياسية في الدول الغربية (وحتى الآسيوية)، هي التي تتيح صعود أحزاب يسارية (اليونان ودول أميركا اللاتينية)، أو اسلامية (تركيا أو غيرها)، في حين أن النظم الشمولية: القومية أو الدينية أو الشيوعية، لا تتيح ذلك البتّة. 

والحال، يستحق حزب «سيريزا» الفائز الاحتفاء به، كتجربة سياسية واعدة، لحزب يقوده شاب مهندس، هو ألكسيس تسيبراس، في مطلع الأربعينيات من عمره، ويتحدر من أسرة عادية، لا تتمتع بنفوذ في المكانة السياسية أو المالية. ولابد ان يتضاعف الاعجاب مع علمنا أن هذا الحزب لا يبلغ من العمر سوى عقد من السنين، تمكن خلالها من الصعود بشكل تدريجي بفضل حيوية قيادته ودأبها وأهليتها الكفاحية. 

مع ذلك، ربما أن الحماسة والإعجاب والتعاطف الزائد والمتسرع، على جري عادتنا، لا تفيد، فنحن إزاء دولة صغيرة، مساحتها أقل من مساحة سوريا، وعدد سكانها 12 مليون نسمة، ودخلها الإجمالي السنوي 333 بليون دولار، ما يساوي الناتج الإجمالي لإسرائيل تقريبا. وفي حين أن حصة الفرد من الناتج السنوي في اليونان أقل من 30 ألف دولار، تبلغ في إسرائيل 36 ألف دولار، وربما يجدر ان نذكر، في هذا السياق، أن الاقتصاد التركي الناهض أكبر بكثير من الاقتصاد اليوناني. 

أما في أوروبا، فإن مكانة اليونان محدودة، فإلى مساحتها الصغيرة، وقلة عدد سكانها، فهي من الدول الضعيفة اقتصاديا في القارة الأوروبية، فحجم اقتصادها يقارب حجم اقتصاد تشيكيا والبرتغال، مثلا، علماً ان حجم الناتج السنوي لهولندا 711 بليون دولار، ولبلجيكا 440 بليون دولار، في حين ان حجم الاقتصاد الألماني يبلغ 3.4 ترليون دولار، وفرنسا 2.4 ترليون دولار، وبريطانيا 2.2 ترليون دولار، وإيطاليا 2 ترليون دولار، واسبانيا 1.5 ترليون دولار. 

حتى على صعيد العملية الانتخابية فإن حزب «سيريزا» لم يحقق تلك النتيجة الباهرة، رغم أهميتها، فهو مضطر للدخول في تحالفات لتشكيل الحكومة، إذ لم يحصل سوى على 36,34 بالمئة من الأصوات (في انتخابات 2012 حاز على 27 بالمئة و3.3 بالمئة عام 2004)، أما حزب اليونانيين المستقلين اليميني، الذي اختاره سيريزا حليفا، فحاز المرتبة السادسة بـ 4,75 بالمئة من الأصوات، مع التذكير بأن الحزب الشيوعي حاز المرتبة الخامسة بـ 6 بالمئة من الأصوات فقط.

وحسب ألكسيس تسيبراس فإنه سيركز، في المجال الداخلي، على رفع الحد الأدنى للأجور من 684 إلى 751 يورو، وإعادة منحة عيد الميلاد للمتقاعدين، ومجانية الرعاية الصحية والكهرباء وتخصيص تذاكر غذاء للفقراء، أما على الصعيد الخارجي فيتركز في مواجهة المطالبات بالتقشف من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وفي كل الأحوال فإن هذا الحزب سيقف في وضع صعب، بالنظر لإمكانيات اليونان الضعيفة، إن بما يتعلق برفع مستوى الدخل، للحاق بالمستويات الأوروبية، أو بما يخص النهوض باقتصاد اليونان، أو في مسألة جدولة الديون، وتقدر بحوالي 300 بليون يورو، علماً أن ثلث السكان تحت خط الفقر ونسبة البطالة عالية.

هكذا، يبدو «اليسار» لدينا، في أغلب الأحوال، بعيدا عن واقعه، وعن حاجات مجتمعه، وحتى عن ما يجري في العالم من حوله، مؤكداً أنه مجرد يسار أيديولوجي، لا أكثر، وهذا ما يفسر احتفاءه بنجاحات الغير في حين لا يرى اخفاقاته المروعة.

طوال نصف القرن الماضي، ظهرت في أوروبا اجتهادات في إطار الأحزاب الشيوعية واليسارية، على خلاف مع الأفكار النمطية السوفياتية، وهي اجتهادات قاربت بين أفكار العدالة الاجتماعية والإدارة العامة للاقتصاد لفائدة النفع العام، والنظرة الليبرالية للحريات السياسية والفردية، وللديموقراطية في النظم السياسية، وهي المقاربات التي لم تنجح تماما في بلادنا، رغم الجهود المبذولة من مفكرين من وزن الياس مرقص وياسين الحافظ ومهدي عامل، وقادة الحزبين الشيوعيين اللبناني، والسوري (المكتب السياسي)، على سبيل المثال. المشكلة أن سيادة النظم الاستبدادية، وتخلف السياسة والثقافة والاجتماع في بلادنا، انعكست على الأحزاب والفصائل اليسارية (وأيضا القومية والدينية)، التي لم تتأثر بشيء مما يجري في العالم، وضمنه التحولات في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وأثرها على الاقتصاد وعلى البنى الطبقية، والتي لم تستوعب حتى معنى انهيار الاتحاد السوفياتي، كنموذج للدولة الشمولية.

المهم، أن فوز اليسار في بلد ما، لا يغطي عورات «اليسار» عندنا، ولا يعوّض بؤسه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق