الأحد، 17 نوفمبر 2013

تحولات العلاقة بين السياسي والديني في السعودية / د. مضاوي الرشيد


منذ نشوء الدولة السعودية الحديثة كانت العلاقة بين السياسي والديني مخولة لان تمر بمراحل هدوء ووئام ثم اضطراب وتشنج لسبب بسيط هو الصراع الازلي والحتمي بين منظومتين تحاولات الهيمنة المطلقة على الشأن العام.
فمن جهة يحاول السياسي ان يكون صاحب القرار الاول والاخير في ادارة هذا الشأن حسب المصالح السياسية المتأرجحة ومن جهة اخرى يحاول الديني ان يكون هو المرجع الاول والاخير لسياسة الدولة. فنشأ عن ذلك تعايش قوتين قد تتفقان او تختلفان حسب الظروف التاريخية.
واعتقدت السلطة السياسية أنها تستطيع احتواء المنظومة الدينية بجعلها الوصي على المجتمع والشأن الاجتماعي العام بينما هي تنفرد في صناعة القرار السياسي وفرضه على المجتمع وبدت منظومة توزيع الادوار وكأنها قابلة للاستمرارية الا انها تعرضت دوما لخلل وتشنج ينطلق من عدم امكانية رسم حدود فاصلة وواضحة بين ما هو مجتمعي وما هو سياسي. أرادت السلطة ان تحصر دور الديني في تهذيب المجتمع وترشيد اخلاقياته وتعويده على خطاب الطاعة للسلطة السياسية والقبول كذلك ارادت السلطة من الديني ان يضبط لها المجتمع ويجرم عمله السياسي مهما كان سلميا او بسيطا وبالفعل ادى الديني الواجب بكل أمانة وقدم للسلطة كل ما تطلبه لتثبيت دعائم الحكم والقبول به الا انه بالمقابل كان دوما ينتظر ان تكافئه السلطة بمزيد من الصلاحيات والمؤسسات والدعم المادي ليستشري اكثر بالمجتمع وينتشر بشكل اكبر وتزداد قبضته ورؤيته لتطور المجتمع وهيوته.
وان كان النظام بالفعل قدم المكافأة الا انه تعثر في تقديم المزيد خاصة وانه بدأ يشك في الخطاب الديني الذي أفرز اتجاهات لم تكن في مصلحته بل كانت تعاديه بشكل واضح وصريح ومن هنا شعرت الدولة انها بحاجة ماسة لان تعيد سيطرتها على الساحة الدينية بعد ان تركتها لفترة طويلة تحت سلطة الديني واتجهت بسرعة الى تقليص صلاحياته والحد من تغولها في المجتمع ففتحت المجال في صحافتها للنقد اللاذع للاتجاهات الدينية في محاولة واضحة لتآكل شرعية هذا التيار العريض مستعينة بذلك بطيف عريض هو الآخر من الكتاب المتخصص في النقد والتشهير بتيار يعتبرونه عائقا للتقدم والازدهار وعبئا على المجتمع والدولة. ورغم ان التيار الديني بأطيافه المتعددة والتي قد تعادي بعضها البعض هي ايضا كان دوما حذرا في تجاوز الحدود الاجتماعية التي حددتها الدولة كساحة لعمله ونشاطه الا انه بين الحين والحين يضيق ذرعا بالمساحة الصغيرة ويحاول تجاوزها الا انه يعلم تماما مصير من يخرج من الدائرة الصغيرة المحددة بقضايا المجتمع وعباداته واخلاقه وان هو خرج عن هذه الدائرة فسيجد ان السياسي لا يتهاون في قمعه واعادته الى موقعه في المنظومة السعودية السياسية ـ الدينية حيث له فقط حق العمل والنشاط في المجال الاجتماعي وعليه ان يبتعد كل البعد عن القضايا السياسية التي تبقى من اختصاص الدولة واجهزتها. من هنا جاء تركيز بعض التيارات الدينية على قضايا المرأة لتتحول الى هم كبير وشغل يشغل الجميع دون المصادمة مع السياسي الذي يفضل ان يبقى هؤلاء يدورون في خفايا هذه القضية بدل ان ينشغلوا بالسياسة والاقتصاد والعلاقات الخارجية التي تحتكرها الدولة. وخير دليل على هذا ما حصل من جدل حول حملة قيادة المرأة للسيارة في 26 اكتوبر حيث جمع بعض العلماء انفسهم وانتقلوا بالحافلات الى مركز السلطة مباشرة ليعبروا عن غضبهم من قضية قيادة المرأة للسيارة واعلنوها حربا على التعذيب وأهله ومن ثم عادوا الى مواقعهم سالمين حيث لم يثيروا حفيظة السلطة ولم يزعجوها لانهم لعبوا بالفعل الدور المطلوب منهم ولم يتجاوزوا الحدود التي سمحت بها السلطة السياسية لكن لو تخيلنا ان هؤلاء العلماء خرجوا كمجموعة كبيرة استأجرت الحافلات وحشدت بعضها ووصلت الى الديوان الملكي مطالبة بقضايا سياسية وحقوق مدنية ورفعت شعارات المشاركة السياسية في مجالس شورية منتخبة او حكومة تمثل الاكثرية او طالبت بفتح ملفات السجون السياسية وهتفت شعارات العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد واعترضت على السياسة الخارجية فما سيكون مصير هذه المجموعة المحتسبة يا ترى؟ 
في الحالة الاولى سميت الحرب على التغريب إبراء للذمة ونهي عن المنكر اما في الحالة الثانية فستكون هذه الجمهرة مظاهرة ممنوعة وفتنة محظورة وتطاولا على حكمة القيادة وتهديدا للامن والامان ووقوع في شباك المتربصين بالوطن بل ربما تتحول القضية الى خلية ارهابية سرية تفتك بالازدهار في لحظة تتطلب الالتفاف حول ولاة الامر والاصطفاف خلفهم بدل إثارة الفتنة. في الحالة الاولى ربما اعتبرت السلطة السياسية مثل هذه الحادثة فرقعة اعلامية مرت دون تداعيات تذكر اما في الحالة الثانية ستجد السلطة نفسها في مواجهة مباشرة مع شريحة تجرأت وخرجت من الدائرة المحددة لعملها التي تنحصر في القضايا الاجتماعية الصرفة دون التطاول على الدوائر الاخرى خاصة السياسية. فالحدود قد رسمت منذ تأسيس الدولة ولن يسمح لاحد ان يعيد رسمها او تجاوز خطوطها القديمة خاصة تلك الشريحة المناط بها مهمة عزل المجتمع عن السياسة العامة لا إثارة رغباته في المشاركة بها. وستبقى العلاقة بين السياسي والديني تمر بتحولات وعملية كرّ وفرّ لإعادة منظومة توزيع الادوار لسياقها القديم ومهما تشنجت هذه العلاقة الا ان السياسي اليوم يمتلك قوة تفوق تلك المتوفرة للديني الذي تفكك خطابه وتشعبت أطيافه ودخلت هذه الاطياف في صراعات بعضها مع البعض في محاولات خاسرة لاثبات الوجود والمزايدة اما في التقرب من السلطة او مواجهتها في حرب مفتوحة كما حصل في السابق مما ادى الى نفور طيف كبير في المجتمع من امكانية نهضة حقيقية سياسية او اجتماعية في ظل منظومة تقاسم الادوار الحالية القائمة بين السلطة وجناحها الديني. ويظل هذا التقاسم مهماً بالنسبة للسلطة السياسية لتبرير سياسات محددة تتبناها او لا تريد ان تخوض غمارها. خذ مثلا موضوع قيادة المرأة للسيارة مرة اخرى حيث ان الموضوع يبقى رهين القرار السياسي لكن جمهرة العلماء الممانعين تعتبر مسرحية اعلامية جيدة تستغلها السلطة لتظهر مدى الممانعة والاعتراض وكذلك مدى استماعها الشكلي لهذه الشريحة وآرائها فيشعر هؤلاء ان للسلطة أذانا صاغية لمواقفهم وأرائهم فيعودون ادراجهم وكلهم امل ان تكون كلمتهم هي المسموعة وربما اعتبر هؤلاء انهم احرزوا نصرا مبينا عندما خرجت تصريحات حكومية تعيد التأكيد على حظر منع المرأة من قيادة السيارة. وستظل عملية الكر والفر مستمرة خاصة في مجالات تتعلق بتمكين المرأة وحتى هذه اللحظة يبدو ان هؤلاء العلماء يطمحون فقط ليكونوا المرجع الاول والاخير في قضايا من هذا النوع. لكنهم ربما يصلون الى قناعة ان الدولة تجاوزتهم في الماضي وستتجاوزهم في المستقبل مهما علت اصوات الممانعة والاعتراض خاصة وان كانت اللحظة السياسية تتطلب قرارا يخالف أراءهم حيث الامثلة التاريخية السابقة اثبتت ان مهما علت اصوات الاحتجاج فهي تخمد تحت ضغط السلطة وقوتها على اخراس المعترضين اما بالتهميش والعزل او حتى بالسجن والتغييب الكامل.
تظل العلاقة بين السياسي والديني علاقة حرجة مشوبة بالارتفاع والهبوط بل حتى قد تتحول من الهدنة الى الحرب ومن التعايش الى التصادم. وقد حلت الامم الاخرى معضلة هذه العلاقة عندما حدت السلطة السياسية من اعتمادها على الدين في معاركها لتثبيت شرعيتها او تخدير شعوبها فسلم الدين من مغبة كونه ملحقا بالسياسة ونشأ في مساحة غير مقيدة بمتطلبات السياسي واهوائه خاضعا له وسيصعب على النظام السعودي التحول الى مثل هذه العلاقة لانه بدون اعتماده الكلي على المنظومة الدينية يفشل في تثبيت شرعيته السياسية التي تتهاوى دون مثل هذه الشرعية رغم انه عمل جادا على تقليص المساحات التي يتحرك فيها الديني.

* كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق