الثلاثاء، 24 ديسمبر 2013

آسيا وآلهة الانتقام التاريخية / جاسوانت سينغ




ـ إن السياسة الخارجية لأي بلد يفترض أن تستهدف في المقام الأول تعزيز مصالحها الوطنية. ولكن في أجزاء كبيرة من آسيا، تخضع المصلحة الوطنية غالبا ــ سواء كانت بناء علاقات تجارية أو تعزيز الأمن ــ للتاريخ وقبضته على الخيال الشعبي. وكما اكتشف نائب رئيس الولايات المتحدة جو بايدن مؤخراً في جولته في اليابان والصين وكوريا الجنوبية، فإن ملاحظة الروائي الأميركي ويليام فوكنر ــ "الماضي لا يموت أبدا، وهو ليس ماض حتى" ــ من غير الممكن أن تكون أكثر ملاءمة.

ومن بين الأمثلة التي كثيراً ما يُستشهَد بها على هذا العلاقة بين الهند وباكستان. إن رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينج ورئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف يدركان الإمكانات الاقتصادية الهائلة التي قد تترتب على تحسين العلاقات التجارية الثنائية بين البلدين، ومن الواضح أن التقدم الذي سعى الرجلان إلى تحقيقه في هذا المجال يصب في المصلحة الوطنية للبلدين. ولكن مبادراتهما الدبلوماسية سرعان ما أحبِطَت بفعل أولئك الذين لا يمكنهم تقبل مثل هذا المنطق، والذين لا يتورعون في بعض الأحيان عن ارتكاب أعمال إرهابية وشن غارات عسكرية.

ولكن مشكلة التاريخ في آسيا لا تقتصر على ديمقراطياتها، حيث يؤثر الرأي العام بشكل مباشر على تصرفات الحكومة. فلا تزال الصين وفيتنام أيضاً أسيرتان لتاريخهما المشترك الطويل المرير. وقد أمضى الجنرال الراحل فو نجوين جياب، الذي قاد فيتنام عبر الحروب ضد فرنسا والولايات المتحدة إلى الاستقلال، سنوات عمره الأخيرة في الاحتجاج على الاستثمارات الصينية في بلاده.

ولعل الحالة الأشد خطورة في آسيا من الهوس التاريخي تتمثل في العلاقة بين الصين واليابان. والواقع أن النزاع الحالي في بحر الصين الشرقي حول جزر سينكاكو التي تسيطر عليها اليابان (والتي تسمى جز دياويو في الصين) كان من المحتمل أن يصبح أقل توتراً وحِدة إذا لم تُجتَر فظائع الحرب الصينية اليابانية بهذه الكثافة في الحياة الصينية المعاصرة.

الواقع أن اليابان حاولت التكفير عن أفعالها في الماضي، بما في ذلك تقديم الدعم الحماسي لجهود دينج شياو بينج لفتح اقتصاد الصين. فلم تكن تريليونات الين التي استثمرتها الشركات اليابانية في الصين منذ تسعينيات القرن العشرين ــ ناهيك عن نقل التكنولوجيا الحرجة ــ سعياً إلى الربح فحسب (ومن الواضح على أية حال أن الاستثمارات اليابانية أفادت اقتصاد البلدين).

ولكن برغم أن هذه الجهود ساعدت في تعميق العلاقات الاقتصادية بين اليابان والصين، فإنها لم تكن كافية لفرض ذلك التأثير التحويلي على العلاقات الثنائية كما كان المرء ليتوقع. والواقع أن العلاقات بين البلدين أصبحت تتسم الآن بما يسميه اليابانيون "السياسة الباردة والاقتصاد الساخن".

ويطارد التاريخ الكريه أيضاً العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية ــ وهي حالة كاشفة بشكل خاص، نظراً لمدى توائم مصالح البلدين الاستراتيجية. فهاتان ديمقراطيتان، وكلاهما من بين أقرب حلفاء أمريكا، ولكنهما رغم ذلك عاجزتان عن التغلب على عبء الماضي. فهو بالنسبة للكوريين الجنوبيين عبء ثقيل تمتد جذوره إلى الاستعمار الياباني والفظائع التي لا تعد ولا تحصى التي ارتُكِبَت في الحرب العالمية الثانية. ولكن الحقيقة البسيطة هي أن كلا البلدين من الممكن أن تستفيد بشكل كبير من الناحية الأمنية بشكل خاص من التعاون الفعّال بينهما.
والواقع أن تعبير "السياسة الباردة والاقتصاد الساخن" يشكل تعريفاً دقيقاً للوضع الراهن: فالبلدان العاجزة عن التغلب على عداواتها التاريخية عندما يتلعق الأمر بالسياسة الخارجية تعترف بسهولة بأن العلاقات الأفضل تعني اقتصاد أفضل. وقد شهدت منطقة شرق آسيا بشكل خاص ارتفاعاً غير مسبوق في التجارة البينية الإقليمية، والاستثمار، بل وحتى السياحة على مدى العقدين الماضيين.

ورغم هذا فهناك ما يدعو للأمل ــ ويأتي هذا الأمل من مصدر غير متوقع. فمع الجهود التي تبذلها الصين لفرض نفسها كقوة مهيمنة إقليمية والتي تعمل على تأجيج المخاوف في مختلف أنحاء آسيا، تبدو جاراتها بشكل متزايد على استعداد للتخلي عن الأحقاد القديمة لصالح تحالفات أقوى. على سبيل المثال، شهدت علاقات اليابان بفيتنام وميانمار، وكل منهما تشارك الصين الحدود، حالة سريعة من الدفء في الأعوام الأخيرة ــ وهو الاتجاه الذي سعى رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي إلى رعايته.

وعلى نحو مماثل، بادرت الفلبين ــ العالقة في مواجهة مع الصين بشأن مجموعة صخور سكاربورو الضحلة المتنازع عليها ــ إلى تنحية ذكريات الاحتلال الياباني الأليمة وقت الحرب، وتقبلت زيادة المعونات والمساعدات البحرية، بما في ذلك عشر سفن دورية بلغت قيمة كل منها 11 مليون دولار أمريكي، للمساعدة في المراقبة البحرية. حتى أن وزير خارجية الفلبين ألبرت ديل روساريو أعلن على الملأ أن بلاده ترحب بسياسة دفاعية يابانية أكثر قوية للتعويض عن الحشد العسكري الصيني.

وأحد أسباب هذا التحول هو أن كثيرين في الفلبين شعروا بأنهم مهجورون بعض الشيء من قِبَل الولايات المتحدة في مواجهتهم مع الصين. ومع تأكيد الصين على نحو متزايد على مطالباتها بالسيادة على مناطق في بحري الصين الشرقي والجنوبي، فإن بعض البلدان الآسيوية الأخرى قد تجد أيضاً أن عبء التاريخ يشكل عقبة عظيمة تحول دون تحسن فرصها في المستقبل.

ومن الممكن أن تقطع اليابان شوطاً طويلاً نحو مساعدة جيرانها في التغلب على الماضي المسمم الذي تتقاسمه مع العديد منهم نتيجة لطموحاتها الإمبراطورية القديمة. وكما كانت حملة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في مكافحة الشيوعية سبباً في دفعه إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين، فإن آبي قد يكون السياسي الياباني الأكثر قدرة على مزج الندم على الماضي بالانفتاح والصراحة في التعامل مع الحاضر.

والنبأ السار هنا هو أن آبي أظهر علامات هذا النوع من الشجاعة. ففي قمة العام 2006 مع الزعيم الصيني أثناء توليه منصب رئيس وزراء اليابان أول مرة، وافق آبي على إنشاء لجنة مشتركة تضم مؤرخين من اليابان والصين وأماكن أخرى، لدراسة تاريخ القرن العشرين. وكانت الفكرة أن هذه اللجنة من الممكن أن تخرج بتوصيات غير منحازة بشأن قضايا خلافية مثل محتوى كتب التاريخ المدرسية بل وحتى ضريح ياسوكوني الذي يحتوي على رفات مجرمي حرب يابانيين بين آخرين.

إذا أحيا آبي هذه المبادرة اليوم فسوف يكون بوسعه أن يساعد في تخفيف العداوات الإقليمية التي يواجهها في محاولة جعل اليابان دولة "طبيعية" تمتلك قدرات عسكرية تمكنها من المشاركة في الدفاع الإقليمي الجماعي. والواقع أن هذه المبادرة قد لا تنجح مع الصين، حيث لا تزال الحكومة تستخدم الحرب مع اليابان لإثارة المشاعر القومية. ولكن البلدان التي تستشعر وطأة الضغوط التي يفرضها صعود الصين، مثل كوريا الجنوبية ــ كما أظهرت الضجة الحالية التي أثيرت حول توسيع الصين لمنطقة دفاعاتها الجوية من جانب واحد ــ قد تقابل مثل هذا الجهد بالمثل. وهذا وحده لابد أن يكون سبباً كافياً لدفع آبي إلى العمل.

جاسوانت سينج : وزير المالية والخارجية والدفاع سابقاً في الهند.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق