الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

متْ لأسمّيك حبيبي / صلاح الصالح



تعالج مسرحية (عدوّ الشعب) لهنريك إبسن الكيفية التي يصير فيها الفرد على حق، والجماعة على باطل، حين يكتشف (الدكتور..) في بلدته المزدهرة بفضل السياحة الاستشفائية تلوّثاً خطراً في مياهها التي تمتاز بخصائص علاجية، شكّلت مقصداً جذاباً للناس من مختلف الأصقاع، وبعد التأكّد من سلامة التحاليل، وإعادتها مراراً، والتأكّد من وجود الضرر البالغ الذي ينزل بقاصدي البلدة من أجل الاستشفاء بالمياه الملوثة، من غير أن يعرف أحد سوى البروفيسور أنها ملوّثة، يسعى إلى إعلان الحقيقة من أجل إنقاذ البشر من الخطورة المحدقة بهم، ويقرّ في ذهنه أنه يمارس عملاً نبيلاً بطولياً، وينجز كشفاً علميّاً يضعه في مصاف الكبار. لكن المسألة تأخذ منحى معاكساً بفعل الحسابات الاقتصادية التي يجريها المتنفذّون، ويجعلون نتائجها وسيلة مفحمة لإقناع الجميع بالوقوف في وجه البروفيسور، لأن موافقته على ما يذهب إليه تعني إغلاق باب الأرباح المتدفّقة إلى أيدي فعاليات البلدة، وإغلاق السبيل الوحيد لمعيشة الآخرين، وممارسة نشاطهم الاقتصادي. يحاربه أهل البلدة جميعهم، ينبذونه وينبذون أسرته الصغيرة التي وقفت معه، ويلفظونه خارج بوتقتهم، ليصير آخر المطاف مجرّد (عدوّ للشعب).  
يبدو ما عالجه إبسن في (عدو الشعب) صياغة عصرية وقائمة في الواقع الحي، لبعض ما عاناه الأنبياء، والمصلحون الاجتماعيون، والفلاسفة، والأخلاقيون الكبار على مرّ الدهور، من نبذ جمعي مارسته الكتلة الاجتماعية الكبرى ضدّهم، إلى درجة القتل المباشر، كما في حالتي سقراط والمسيح على سبيل المثال، لكن تناول الواقعة المسرحية لدى إبسن في ضوء الأفكار الثورية التي اجتاحت أوروبا والعالم إثرالثورة الفرنسية، وما تلاها من حركات، وانتفاضات عمّالية وفلاحية، وصولاً إلى الثورة البلشفية في روسيا، يجعل المسرحية وقفةً صارمة وشجاعة في مواجهة ذلك المدّ الفكري الذي منح الكتل البشرية الكبرى صفة القداسة، وجعل مسّها، والحطّ من هيجانها، بمنزلة المحرّم (التابو) القطعي. فما يفعله (الشعب) وماتريده (الجماهير الغفيرة) أو (الأمّة) هو الصواب المطلق، بغض النظر عن طبيعة المراد، وطبيعة الأفعال المرتكبة، وما إلى ذلك.. ولذا يتنحى العمل الفردي، وخصوصاً إذا بدا مخالفاً لما يدعى (مصالح) الكتلة الكبرى إلى زوايا التهميش، وإلى تعريته من القيمة، وصولاً إلى التجريم، وما ينجم عنه من سوء العواقب. وهذا يستدعي إلى الذهن بعض ما عاناه مفكرون، وأخلاقيون فرنسيون وقفوا بحزم إلى جانب استقلال الجزائر خلال مجريات ثورتها من أجل التحرير، حين أقنعت الحكومة الفرنسية أغلبية الفرنسيين بأن استقلال الجزائر سيؤدّي حتماً إلى أن يخسر الفرنسيون ما يتمتعون به من بحبوحة ورفاهية.
وفي ظلال هذه العلاقة الملتبسة بين الأغلبية ذات التجانس العام، وبين الأفراد الذين يمكن أن يخسروا كل شيء، بما في ذلك حياتهم، من أجل ما يؤمنون به، تنشأ جملة من الاختلاطات والفجائع، والويلات.. إلخ. بما في ذلك انسياق الأغلبية في الحالة القطيعية العمياء التي تمارسها بعض الكتل البشرية الكبرى، بالإضافة إلى حالة دقيقة من حالات الانتهازية القصوى حين تشترط الكتلة على الفرد الذي تراه محقّاً إلى درجة النبوّة أحياناً، أن يموت من أجلها، مقابل منحه الإجلال والاحترام، والتبجيل، وصولاً إلى العبادة، بشرط أن يموت. وهذا ما صاغه المثل الشعبي الشائع في سورية (متْ لأسميك حبيبي) لكن الخطر المسكوت عنه في فكرة (المثل) يكمن في معكوس هذه الاشتراطية: أي إذا لم يمت (الحبيب) فلن تكتفي الكتلة بحرمانه من الحب والإعجاب، والإجلال، والولاء، بل ستذهب الكتلة إلى خلاف ذلك من تنكيل، وتشهير، وتسفيل، لمجرد امتناعه عن الموت البدني من أجلهم، ولذلك يُقتل، ويتكرر قتله، على المستوى المعنوي الذهني مراراً كلما حل ذكره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق