الاثنين، 23 فبراير 2015

الملا البارزاني وإفلاس العراق بسبب الفساد / جهاد فاضل


يصل العراق اليوم إلى ما لم يصل إليه في أي يوم من تاريخه، فهو ممزق إلى شيع ومذاهب وملل ونحل ولاؤها لذاتها ثم للخارج لا للذات العراقية الجامعة التي يعبر عنها "بالوطنية العراقية"، وتبلغ محنته أقصاها في المجال الاقتصادي إذ يُجمع الباحثون الأجانب والعراقيون أيضًا، على بلوغه نقطة بعدها لن يكون هناك دولة ولا دفع رواتب للموظفين إلا بواسطة عملة تطبع على ورق شبيه بورق الجرائد. وكان أحدث من عرض لهذا الأمر الملا مسعود البارزاني الذي قال قبل أيام بلهجة خالية من الدبلوماسية إن العراق دولة مفلسة. وما يقوله البارزاني صحيح بلا شك وهو يستند إلى علاقة إقليمية بالعاصمة بغداد ومعرفته المباشرة بأحوالها المالية.



ولكن صحته لا تنفي أنه يصدم محبي العراق الذين ظنوا أن ذهاب المالكي من السلطة سيضع حدا لهدر المال العام وسيعيد الإنفاق الحكومي إلى سكته الصحيحة، فإذا بهم يكتشفون أن المالكي الذي كان بالإضافة إلى ألقابه الكثيرة حاكما للبنك المركزي العراقي، قد نظف هذا البنك من محتوياته قبل رحيله، وأودع قسما كبيرا منها في مصارف بعيدة وغير بعيدة.

إذا عدنا إلى الخمسينيات من القرن الماضي وجدنا التفاؤل هو طابع الدراسات التي تتحدث عن مستقبل العراق. كانت هذه الدراسات تعتبر أن الاقتصاد العراقي القوي من العوامل التي ترشح العراق، لا سواه، لقيادة المشرق العربي، وعلى التحديد ليكون بروسيا العرب المشهورة في القرن التاسع عشر كبؤرة نهضة قادت وحدة ألمانيا، أو ليكون ألمانيا أو اليابان المعاصرة. وإذا ذهبنا أبعد في الزمن، وإلى العصر الجاهلي تحديداً، وجدنا أحد شعرائه، وهو زهير بن أبي سلمى، يقول في بيت من أبيات معلقته:

"فتُغلل لكم ما لا تغل لأهلها / قرى بالعراق من قفيز ودرهم". يبدو أن العراق زمن ابن أبي سلمى كان مشهورا بجودة أراضيه الزراعية وما تنتجه وما يجعله مضرب المثل في الغنى ورخاء العيش. لم يكن النفط قد ظهر بعد أو عرف العالم أن احتياطي العراق منه هو أول أو ثاني أو ثالث احتياط في العالم. ولكن كانت النُخب العربية تعرف أن ثروة العراق هذه تؤهله لزعامة العرب، وتؤهله قبل كل شيء ليكون بلدا صناعيا بالمعنى المعروف للكلمة. ولا شك أن بيت زهير بن أبي سلمى حول نجاح الزراعة العراقية في الماضي سيكون حافزا أيضا لتحويل هذه الزراعة إلى زراعة حديثة آخذة بكل إنجازات الزراعة الحديثة. فيا للحسرة التي تحرق القلوب!

ويحمد لرئيس الحكومة العراقية الحالي تمتعه بصراحة يُفترض أن يتمتع بها الحكام عادة. فقد قال لمستمعيه في منتدى دافوس الاقتصادي قبل أسابيع: "ليس لدينا ما يكفي لتسيير نفقاتنا العادية، وفي الوقت نفسه تمويل الحرب ضد داعش"، والكلمة دقيقة. تراجعت أسعار النفط بشكل غير متوقع بعد سنوات من الوفرة المالية، وكانت الحكومات العراقية السابقة تبنت سياسات إنفاق اعتباطية وكان تفكيرها الاقتصادي يقوم على افتراضين خاطئين، الأول أن أسعار النفط ستحافظ على مستوياتها العالية، والثاني أن العراق سيواصل زيادة إنتاجه ليحقق موارد أكبر. افتقرت هذه القراءة التبسيطية لأي قراءة لطبيعة حركة النظام الاقتصادي العالمي والنتائج المحتملة لدخول منتجين جدد للسوق. كما أنها لم تحسب حسابا لما هو أسوأ: أن يدخل العراق مجددا في دائرة عدم الاستقرار السياسي ليخوض حربا مكلفة جديدة.

لكن الأمر لا يتعلق فقط بغياب الرؤية لدى صانع القرار، بل بعدم وجود صانع قرار، وعدم وجود "اقتصاد سياسي عراقي" بالمعنى الذي يمكن معه فهم كيف تدار العملية الاقتصادية في هذا البلد. فما يوجد في العراق في الواقع ليس نظاما اقتصاديا بل آلية غير ناضجة لتوزيع العوائد النفطية، بحسب تعبير خبير اقتصادي. العراق هو البلد الأكثر اعتمادا على الريع النفطي في العالم حيث تمثل المردودات المالية لبيع النفط حوالي 93 بالمائة من الميزانية الحكومية، وهو ما يقارب 69 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
ويعني ذلك أن أي محاولة لبناء رؤية استراتيجية حول مستقبل العراق ينبغي أن تبدأ بالتعامل مع أكبر نقاط ضعفه، وذلك بالإجابة على السؤال: ما الذي يمكن فعله إن لم نستطع تصدير النفط لأي سبب، وكيف سندير البلد عندها؟

واجه العراق هذا السؤال عام 1990 عندما فرض مجلس الأمن الدولي أقسى عقوبات اقتصادية في تاريخه ضد أحد بلدانه الأعضاء على خلفية غزو صدام حسين للكويت. ما حصل بعدها خلف كارثة إنسانية واجتماعية كبرى. حصل تضخم غير مسبوق بحيث فقدت العملة العراقية قيمتها وصارت تطبع على الورق العادي. تفكك ما تبقى من الطبقة الوسطى. حدث شبه انهيار للنظام الصحي مما خلف معدلات عالية من الوفيات بين الأطفال ونقص مريع في الأدوية، وانهيار تدريجي للبنية التحتية، وتراجع كبير في مستوى التعليم، واستشراء الفساد في جميع مؤسسات الدولة.

بعد عام 2003 دخل العراقيون في صراع على السلطة، وعلى إيقاع الانفجارات وحروب الشوارع وصار الأمن هو الهاجس الأول، وغاب أي سؤال عن الاقتصاد. صار الهم الرئيسي هو أن يبقى الفرد وأسرته على قيد الحياة. أما الخوض في أسئلة عن الغد فكان نوعا من الترف. هكذا صُنع عراق ما بعد صدام: غاب الغد عن الأجندة!

ولعل الفساد كان أبرز ما حضر. يُجري أحد الباحثين الأجانب (فرانك غوينتير في كتابه الاقتصاد السياسي في العراق) مقارنة بين الفساد في ظل سلطة صدام حسين وبين الفساد في المرحلة التي تلته. يقول إنه في ظل سلطة صدام حسين كان معظم النشاط الاقتصادي مؤمنا ومسيطرا عليه من الدولة، وكان لأفراد عائلة صدام وحلفائهم نفوذ اقتصادي كبير وبالتالي كانوا يستولون على حصة الأسد من منافع النشاط الاقتصادي.

لكن الفساد اتسم بأنه أكثر صدقية لأنه كان منظماً ومهيكلاً، بحيث أن المواطن عندما يرشي موظفًا حكوميًا، فإن هذا الموظف يؤدي المطلوب منه على نحو موثوق. أما الفساد الحالي في العراق فإنه أكثر ديموقراطية بنظر هذا الباحث لأنه يتوزع على مستويات مختلفة ولا تحتكره فئة واحدة، لكنه في الوقت نفسه أكثر تشابكا ويقوم على روح المجازفة ولا يخضع لهيكلة واضحة.

فالمسؤولون والموظفون الحكوميون يتعاونون أحيانا، ويتنافسون في أحيان أخرى على تنظيم عوائدهم ليس فقط من المواطن العادي، ولكن أيضا من الفروع الأخرى للجهاز الحكومي. ولا تكمن خطورة الفساد في العراق اليوم في جسامته وحسب، بل أيضا في أنه غير مهيكل، ويستجيب لمراكز قوى عدة، وبالتالي فإنه لا يعيق علم النظام فقط، بل يمنع وجود أي نظام واستقراره. وفي ظل هذا النسيج المخيف من الوقائع والدمار المادي والمعنوي، يدخل العراق عصر تقشف جديد، بلا خطة واضحة غير الاتكال على ما يمكن أن يجود به القدر من مفاجآت.

في سفر أيوب في التوراة تنزل الكوارث تباعا على أيوب. يموت أولاده جميعا وتسرق إبله وغنمه، ولكن روحه تسلم له في نوع من تجربة روحية قاسية يمتحنه بها الله. يفقد أيوب كل شيء ما عدا بقايا الروح المقيمة في جسد منهك منهار. أيوب هو العراق اليوم في أقسى تجربة وطنية وسياسية واقتصادية واجتماعية تعصف به.

ولكن بعض الدماء ما تزال تقيم في الجسد المنهك. ومحبوه الكُثر، ونحن منهم يتمنون له النشور والانبعاث اللذين تمناهما له ذات يوم شاعره المعذب الآخر بدر شاكر السياب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق