السبت، 23 نوفمبر 2013

فيليب كوركوف: هل البناء الاجتماعي اليوم محرر حقاً؟




قصي الحسين
لعل ملامح النقاشات الجديدة التي شهدتها علوم الاجتماع الفرنسية بدءاً من ثمانينات القرن العشرين، سواء من خلال الإشكالات الأصيلة أو من خلال استخدامات الكتّاب الأجانب الأكثر قدماً أحياناً كثيرة، قد أسهمت حقاً بتناول علم الاجتماع كعلم نظري/ تجريبي، أي كمنتج معارف عن الواقع القابل للمراقبة، والمغربل بتصورات، والمزود بأدوات منهجية للتقصي. وخير دليل على ذلك ما تحيلنا إليه دراسة فيليب كوركوف والتي نجحت في ميادين عدة من التعليم الجامعي لعلم الاجتماع وخصوصاً تعليم العلوم الاجتماعية. ولهذا ربما، تمت ترجمتها إلى لغات عدة على التوالي: البرتغالية 1997 والإسبانية 1998 والصينية 2001 والبرتغالية البرازيلية 2001 والروسية 2002 والرومانية 2005، وفي الفترة الأخيرة الفارسية وأيضاً العربية. فحملت تساؤلاتها إلى ما وراء الحدود الناطقة بالفرنسية لتبلغ عالماً معولماً أكثر فأكثر.
والسؤال الذي يُطرح، أنه حين يشكل علم الاجتماع الفرنسيّ، وحاله حال أي واقع إنساني، صيغة اجتماعية متغيرة، فماذا إذاً عن علوم الاجتماع الجديدة منذ 1995، خصوصاً أن النماذج النظرية لا تولد أو تموت بهذه الكثرة ولا بهذه السرعة. فقد بقيت لذلك التيارات الأساسية والكتاب الأساسيون، وظلوا يمدون النقاشات والدراسات والأبحاث، سواء تعلق الأمر بالمرجعيات والمراجعات القديمة مثل ألفرد شوتز ونوربير الياس، أو بالباحثين والبحوث الأركان مثل بيتر بيرغر وتوماس لوكمان وبيير بورديو وهارولد غارفينكيل وآرون سيكوريل وأنطوني غيدينس، أو بالأحدث منهم أمثال ميشيل كالون وبروفو لاتور أو لوك بولتانسكي ولوران تيفنو، ولو أنهم عرفوا كما نجد، بعض الانعطافات والتطورات الجديدة، وربما القراءات المحددة، كإطار جديد يجمع بين الموقف النقدي والمصلحة المنفعية كما هو الحال مع "بولتانسكي".
بظهور تيارات جديدة وكتاب جدد، كان لا بد أن ينعكس ذلك في حقل الأعمال التي هي قيد التطوير حول المفاهيم المتقاربة للفرادة الفردية والفردانية، كما بدا لنا في الفصل الرابع (ص 84) والذي جاء تحت عنوان: "أفراد مفردون ومفردنون وجمعيون". وكذلك الأمر في ثلاثة قطاعات أخرى، نشطت في الآونة الأخيرة وكثر الحديث عنها، من دون أن يستأني الباحثون الاجتماعيون فيها مثل تحليل الشبكات الاجتماعية (ص 23) وإشكاليات البناء الاجتماعي في الاقتصاد (ص 51) والذي يغذي - باتساع عظيم علم الاجتماع الاقتصادي والأعمال النسوية خصوصاً على مستوى حيازة الدراسات الجنسانية Gender Studies الإنجليزية الأميركية (ص 71).
وما دام الحديث يتصل عن جديد هذه الدراسة عن سابقاتها، فقد لامست مكانة المرجع البنائي أيضاً شيئاً من التغيير. ومن الممكن وصف مفهوم "البناء الاجتماعي للواقع" بأنه صياغة قياسية للتطور، بحسب توصيف علم المعرفة الاجتماعي لجان كلود باسرون. إذ بالنسبة لهذا الأخير فإن العلوم الاجتماعية لكونها علوماً للمقارنة التاريخية، فإنها تمتد في فضاء "علمعرفي" مصنوع من التوترات بين الأهداف التنظيمية لأبنيته النظرية، وبين فرادة السياقات التاريخية التي التقطت منها مثل هذه الملاحظات الهامة والدقيقة.
وفي هذا الإطار ربما، يمكن أن تقع التصورات في العلوم الاجتماعية. وربما تكون أيضاً قياسية من حيث انها تشير إلى تشابهات من دون أن تقصي الاختلافات بين سياقات تاريخية مختلفة، وإن تكن غير متطابقة تماماً. ومن هنا يمكن الحديث مثلاً بشكل قياسي عن "طبقة عاملة" في إنكلترا القرن التاسع عشر، وفي فرنسا اليوم، تماماً كما يمكن التوسع قياسياً في مفهوم "رأس المال" عند ماركس، حين التحدث عن "رأس مال ثقافي" كما فعل مثلاً "بورديو".
وحسب "هاكينغ وباسرون"، كما يرى المؤلف: أن مفهوم "البناء الاجتماعي للواقع" مثله مثل كل صياغة قياسية للتصور، قد سمح بميادين جديدة للاستقصاء في العلوم الاجتماعية، ولو أنه ترك ميادين أخرى في الظل. وعبر فيلسوف العلوم الأميركي "يان هاكينغ" Ian Hacking عن ازدواجية المفهوم، كما يقول "كوركوف" بينما ازداد انتشاره أكثر فأكثر في ما وراء الأطلسي. وهو يستشهد بـ"هاكينغ" حين يقول: " كانت فكرة البناء الاجتماعي في سياقات عديدة فكرة محررة بحق"... وتذكرنا هذه الفكرة خصوصاً بأن الأمومة ومعانيها ثابتة بشكل قطعي ولا مفر منها، بل ترتبط بالإنجاب والتربية. وهي تنتج عن حوادث تاريخية وقوى اجتماعية وإيديولوجيا".. ويمكن لنجاح بلاغة البناء الاجتماعي أن يفعل أيضاً فعل الخلايا السرطانية بتكاثره من دون السيطرة عليه".
وبرأي الباحث أن التقابل بين الجماعي والفردي في جميع النقاشات داخل العلوم الاجتماعية لا يجعل من البنائية علاجاً لهذه المشكلة. إذ إن قطبية الشمولية والفردانية سرعان ما تظهر ماثلة في "العلاقة المنهجية" كبرنامج ثالث، من دون أن تنضوي تحت البنائية الاجتماعية. وكانت الإشكالية البنائية قد ظهرت في الدراسات السابقة على أنها تجاوز للتناقضات الموروثة من الفلسفة، ومن ضمنها تلك التي تقابل بين الجماعي والفردي. وهذا الموقف يضرب في جذوره كافتراض فكري مسبق، وكموروث بشكل غير واعٍ من قراءات "هيغل" Hegel (1770- 1831) حول الثالوث: نظرية نظرية مضادة توليفة. ولهذا يتم التساؤل أين أصبحت وإلى أين تتجه علوم الاجتماع الفرنسية في بداية القرن الواحد والعشرين؟
على ذلك يرد "فيليب كوركوف" بقوله: "إن قلب علم الاجتماع الفرنسيّ يقع أكثر من الماضي جيئة وذهاباً بين النظرية والتجريب. بين التصورات والاستطلاع، تماماً كما يقع في المواجهات مع الميادين التجريبية والمناهج المضبوطة. ولذلك عزم الباحث على سبر الإرث الفلسفي في البرنامج العلاقي واللغة البنائية كمدخل أولي لدراسة البنى الاجتماعية وتفاعلاتها ومن ثم الانتقال لدراسة هذه التفاعلات في البنى الاجتماعية. كما أولى اهتماماً خاصاً بدراسة بناء الجماعات والتصنيف الاجتماعي، مخصصاً بحثاً مستقلاً للحديث عن الأفراد كظاهرة "أفراد مفردون ومفردنون وجمعيون"، لينتهي للحديث عن علم الاجتماع المنفعي للوك بولتانسكي ولوران تيفنو اللذين استخلصا صيغة منفعية تتمحور حول "الفعل المتموقع" و"علم اجتماع أنظمة الفعل" أو علم اجتماع أنظمة الالتزام. ويقول إن هذا العلم إنما يهتم بأجسام مزودة بمهارات. وهي تواجه الأشياء في صميم مجريات الفعل. ذلك أنها لا تتناول العلاقات الاجتماعية حصرياً من زاوية الروابط بين الأشخاص وحسب وإنما ضمن التأقلم مع الأشياء أيضاً. وقد ذيل ترجمة هذا البحث الأكاديمي الجاد بثبتين: ثبت المصطلحات وثبت الأعلام، بالإضافة إلى ثبت المراجع والذي هو7 في غاية الدقة والأهمية.
 فيليب كوركوف: عدم الاجتماع الجديدة بين الجماعي والفردي. 
ترجمة أحمد حاجي صفر مراجعة د. بسام بركة.
دار الكتاب العربي. بيروت 2013 (140 ص تقريباً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق