الثلاثاء، 17 ديسمبر 2013

ماذا بقي من يوغوسلافيا التيتوية ؟ / محمد م. الأرناؤوط


مرّت قبل أيام الذكرى السبعون لاعلان تأسيس جمهورية يوغوسلافيا الفيدرالية وذلك في الاجتماع الثاني لـ"مجلس التحرير الوطني اليوغوسلافي المناهض للفاشية" (أفنوي)، الذي عقد في 29/11/1943. وقد كان هذا اليوم (يوم الجمهورية) من أهم الاعياد في يوغوسلافيا التيتوية الى انهيارها في 1992، حيث انبثقت منها بعد سلسلة نزاعات وحروب سبع جمهوريات (سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة ومكدونيا وصربيا والجبل الاسود وكوسوفا).
وقد كانت هذه مناسبة لتفحص مابقي من "يوغوسلافيا التيتوية" على أرض الواقع وفي أذهان الاجيال، سواء التي عايشت يوغوسلافيا التيتوية أو التي سمعت عنها خلال أحاديث الكبار في البيوت. 
فعلى الرغم من النزاعات والحروب لاتزال يوغوسلافيا التيتوية حاضرة في الحنين للماضي بعد الكوارث والمآسي التي حلّت بشعوبها وحاضرة في الاقتصاد أيضا بسبب تشابك الموارد والمصانع من أيام يوغوسلافيا التيتوية التي توزعت الان الى جمهوريات عدة. فعلى الرغم من النزاع المسلح بين الصرب والالبان وتدخل الناتو في 1999 لاتزال 40% من تجارة "جمهورية كوسوفا" مع صربيا ! ومن ناحية أخرى ينقسم الجيل المخضرم بين قسمين : من يحتفظ باحترامه لتيتو في سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة ويحنّ الى عهده ومن يعتبر تيتو سببا في كل ماحصل، وخاصة في صربيا والجبل الاسود. ولكن على الرغم من الحنين الى الماضي لايوجد استعداد للعودة الى النظام السياسي السابق ولا الى الاتحاد اليوغوسلافي السابق بعد أن أصبحت الجمهوريات المنبثقة عن يوغوسلافيا السابقة تتنافس على الانضمام الى اتحاد أوسع وجاذب اكثر للمستقبل : الاتحاد الاوروبي.
ولكن المهم هنا ماذا بقي في أذهان الجيل الشاب الذي ولد بعد 1992. فالشباب لايعرفون الكثير عن "يوغوسلافيا التيتوية"، ومايعرفونه هو فقط مايسمعونه احيانا من أحاديث الكبار عندما يجتمعون في البيت. مايسمعونه يعبّر عن الحنين للماضي أو "العهد الذهبي" ليوغوسلافيا حين كان اليوغوسلافي يسافر بحرية في دول العالم بجوازه الاحمر الذي كان يشعره بالاعتزاز، ومايعرفونه من أحاديث الكبار أخبار عن بلد كما في الحكايات: حيث كان الناس لايغلقون أبواب بيوتهم ليلا، وحيث كان العامل او الموظف يعمل بأمان الى أن يتقاعد دون أن يتهدده أحد بالفصل من العمل، وحين كان اليوغوسلاف يتمتعون بوضع معيشي يسمح لهم بقضاء العطلة الصيفية على البحر في شواطئ اليونان أو في شواطئ تونس.
إلا أن الجيل الشاب مع كل مايسمعه ينظر بتحفظ الى "الحنين الى الماضي" لانه يعتبر ذلك نتيجة للنكسات والمآسي التي حلّت بمكونات يوغوسلافيا التيتوية نتيجة للنزاعات والحروب، على حين أن مايهم الشباب الان عيش الحاضر لاجل المستقبل الافضل. وعلى هذا يعبر أحد الشباب عن أفراد جيله بالقول "لايوجد ما يستحق العودة الى الماضي بل من الافضل التفكير عما سيكون عليه مستقبلنا".
ومع ماحدث بيوغوسلافيا في 1992 فقد بقيت رموز كثيرة تذكّر بتيتو. صحيح أن بعض المدن التي كانت تحمل اسم تيتو في صربيا والجبل الاسود استعادت اسمها القديم (من تيتوغراد الى بودغوريتسا عاصمة الجبل الاسود الخ) كما أن تماثيل تيتو لم يعد لها وجود في صربيا والجبل الاسود ونصف البوسنة (جمهورية الصرب) إلا أنه في بعض الجمهوريات الاخرى (كرواتيا والبوسنة ومكدونيا) لاتزال بعض المدارس تحمل اسمه ولاتزال بعض التماثيل لتيتو تنتصب عاليا كما في الماضي.
وقد تصادفت الذكرى السبعون لتأسيس يوغوسلافيا التيتوية بظهور تمثال ضخم لتيتو أمام المدرسة التي تحمل اسمه في قلب سكوبيه عاصمة "جمهورية مكدونيا". وتجدر الاشارة هنا الى أن "جمهورية مكدونيا" كانت الوحيدة التي انسحبت من الاتحاد اليوغوسلافي دون مشاكل مع بلغراد وأعلنت استقلالها دون حرب في ايلول 1991. كما أن "جمهورية مكدونيا" تدين بوجودها الى "يوغوسلافيا التيتوية" التي اعترفت بوجود "شعب مكدوني" مستقل عن شعوب يوغوسلافيا وحق هذا الشعب بـ"دولة قومية" تعبّر عنه، وهو ما أثار في ذلك الحين معارضة بلغاريا (التي تعتبر سلاف مكدونيا جزءا من الشعب البلغاري) ومعارضة اليونان (التي تعتبر اسم مكدونيا جزءا من تراثها القومي). ولاجل ذلك بقي في "جمهورية مكدونيا" مايذكّر بتيتو.
ولكن التمثال الضخم الذي ظهر فجأة في الساحة المجاورة للمدرسة التي تحمل اسم "جوزف بروز تيتو" أثار الكثير من السجال والاختلاف، حيث لم يعرف حتى الان من تكلّف به ومن قام بوضعه هناك. فالتمثال الضخم هو نسخة طبق الاصل عن التمثال الموجود في مسقط رأس تيتو في كرواتيا، الذي أنجزه النحات الكرواتي المعروف انطون اوغسطينتشيتش، ولكن لايعرف أحد حتى الان لا في البلدية ولا في الحكومة ولا في الاحزاب السياسية عن من وضعه هناك. فالحزب الاشتراكي الديموقراطي (وريث الحزب الشيوعي من يوغوسلافيا التيتوية) ينفي أي علم له بذلك، وكذلك التحالف الحكومي الذي يمثل اليمين القومي المكدوني - الالباني. وكي تكتمل هذه "الاحجية" فإن سلوبودان اوغرينوفسكي رئيس الحزب الصغير "القوى اليسارية التيتوية"، الذي لم يحظ بأصوات كافية لدخول البرلمان، صرّح بدوره بأنه لايعرف من بادر الى وضع هذا التمثال مع انه شارك في الاحتفال بإزاحة الستار عن التمثال ! والتفسير الوحيد الذي قدّمه ان وراء هذا التمثال "سكان سكوبيه الذين يحترمون تيتو والذين يتزايد عددهم باستمرار".
والى أن يتضح ذلك يمكن القول ان اسم تيتو وتماثيله ستبقى هنا وهناك في أرجاء يوغوسلافيا السابقة لتخفى الحنين الى الماضي لدى بعض السكان على الاقل الذي عايشوا "العهد الذهبي" ولم يجدوا بعد بديلا أفضل بعدما دفعت الخصخصة وأخواتها بالكثير من العاملين الى بطالة أو الى تقاعد بسيط لا يؤمن الحد الادنى من الحياة والكرامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق