الثلاثاء، 24 ديسمبر 2013

الريف الأمريكي الذي لا يعرفه أحد / زكريا فكري



في عام 1995 دعاني مزارع أمريكي يعيش في قرية جرينيل بولاية أيوا الأمريكية على الغداء .. كان ذلك خلال زيارة ضمن وفد صحفي عربي في إطار برنامج شهير لوكالة الإعلام الأمريكية يطلق عليه (انترناشيونال فيزيتور).. في المطعم شاركتنا زوجته الغداء وكانت بشوشة وعلى مستوى راق ولا تكاد تزيد أو تنقص عن زوجها الرجل العصامي الذي اصبح يملك مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية يزرعها بالقمح والذرة إضافة إلى تجارته الرائجة في مجال المعدات والجرارات الزراعية. بعد أن تناولنا الغداء قام المزارع الأمريكي بسداد الفاتورة  للمطعم عني وعنه فقط، بينما ترك زوجته تسدد عن نفسها حساب ما تناولته من طعام.. فعرفت انه أسلوب و(ستايل) حياة الغرض منه الحد من المجاملات وضبط التفاصيل الحياتية التي قد تفلت بدون مبرر… تعجبت من التصرف الذي اصبح معتادا هذه الأيام ويحلو للبعض أن يطلق عليه من وقت لآخر (نظام التعامل الإنجليزي).
قرية جرينيل تأكل من المحاصيل التي تزرعها من بطاطا وذرة وقمح وما تنتجه من بروتينات كالدواجن واللحوم.. لدرجة انك تجد البطاطا لديهم تجهز بأكثر من طريقة (سلق – شوي – قلي) ونادرا ما تجلس على موائد القرية وتجدها خالية من حساء الذرة الذي يشتهرون به هناك.. في هذه القرية وجدتهم ينامون ويتركون أبواب منازلهم غير موصدة مطمئنين لا يخشون السطو أو السرقة.. بينما في واشنطن ونيويورك أو المدن الكبرى تجد أن أول نصيحة يوجهونها لك كزائر هي: ألا تسير بعد السابعة مساء بمفردك ولا تحتفظ في جيبك بنقود تزيد عن 20 دولارا.. وإذا تعرضت للخطر فعليك أن تطلق ساقيك للريح وتجري..!  أما في جرينيل فالوضع مختلف واعتقد أن هذا هو الحال في معظم قرى الريف الأمريكي الذي لا يتصدر المشهد كثيرا  بل تتصدره حضارة المباني وناطحات السحاب وعواصم المال والنفط في الولايات المتحدة الأمريكية.
المزارعون في الولايات المتحدة الأمريكية لديهم مقاييس لقياس نسبة المطر والرطوبة ودرجة الحرارة.. كما أن مكاتبهم مزودة بخرائط للمنخفضات الجوية وتتبع الأنواء المناخية أولا بأول.. لا يعتمدون في الزراعة على الأيدي العاملة وإنما على الآلة التي تحرث وتبذر وتحصد وتجمع ثم تخزن في مخازن مغطاة على مساحات كبيرة.. هذه الأعمال كلها يقوم بها ملاك الأرض انفسهم ويقودون جرارات الحرث والحصاد بأنفسهم.. هم وأبناؤهم يتولون كل شيء كما أنهم يتواصلون مع مراكز البحوث الزراعية ويتبعون الإرشادات بكل دقة.. لذا لا نتعجب عندما نجد الولايات المتحدة الأمريكية تتربع على عرش اكبر الدول المصدرة للقمح والذرة في العالم إن لم يكن الغذاء بمعناه الواسع.
حيث تبلغ مساحات الأراضي المنزرعة في الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب من 400 مليون هكتار – ما يزيد عن 200 مليون فدان. ووفقا للإحصائيات الحديثة يصل حجم الدخل من الزراعة 200 مليار دولار وهي الأولى بين دول العالم في القمح واللحم البقري، ينتج الفلاحون الأمريكيون أيضاً كميات كبيرة من القطن والذرة والأرز والسكر وفول الصويا والتبغ وكذلك الحليب، ومنتجات الألبان المختلفة.
هذا الدخل الضخم الذي يأتي عن طريق الزراعة بالولايات المتحدة الأمريكية يأتي في ظل حجم أيد عاملة بالقطاع لا تتجاوز 4% من مجموع السكان. ويبلغ عدد المزارع مليوني مزرعة بمتوسط 149 هكتارا لكل مزرعة.
ورغم ارتفاع الدخول في الولايات المتحدة الأمريكية بصفة عامة إلا أن الإنفاق والاستهلاك لدى الأمريكيين منضبط إلى حد كبير.. وينعكس ذلك على حياتهم وطرق إنفاق الزوج والزوجة وانفصال حساباتهم المالية عن بعضها البعض دفتريا وواقعيا.
حتى الحفلات والمناسبات التي كان يشتهر فيها المجتمع الأمريكي بالبذخ كاحتفال يوم القديسين (الهالوين) وغيرها قد تقلصت بشكل ملحوظ وبمعدل 7% وفقا لإحصائيات الاتحاد الدولي للتجارة.. وليس الأمر بالطبع يرجع للازمات المالية التي يمر بها المجتمع الغربي والأمريكي من وقت لآخر وإنما هذا الأمر والترشيد في الاستهلاك يرجع في المقام الأول لثقافة الأولويات التي نشأ عليها المواطن هناك والتي هي على العكس تمام في المجتمعات العربية التي تربت على ثقافة إشباع الاحتياجات والرغبات دون تحديد أولويات وقد أذاعت الجزيرة مؤخرا تقريرا مذهلا لحجم الإنفاق الاستهلاكي في دول الخليج والذي تجاوز ما تنفقه الصين بتعدادها السكاني الذي تجاوز المليار نسمة على السياحة والسفر والهواتف الذكية إضافة إلى أدوات التجميل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق