السبت، 30 نوفمبر 2013

قوة القصة، سحرها وبريقها الدائم / دلال البزري


القصة عنصر خارق الجاذبية في حياتنا الذهنية. العقول العارفة بها تضج بالآلاف منها. منذ الصغر، لا ينام الأطفال إلا على من يقرأ لهم القصص؛ إلا إذا كانت هذه المرحلة من حياتهم نفسها تضجّ بقصص غير مكتوبة، وربما غير مروية، لاحقاً؛ قصص عن الأمور التي يلاقونها في هذا العمر، والتي سوف تُحفر في عقولهم أكثر بكثير مما لو كانت رويت لهم من كتاب مرصوص الحروف أو من ذاكرة راويها، أو مخيلته. الصغار، إذن، ينامون على القصص أو يُفطرون عليها. وفي كل الأحوال، سوف تشكل قصصهم هم واحدة من ركائز شخصيتهم وطبائعهم وأمزجتهم، البائنة منها، أو النائمة في بالهم. 
ركيزة أخرى، لا يقل عمرها طولاً؛ هي تلك القصص التي تملأ نصوص الأديان المختلفة، إبراهيمية كانت أم غير إبراهيمية. وكلها تتنافس مع بعضها، وفي ما بينها، على قصص لا تنتهي. قصص حياة الأنبياء، السابقين منهم واللاحقين، قصص المعجزات، قصص الغضب، والغفران، التحليل، التحريم، قصص الآيات التي نزلت... وكلها تقيم صلة مباشرة مع السماء؛ تساندها قصص الواقع التي كونت سياقها كلها؛ وذلك من أجل أن تشبهنا. ومن بين قصص الأديان هذه، يمكننا القول ان القصة "التأسيسية" للبشرية جمعاء بحسب الأديان الإبراهيمية، هي قصة آدام وحواء، التي استحوذت على مخيلة وعقول الفنانين التشكيليين والشعراء والنحاتين والقاصين والمعلقين والشارحين والمستلهَمين والنقاد والمكررين والمحللين النفسيين واللاهوتيين والمجتهدين، ومؤخراً النسويات... كل هؤلاء شغفوا بقصة آدام وحواء، ولا يملون من تكرارها، للخلوص الى ما يهوون.
بعد ذلك يأتيك الإرث الدنيوي من قصص. "ألف ليلة وليلة" في صدراته. وقصتها المعروفة داخل قصصها المتناسلة؛ الملك الدموي شهريار، الذي يأبى إلا قتل عرائسه بعد ليلته الأولى معها. وعروسه الجديدة، شهرزاد، التي تنقذ حياتها برواية القصص، كل ليلة من تلك الألف زائد واحد، لها قصتها. وحظ هذا الكتاب يضاهي حظوظ القصص الدينية؛ بل ربما يتفوق عليها بإنتشاره على مساحة كونية، متجاوزاً الأديان والقوميات والإثنيات؛ وحدها هوليوود أنتجت عشرات الأفلام التي تدور حول قصة واحدة من قصص "ألف ليلة وليلة"، صراحةً أو إقتباساً. تليها، أو تسبقها، الملاحم ببطولاتها الخارقة، المروية شعرا وشفهياً، والأساطير، بآلهتها الأبطال، الذين لا يقلّون إنسانية عن البشر؛ ثم المقامات، النثرية، بأركانها الثلاث (الراوي، البطل، النكتة) وقصائد الغزل بمجرياتها، أو قصائد الهجاء أو الرثاء بما تكشف عن قصص مجيدة أو مخزية... والآن، أكثر الكتب مبيعاً، أكثر الشرائط مشاهدة، هي تلك التي تحتوي على القصص. ولا يهم ساعتها "الأسلوب" أو طبيعة الحبكة أو "أدبية" الراوي؛ المهم أن يكون هناك قصة. طبعاً في يعصرنا الإستهلاكي هذا، صارت القصص تؤكل وتهضم، ومع تسارع وتيرة التسلية، يُطرح طلب جديد على قصة جديدة، بعد انتهاء تلك التي صارت "قديمة"؛ ومن المفضل أن لا تكون مقروءة، بل أن تكون مصوَّرة؛ ومن المثالي ان تتكلم عن الجنس أو الإغراء أو العلاقة بين الجنسين، لأنها لا تتشبّه بغير القصة التأسيسية الأولى بين آدم وحواء، وهي قصة "جنسية" بامتياز. انه العصر الذهبي للقصص، ورثت فيه البشرية أطنانا من القصص، وما زالت على جوعها بها. 
خذْ مثلاً: قبل قرن واحد فقط، أو أقل، في بيئات تخلّفت عن الإستهلاك... قرنٌ واحد يفصل بين القصص الرمضانية التي كانت تروى في المقاهي الشعبية، قبل العصر الإستهلاكي، وتلاحظ الفرق: مع حكواتي رمضان، الذي كان يتسبب بأرق جمهوره عندما يتوقف عن السرد، في لحظة حرجة من القصة، يواجه فيها البطل خطراً أكيداً... فيقوم بعض من هذا الجمهور، بعد انتهاء فترة السحور، بطرق باب بيت الحكواتي ليلاً، لعلّهم يعرفون شيئاً عن مصير بطلهم. قصة واحدة يقضونها بين إفطارهم وسحورهم، أو بالأحرى مقطع من قصة. فيما اليوم، قصص الدراما التلفزيونية الرمضانية مثل الفطر، لا يمكن لأي صائم، حتى لو خصص لها صيامه وفطوره وسحوره، بل نومه.... أن يتسلى بجميعها، لأنها أكثر من أن تشاهَد في يوم واحد... 
لو توقفتَ قليلا أمام هذا الزحف القصصي، فسوف تلاحظ بأن خارج القصص لا يوجد إلا ما يبعث على الضجر، أي عكس نعمة القصة؛ خذْ التنظير مثلاً، كم هو صعب التحقّق من فهمه بدايةً، خلف لغة عالِمة صعبة غامضة، جامدة، غير مقنعة. نادرة هي التنظيرات الجذابة، غير المستعارة، التي تُنِعم العقل بشيء من التجريد، الضروري، على كل حال، لفهم القصة. خذْ مثلاً آخر، الوصف، الذي يغلب عليه السكون؛ أو القوانين، صاحبة القيود والحيثيات والعقوبات، أو التأمل، الذي يحتاج الى التوقف، وإلا إختلّ، أو الموعظة ودرسها، مع انها تبطن قصصاً... فالتنظيرات والمواعظ والوصف والتأمل والقوانين كلها سلطة مباشرة، سافرة، فظة غالباً؛ وحدهم من تخلصوا من هيمنتها، مع انها مجالهم الحيّ، هم الذين تغريهم فكرة تحويلها الى قصة: قصة هذا القانون أو ذاك، قصة نشأته، تطوره، قصة مخالفيه، قصة العقوبات النازلة بهم الخ. 
بوسعنا التوسع، وبلا نهاية، بسحر القصة وجاذبيتها الكونية... مع كل هذه المكانة الاستثنائية، فان القصص التي اخترعناها طوال تاريخنا المكتوب والشفاهي، مقصرّة، لم تنلْ من مجالات بعينها إلا قليلاً. فماذا عن قصص الحيوانات، غير قصص إبن المقفع أو لافونتين، الهادفة الى إيصال فكرة؟ ماذا عن الحبكات التي تعقدها في ما بينها، تلك الحيوانات؟ ماذا عن حيَلها ووجهة غيريزتها، تكتيكاتها، استراتيجياتيها؟ في ما بينهم، وإزاء الحيوانات الأخرى؟ قرأتُ كتاباً واحداً بالعربية من هذا الصنف عنوانه "في فضل الكلاب على بعض لابسي الثياب"، لمحمد بن خلف بن المرزبان (دار الجمل. كُتب في القرن الثاني الهجري)؛ كما يدل عنوانه، مؤلفه متعاطف مع الكلاب ضد البشر؛ جمع فيه كل قصص التي تدلّ على نباهة الكلاب ووفائها، وكلها قصص مثيرة ومضحكة، ولكنها هنا أيضا مقتصرة على علاقة الكلاب بالإنسان، على تحميل الكلاب صفات الإنسان، لا الكلاب أنفسها. رواية هذه المرة، للأميركي بول أوستر، عنوانها "تومبوكتو"، وبطلها كلب، مستر بونز، يتوفى صاحبه، مستر ويلي، الشريد والمصاب بالسل. فيتوه مستر بونز في مدينة بالتيمور بحثاً عن أستاذة صاحبه، فتحدث معه مغامرات... المهم ان مستر بونز يؤمن بعمق بـ"تومبوكتو"، وهي جنة المحظوظين التي يسعى اليها، ليعود فيلتقي بصاحبه... كما الإنسان تماماً، كما يتصوره الإنسان، بما توفر عند خياله من قصص. قصة يترتدي فيها الحيوان، أيضاً، طبائع الإنسان، لا قصة حيوان بطبائع الحيوان وفطرته. 
ناقصة أخرى تعانيها قصصنا: إنها خالية من قصص الفيزياء، من قصص معالم كوننا، كوكبنا... بلى بلى... قرأتُ يوماً في صحيفة فرنسية قصة قصيرة عنوانها "قصة البحر المتوسط"؛ مقال مطوَّل يروي كيفية تسرّب المياه تدريجياً من المحيط الأطلسي عبر مضيق جبل طارق نحو ما كان وادياً سحيقاً، منذ ملايين السنوات. فبدأت المياه في هذا الوادي، وعلى امتداد هذه ملايين السنوات، ترتفع درجات قليلة نحو أعلى مع التدفق المنتظم والقليل، لهذه المياه. ليست قصة جذابة، إلا إذا كانت الحياة الآخذة بالارتفاع كانت بشرية، لا نباتية أو حيوانية أو فيزيائية. الكون اللامتناهي حولنا فيه قصص غير "مستغلة" إلا في قصص الخيال العلمي، حيث الإنسان هو المحور، أيضاً، لا الكواكب والمجرّات والنيازك... مع ان كل دراساتها تعتمد على تاريخها، أي قصتها في الوجود. 
ثم هناك القصص غير المروية. فالقصة الواحدة متفرعة عن مئات من القصص التي نسجتها، هي مثل خزان لا ينضب من القصص الفرعية، التي يمكن ان تتحول الى أساسية، لو نُقّب عن محتويات هذا الخزان. في القصص الدينية، أيضاً، الفراغات هائلة؛ وهذا مفهوم، لأن قصص الدين ليست روايات متكاملة. بالمقابل، هناك حيوات بأكملها لا تستحق ان تكون مادة قصة، لأنها رتيبة ومنظمة بمواعيد وطقوس وترتيبات. لا قصص في هذه الحيوات، إلا عندما يقفز بوجهها أمرٌ، يخلق القصة؛ مثل ذاك البطل الذي لا يشوب حياته إلا نظام دقيق، وفجأة تدخل يمامة الى شقته، فتحصل القصة، التي تغير مجرى حياته الروتيني ("الحمامة" للألماني باتريك سوسكند). خذْ مثلا حياً: سلمان رشدي، لولا الفتوى التي صدرت بهدر دمه، لما عاش بعدها حياة مليئة بالقصص المثيرة، دوّنها في كتابه "جوزيف أنطون"؛ كان امضى سنوات من الإختباء والإختفاء والتنقل من بيت الى آخر، من بلد الى آخر، من حماية أمنية الى أخرى... سنوات تضج بالقصص المشوقة؛ وإن كان هو عاشها بالكثير من القنوط، مرغماً. تصور لو عاش كل هذه السنوات طبيعياً، مثله مثل بقية كبار المبدعين، بين محاضرة، أو توقيع، أو مؤتمر، أو تكريم... 
ولكن لماذا؟ لماذا الحاجة الى القصص؟ 
لأن القصة ترسم ديناميكية وسياق. بفضل القصة، تحدس، "أوقات الموت"، حيث لا قصة، لا شيء يستحق أن يُروى. فيكون الفرق بين أوقات القصة وغيرها من الأوقات مثل الفرق بين الحياة والموت. هذا على افتراض ان الأزمان ليست كلها حاملة لقصة، وإلا ما كانت زمناً. من دون القصص لا يوجد زمن ولا تاريخ، ولا تأريخ. السنة الميلادية نفسها هي ثمرة قصة، احتلت مكان تقويم آخر، لا بد أن كانت له قصة، وإلا ما سُجِّل. كذلك السنة الهجرية، والحروب، والهجرات والثورات على أنواعها، الهادئة منها والمتفجرة.... وكلها تدخل في قصة الأفراد، فيخلقون منها قصة ذاك الزمن، أو يحتشدون خلفها، ليرووها بعد ذلك، على انها هي التي صنعتهم على ما هم عليه الآن... قصص يتذكرونها بألم أو فرح، أو حنين، يعودون فيدرجونها في دراما حياتهم.... هكذا، إلى ما لا نهاية، حتى آخر الأزمان. الحاجة الى القصة، الى التاريخ، هي حاجة الإنسان في الوجود؛ من دون القصة، يكون هذا الوجود بلا معنى، حتى لو كانت القصة مأساوية، دموية، تراجيدية.... المهم انه يعيشها، بالأصالة أو الإنابة... ليصنع لنفسه درعاً سميكاً من المعاني، يحميه من فكرة انه راحل، يوماً ما، عن هذا الوجود.


مناوئو أوروبا وميولهم العنصرية / دومينيك مويسي




في عام 2005، رفض اثنان من البلدان الأعضاء المؤسسة للاتحاد الأوروبي، فرنسا وهولندا، في استفتاء شعبي، معاهدة الاتحاد الأوروبي الدستورية المقترحة. والآن شكل اثنان من أحزاب اليمين المتطرف من هذين البلدين، حزب الجبهة الوطنية الفرنسي وحزب الحرية الهولندي، تحالفاً قبيل الانتخابات البرلمانية الأوروبية في مايو 2014. ويسعى هذا التحالف إلى اجتذاب الأحزاب المماثلة في بلدان الاتحاد الأوروبي وتشكيل كتلة برلمانية قوية بالقدر الكافي لذبح "وحش أوروبا"، كما يسمي خيرت فيلدرز، زعيم حزب الحرية، الاتحاد الأوروبي.

وليس من قبيل الصدفة أن تكون فرنسا وهولندا في طليعة هذا المشروع الخسيس البائس. فكل من البلدين يعيش أزمة هوية عميقة تتحور الآن إلى ازدراء أوروبا والأجانب والمهاجرين وكل من يمثل "الآخر". وكل من البلدين يشهد زيادة في مستوى الشكوك الشعبية في النخب السياسية التقليدية.

وفي هذه البيئة، تبدو انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة مصممة خصيصاً للأحزاب المتطرفة، حيث تشير استطلاعات الرأي العام الأخيرة إلى أن الجبهة الوطنية سوف تحصد أكثر الأصوات في فرنسا. والواقع أن الانتخابات الأوروبية تجعل أغلب المواطنين في حالة من عدم الاكتراث، وهو ما يترجم إلى إقبال ضعيف على صناديق الاقتراع ــ باستثناء الناخبين من بين أولئك الذين نستطيع أن نتبين مما يعارضونه أنهم يرغبون في التعبير عن غضبهم وإحباطهم إزاء الوضع الراهن.

إن ماريان لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية، تتسم بالدهاء والكفاءة، وتخوض الحملة الانتخابية برسالة مباشرة وواضحة: "أوروبا ضد الشعب، لذا فإن الشعب لابد أن يحتشد ضد أوروبا". وهي بانتحال مظهر الاعتدال تُعَد أكثر جاذبية من والدها وزعيم الحزب السابق، جان ماري لوبان. وتتلخص استراتيجيتها في دخول التيار الرئيسي للسياسة الفرنسية من خلال إزالة كل آثار الماضي المعادي للسامية، وبالتالي تحويل الجبهة الوطنية إلى بديل شرعي ظاهرياً لليمين التقليدي المتفسخ، الذي عانى من نوبة طويلة من الاقتتال الداخلي منذ هزيمة نيكولا ساركوزي في الانتخابات الرئاسية عام 2012.

وفي هولندا، كان فيلدرز ــ وهو أشبه بصاحب استعراض منفرد من كونه زعيماً لحزب حقيقي ــ في الحكومة بالفعل، وهو ما يوفر بالتالي قشرة من الشرعية لماري لوبان من خلال تشكيل تحالف معها ببساطة. وبشكل متزايد، رفضت الأحزاب الرئيسية المناوئة لأوروبا في الدنمرك وبريطانيا أن تفعل نفس الشيء، رافضة الدخول في تحالف مع الحزب الذي كان وربما لا يزال معادياً للسامية في جوهره.

ورغم هذا فإن ما يوحد أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا في نهاية المطاف يشبه ما يؤسس لصعود حزب الشاي داخل الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة: العنصرية المستترة وكراهية الأجانب. ورغم أن أتباع حزب الشاي ــ المجموعة التي حدد استطلاع مبكر للرأي مكوناتها بأنها تتألف من 89% من ذوي البشرة البيضاء و1% فقط من ذوي البشرة السوداء ــ يزعمون أنهم يعارضون الإنفاق الحكومي قبل كل شيء، فإنهم يستحلون لأنفسهم المساعدات من قِبَل الحكومة. وما لا يمكنهم قبوله هو رئيس أسود والإنفاق حكومي على "آخرين".

على نحو مماثل، وبرغم أن الشعبويين في أوروبا يستخدمون معارضتهم لبروكسل كراية يحتشدون تحتها، فإن إيديولوجيتهم تحتفظ بسماتها القديمة الرجعية التي حفزت أسلافهم. واليوم، قد تكون قوى اليمين المتطرف أكثر معاداة للمسلمين من معاداتها للسامية ــ بل ولعل فيلدرز من أنصار إسرائيل المخلصين ــ ولكنها ترى العالم من منظور هازئ وعنصري ومعادي للإنسانية، وهو نفس منظور أسلافهم في ثلاثينيات القرن العشرين.

بطبيعة الحال، لن تعود دولة مثل فرنسا إلى سياسة الثلاثينيات، ولكن كان ذلك راجعاً فقط إلى أن ذكريات الانهيار العسكري والأخلاقي في عام 1940 لم تأفل بعد. ولكن الهجمات العنصرية الشرسة على وزير العدل كريستيان تاوبيرا، وهو من ذوي البشرة السوداء، ما كان لأحد أن يتصورها مجرد تصور في العقود الماضية. وفي مختلف أنحاء أوروبا، كان فقدان المحرمات والمحظورات والاعتقاد بأن كل شيء يمكن أن يُقال ــ وأن أي شخص يمكن أن يُهان ــ سبباً في زيادة وتيرة الأحداث العنصرية التي لا يمكن عزلها إلا سطحيا.
إن أوروبا ليست على وشك التحول إلى الفاشية؛ إلا أنه من الخطورة بمكان أن نتجاهل أنها تسير بلا هدى، أو أن نعزو التطورات الأخيرة إلى الأوقات الاقتصادية العصيبة وارتفاع معدلات البطالة فحسب. فالأمر ينطوي على أسباب سياسية وأخلاقية أكثر جوهرية.

على سبيل المثال، كان أداء ألمانيا أفضل من البلدان الأوروبية الأخرى في مقاومتها للنزعة الشعبوية، ليس فقط لأن اقتصادها قوي ولأن تاريخها يعمل كشكل من أشكال التطعيم ضد الشعبوية. بل ينبغي للألمان أن يشكروا أيضاً همة وكفاءة زعمائهم السياسيين، بما في ذلك المستشارة أنجيلا ميركل وسلفها جيرهارد شرودر.
إن أفضل رد على التحالف غير المقدس اليوم بين الأحزاب الشعبوية العنصرية هو الشجاعة والحزم، ووضوح الموقف. ومن المؤكد أن أي تحالف بين الأحزاب المحافظة الرئيسية وقوى اليمين المتطرف سوف يكون بمثابة الضمانة للهزيمة ــ الأخلاقية والسياسية. والماضي يثبت صدق هذه الحقيقة في أوروبا، كما يثبت صدقها بالنسبة للجمهوريين في الولايات المتحدة اليوم. فأحياناً قد لا تكون أي ملعقة طويلة بالقدر الكافي لتناول الحساء من نفس الوعاء مع الشيطان من مسافة آمنة.

دومينيك مويسي أستاذ بمعهد الدراسات السياسية في باريس، وكبير مستشاري المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، وأستاذ زائر في كينجز كوليدج في لندن.



الجمعة، 29 نوفمبر 2013

جنيف الإيراني وجنيف السوري! / فايز سارة



بدا من الواضح، ان ايران كانت الرابح الرئيس في مفاوضات جنيف الايراني، وبموجب هذا الاتفاق حصلت ايران على تأكيد سيرها في المشروع النووي الى نهايته رغم المرحلية التي ظهرت في الاتفاق، كما حصلت ايران بموجب الاتفاق على وقف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، اضافة الى امر هو الاكثر خطورة مما سبق، وان كان بشكل ضمني هو الاعفاء من تبعات سياستها في الشرق الاوسط، وتجاوزها ما كان المجتمع الدولي، يصفها به وهو رعاية الارهاب.
واذا كانت ايران ربحت بهذا القدر في جنيف الايراني، فان ما رشح عما قدمته ايران للعالم وللدول التي تفاوضت معها كان قليلاً، او هو مستتر اذا اردنا الدقة. اذ لم تظهر تفاصيل ماقدمته ايران مقابل ارباحها، الامر الذي بدا وكان ايران قد حققت انتصاراً كبيراً في جنيف استحق ان تهلل لنتائجه القيادة الايرانية من جهة، وحلفاء ايران من النظام السوري الى روسيا وجميعها اشادت بما تحقق في جنيف الخاص بايران.
ان البديهيات، تؤكد ان مفاوضي طهران في جنيف، ما كان من الممكن ان يعطوا ايران تلك المكاسب دون مقابل. وقلة المقابل أو عدم ظهوره، قد يكون وراء الاشتراطات، التي وضعها مفاوضو طهران من اجل اثبات جدية ايران في التعامل مع الاتفاق، والاهم فيها هو فترة الستة اشهر، والتي كان اساسها الظاهر اثبات حسن سلوكيها وسيرتها في التعامل مع الملف النووي بحيث يظل برنامجها سلمياً، وان يكون البرنامج تحت الرقابة الصارمة، وان لم يسر البرنامج بهذه المواصفات، فان الاتفاق سيكون في مهب الريح، وبالتالي فان المكاسب الايرانية من اتفاق جنيف سوف تأخذ المنحى نفسه، وتعود مسيرة العلاقات الايرانية مع المجتمع الدولي والدول المشاركة في الاتفاق الى التوتر المتصاعد وربما الى الصدام المباشر الذي لاشك انه سيكون عنيفاً.
ورغم ان كثيراً من متابعي الوضع الايراني، رفضوا الربط بين جنيف الايراني ومؤتمر جنيف2 المزمع عقده لمعالجة القضية السورية عبر ايجاد حل سياسي للاخيرة، فلاشك انه هناك رابط خفي بين الاثنين، لان ايران في الاول تمثل الطرف الرئيس، وهي في الثاني طرف رئيس ايضاً، اذ هي تقدم دعماً متعدداً وغير محدود لنظام الاسد في دمشق، وهي قوة موجودة هناك بصورة مباشرة من خلال خبراء بمن فيهم خبراء عسكريين وامنيين، وهناك قوات من الحرس الثوري تقاتل الى جانب قوات النظام ومعها مليشيات تأخذ اوامرها المباشرة من ايران ابرزها قوات حزب الله اللبناني ومليشيات لواء ابو الفضل العباس العراقية، وهؤلاء يشكلون القوة القابضة التي يقاتل النظام بها التشكيلات المسلحة للمعارضة ويقتل السوريين ويدمر بلادهم.
ان حضور ايران ودورها في القضية السورية، يمثل مدخلا للرابط الخفي بين جنيف الايراني الذي عالج الملف النووي، وجنيف2 المناط به معالجة القضية السورية من خلال فتح باب الحل السياسي بعد ان اتجه اليه المجتمع الدولي عازفاً عن السير في خط حل عسكري للوضع لاسباب تتداخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية والامنية، وهذا الرابط قد يساهم في تفسير عدد من التحركات الاقليمية والدولية الاخيرة والمتواصلة في العالم ذات الصلة بالموضوع السوري، وبين ابرزها تحديد موعد جديد لمؤتمر جنيف2 بعد ان كانت التقديرات تشير الى تأجيل المؤتمر عدة اشهر وربما الى الابعد، والانفتاح الروسي على الائتلاف الوطني السوري المعارض والذي كانت موسكو تظهر قدراً كبيراً من العداء له، والانفتاح الظاهر لبوابة تواصل تركي ايراني، وقد اصطف كل واحد منهما الى جانب طرف في الصراع الداخلي السوري، واعادت بعض الدول العربية الاكثر دخولاً في الوضع السوري ترتيب اوراقها السورية استعداداً للمرحلة المقبلة.
خلاصة هذه التحركات، تشير الى أن جنيف2 سوف يعقد، وعلى الاقل ان فرصة انعقاده بعد جنيف الايراني، صارت اكبر مما كانت عليه قبله، وهذا هو المتغير الظاهر. اما المتغير الباطن فهو مراهنة على موقف ايران في القضية السورية. فاذا استطاعت ايران ان تعدل وجودها ودورها في القضية السورية لصالح الحل، فان مسار مفاوضات جنيف2، ستكون نتائجها افضل لان وضع نظام الاسد سيكون اضعف في ضوء تخلي ايراني عنه بصورة كلية او جزئية، اما اذا استمرت ايران في دعمها لنظام الاسد، فان جنيف2 سوف يفشل، مما يفتح باب الازمة السورية الى مزيد من التداعيات الداخلية والخارجية، وهو مالا يريد المجتمع الدولي رؤيته بما يترتب على ذلك من نتائج كارثية في المستويات السياسية والامنية والانسانية.
اذن دور ايران وموقفها في القضية السورية سواء حضرت ايران جنيف2 او لم تحضره، سيكون بين العوامل الحاسمة، ليس في الموضوع السوري فقط، وانما فيما يتعلق بجنيف الايراني ايضاً، وسيكون قبول ايران بحل سياسي للوضع السوري عاملاً مساعداً لمضي جنيف الايراني الى نتائجه في مشروع ايراني سلمي للطاقة النووية، اما اذا كان موقف طهران في اتجاه اخر نحو تأكيد وجودها ودورها المحوري في القضية السورية، فسيكون الامر بخلاف ذلك، لان ايران في هذه الحال تكون قد قررت كسب مشروعها النووي من جهة وتكريس امتداد نفوذها الاقليمي في ان معاً، وهو ما سيواجه بردة فعل اقليمية ودولية، لن تعدم الذرائع في العودة الى المربع الاول في الصراع الدولي مع ايران.
ان جنيف السوري يطرح تحدياته على طهران، وعليها ان تختار بين تمرير مشروعها النووي المحدد في جنيف، او العودة الى الصراع مع القوى الاقليمية والدولية بسبب مشروعها النووي وبسبب استراتيجية التمدد الاقليمي في الشرق الاوسط، فيما يراهن خصوم ايران ممن فاوضوها في جنيف على تحولات السياسة الايرانية في الاشهر الستة المقبلة، سيكون الاساس فيها تبدلاً في موقف طهران ودورها في القضية السورية وتفاصيل اقليمية اخرى، وهي التي سستحسم مستقبل جنيف الايراني.





كتاب الأمن الغذائي العربي: السلاح قبل الرغيف




كرم الحلو
الازمة المالية العالمية في اواخر العقد الاول من القرن الحادي والعشرين أدّت الى تراجع الامن الغذائي في العالم العربي، وقد تعاظمت تداعياتها على الساحة الاقتصادية والاجتماعية العربية في السنوات الاخيرة، حيث بلغت الفجوة الغذائية نحو 59,4 مليار دولار نهاية العقد الاول من القرن المذكور بعد أن كانت 14,8 مليار في بدايته، وما زال انتاج الحبوب دون نصف الاستهلاك على المستوى العربي، فقد قدر مؤشر الاكتفاء الذاتي بنحو 49,3 في المئة العام 2009. في الوقت ذاته تجاوزت البطالة الـ 16 في المئة، وبات 39,9 في المئة من العرب في عداد الفقراء في نهاية العقد الماضي، وهي نسبة مرتفعة جداً قادت الى حالة من عدم الامان الاجتماعي، قاد بدوره الى الاحتجاجات الشعبية والثورة على الانظمة، وقد ظهرت هذه الملامح واضحة في انتفاضات مصر وتونس واليمن وغيرها.
لم تكن ازمة الامن الغذائي مسألة طارئة، بل هي متأصلة في العالم العربي نتيجة الركود والتباطؤ في استجابة الموارد للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وعدم كفاءة السياسات في معالجة الصدمات الحاصلة في أسواق الغذاء، فضلاً عن المنهج القطري في التنمية.
إزاء هذه الازمة المتمادية يطرح سالم توفيق النجفي في «سياسات الامن الغذائي العربي، حالة الركود في اقتصاد عالمي متغير» مركز دراسات الوحدة العربية 2013 رؤيته للمستقبل، فيبحث في نمط السياسات التي ادت الى ظاهرة ارتفاع اسعار الغذاء خلال العقود الماضية وآليات حدوثها، ويتطرق الى مضمون وفلسفة المتغيرات التي قادت الى تلك الحالة غير المسبوقة في العالم العربي.
في رأي المؤلف، من الصعب اعتبار العوامل الخارجية من دون نظيرتها الداخلية، أصل الإشكال في ازمة الامن الغذائي العربي، فنمط السياسات الاقتصادية وتشوّهاتها، وغياب الديموقراطية واستشراء الاستبداد، عوامل أنتجت مجتمعة حالات من البؤس والحرمان والفقر والجوع وانعدام الامن الغذائي. وقد أشارت الدراسات المقارنة بين انتاجية العمل الزراعي العربي ونظيره في الاقتصادات المتقدّمة الى ان هناك فارقاً كبيراً بينهما، ولا شك في أن جزءاً من هذا التباين يعود الى نمط السياسات الزراعية في العالم العربي، فضلاً عن هدر الموارد والطاقات، حيث يتعرض 52 في المئة من الموارد المائية للهدر، بينما يشوب الزراعات المطرية قدر كبير من المخاطرة واللا يقين. فضلاً عن ذلك يذهب شطر كبير من الموارد العربية على استيراد السلاح، فقد حلت خمسة بلدان عربية بين اكبر 21 دولة مستوردة للسلاح في البلدان النامية في نهاية العقد الاول من هذا القرن، ما ترتب عليه الانصراف عن الحاجات الاساسية مثل الاسكان والصحة والتعليم والغذاء، وبذلك واجهت هذه البلدان مستويات مختلفة من انعدام الامن الغذائي.
لقد أدّت اتفاقية سايكس - بيكو العام 1916 الى تعميق الاتجاهات القطرية وحالت دون تطوير الموارد في صورتها التكاملية، فيما ورثت الزراعة العربية تشريعات السلطنة العثمانية التي ركزت البنية الحيازية في غير مصلحة المزارعين الصغار، ما رتب علاقات غير متكافئة بين العمل والأرض. واذا كان الانتاج الزراعي قد شهد توسعاً تحت الانتداب الاجنبي، إلا أنه لم يحسّن الامن الغذائي العربي، لان التوسع كان استجابة للطلب في الصناعات الاوروبية. ولم تؤد قرارات الإصلاح الزراعي وتأميم الأصول الوطنية الرأسمالية في الخمسينيات والسبعينيات الى تحسين اوضاع الفئات الفقيرة وتوفير حاجاتها الاساسية، اذ عادت الاراضي الموزعة على الفلاحين الصغار الى كبار المزارعين بصورة استئجار او محاصصة للناتج الزراعي، فيما اتخذ التأميم في القطاع الصناعي والمصرفي صيغة «ملكية الدولة».
ولم تكن العوامل الرأسمالية الخارجية في صيغتها النيوليبرالية المتوحشة أقل وطأة على انعدام الامن الغذائي العربي، فقد أدى ارتفاع اسعار الغذاء عالمياً الى تزايد الفجوة الغذائية العربية التي ارتفعت من 24,9 مليار دولار الى 29,8 مليار دولار في العام الأول للازمة الاقتصادية التي بدأت العام 2008، الامر الذي انعكس على تراجع القدرة الشرائية في البلدان الاقل نمواً، في ظل عدم التكافؤ بين إنتاج الغذاء واستهلاكه، ففي العام 2009 بلغ استهلاك العرب من الحبوب 111,29 مليون طن، في حين أن الإنتاج لم يتجاوز 52,55 مليون طن.
إن انعدام الامن الغذائي العربي سيقود الى اختلال في التوازن الاجتماعي، وهذه المسألة تنتج مخاطر اقتصادية واجتماعية معقدة بعيدة الامد، ما يتطلب معالجات جدية تذهب الى الأسباب الفعلية للأزمة ولا تقف عند مظاهرها فقط، وفي مقدمة هذه المعالجات البحث عن صيغة لسياسات عربية تسعى نحو خفض تلك المخاطر او استبعادها، ان المعطيات التي توصل اليها المؤلف تؤكد تنامي حالات التشاؤم باتجاه تداعي انعدام الامن الغذائي، وارتفاع اسعار الغذاء، رغم حصول قدر من التراجع في معدلاته، ويجب ألا تعتمد البلدان العربية منخفضة او متوسطة الدخل على المعونات الغذائية، لأن منح تلك المعونات مرتبط من ناحية بالأسعار العالمية للسلع، ومن ناحية أخرى بمدى التزام البلدان العربية المتلقية للمعونة بالسياسة الليبرالية للدول المانحة، الأمر الذي يزيد مخاطر الأمن الغذائي، فضلاً عن مخاطر الامن القومي. وهذا يشير إلى احتمالات سيادة أزمة من نوع جديد يكون فيه انعدام الامن الغذائي ومخاطره أحد معطيات الوضع الاقتصادي العربي القائم.
من هذا المنطلق يطرح المؤلف السؤال التقليدي: ما العمل؟ ليخلص إلى ان البلدان العربية تحتاج الى مشروع نهضوي شامل من أجل الوصول الى الدولة ـ الامة العربية في زمنها الحديث. اما متضمنات هذا المشروع فقد طرحت من قبل بعض حكماء الامة ومفكريها من خلال نشاطات مركز دراسات الوحدة العربية بعد مسار طويل من البحث والدراسة، وهي تتلخص في التوجه نحو اقتصاد يأخذ بالاعتبار مسألة التنمية البشرية والإنسانية وإزالة الفقر والبؤس في المجتمع العربي، والخروج من دائرة الركود الى التغيير الديناميكي في النشاطات العربية المختلفة التي يُعدّ الاقتصاد جزءاً منها. بعبارة أخرى، تصعب معالجة الأمن الغذائي العربي بصورة منفردة، ولهذا أصبح خيار المشروع النهضوي العربي الشامل مسألة حتمية ان كان الهدف هو تحقيق الأمن الغذائي العربي.

سالم توفيق النجفي «سياسات الأمن الغذائي العربي، حالة الركود في اقتصاد عالمي متغيّر ـ رؤية للمستقبل».
مركز دراسات الوحدة العربية 2013، 238 صفحة.

في عهد الانقلاب.. ‘ الحذاء’ يعود الأداة المعتمدة للحكم! / سليم عزوز



جهر الانقلابيون بالمعصية، وأثبتوا لكل من له عينين، ولسان، وشفتين، أنهم جاءوا لينقموا من كل من له علاقة بثورة يناير، فهم العدو الحقيقي لكل مكونات ثورتنا، وها هم أولادي المغرر بهم (على رأي الرئيس السادات) يقفون على هذه الحقيقة بعد أن ذهبت السكرة وحلت الفكرة، وهم الذين مثل تحالفهم مع النظام القديم، ممثلاً في العسكر والفلول، غطاء ثورياً للثورة المضادة، التي تجلت يوم 30 يونيو الماضي، وعلى أثرها قام قائد الجند المتمرد عبد الفتاح السيسي، بخلع الرئيس المنتخب!
لا يمكن لمثلي أن يتجاهل الخيط الذي يربط بين كمين رولا خرسا للناشط بحركة السادس من أبريل، بصفع ضابط الشرطة للناشط المقبوض عليه، من مظاهرات مجلس الشورى، احتجاجاً على قانون منع التظاهر. فلم يشفع للناشط استسلامه لمن ألقى القبض عليه، عندما بادر الضابط بصفعه، وسبه، واذا بالصفعة والسباب تنقلان تلفزيونيا للعالم كله، ليقف الجميع على حجم الجريمة التي ارتكبها بعض الثوار عندما وضعوا أيديهم في أيدي بقايا النظام البائد، وعندما تحول دم الفتى جيكا عندهم إلى ماء، ووقفوا في ميدان التحرير جنباً إلى جنب مع وزير الداخلية السابق المتهم في محاضر رسمية بقتل جيكا، في شارع محمد محمود، والذي دخل ميدان التحرير محمولاً على أكتاف لفيف من السادة الضباط وهم يهتفون: ثوار.. أحرار.. سنكمل المشوار!
كان موقفاً لا تخطئ العين دلالته وجاء ليكشف أن الثورة تسرق، وأن من قتلوا الثوار يتخطون الرقاب ليصبحوا قادة الثورة، لكن هناك من غلبت عليهم شقاوتهم، فدفعهم العداء للإخوان، لأن يتنكروا للمبادئ، ويتنكروا لأهداف ثورة هتفت منذ اليوم الأول بسقوط حكم العسكر، وقد نصحهم حمدين صباحي بألا يسأل أحدهم من يقف بجواره ان كان من الفلول؟ فما بينهم وبين الفلول هو مجرد خلاف ثانوي، فالخلاف مع الإخوان هو الخلاف الجذري، ولا نعرف ما هي مشكلته مع الإخوان، حلفائه السابقين، الذين لم يصدقوا مع احد كما صدقوا معه، فتحالفوا معه في دورتين برلمانيتين، ومنعوا مرشحهم من الترشح أمامه، وفي الانتخابات الأولى بعد الثورة، حملوا رجاله على قوائم حزبهم، ليدخلوا البرلمان بفضل هذا التحالف!
الخلاف دب عندما تمكن مرشح الإخوان محمد مرسي من أن يكون في جولة الإعادة مع مرشح النظام القديم الفريق احمد شفيق، فأصاب حمدين ما أصاب ‘أخوة يوسف’، وعندما جرى التبشير بالانقلاب، كان من الداعمين له، ظناً منه ان الفريق السيسي ليس أكثر من قائد ميليشيا، وان دوره في الحياة الدنيا، أن ينحي القوة الاخوانية جانباً، ليمكن حمدين صباحي من حكم البلاد، وعلى أساس أنه يملك مقومات الحكم والتي تتمثل في شعره الطويل الناعم كالحرير، وهي ميزة لا تتوفر للسيسي، بحكم موقعه، فاته أن السيسي شعره ناعم، وعندما يترك ‘الميري’، سيمكنه ان ينافسه في نعومة الشعر، فضلاً عن ان هناك نوعا من الكريم، يمكنه أن يجعل من شعري أنا الخشن في لمعان شعر رأس حمدين صباحي!

الدلال العذري

ظهر حمدين صباحي مع محمود سعد على قناة ‘ النهار’، في لقطة كاشفة عن حجم ‘الدلال العذري’ الذي يحمله كلاهما للفريق السيسي، اذ غنى سعد ورد عليه حمدين قائلاً: أقول له يا سيدي ويا سيسي..’ عاشت الأسامي’، لكن السيسي لم يكن يقوم بانقلابه من اجل أن يأخذ السلطة من محمد مرسي ويسلمها لحمدين، والأقربون أولى بالمعروف، واذ كان الرجل زاهداً في السلطة فأمامه الفريق احمد شفيق المنافس الحقيقي للرئيس محمد مرسي!
السيسي كان معروضاً عليه في أيام مرسي أن يكون رئيساً للوزراء، لكن طمعه في ‘الكرسي الكبير’، بدون توافر المواصفات المطلوبة لشغله، جعلته يقدم على الانقلاب، والذي قال في مقابلة تلفزيونية ان الهدف منه كان التبكير بانتخابات رئاسية، رفضها الرئيس محمد مرسي، وها هي خمسة شهور تمضي، دون أن يلوح في الأفق ما يفيد أن انتخابات رئاسية ستجرى في القريب العاجل.
ما أمكن حصره من مقابلات تلفزيونية للفريق احمد شفيق في عهد الرئيس محمد مرسي أكثر من أربع مقابلات، واحدة أجراها عبد الرحيم علي، والثانية كانت مع مصطفى بكري، والثالثة والرابعة مع أسامة كمال، لكن بعد الانقلاب فرض عليه الصمت، لأنه طيلة الفترة الماضية لم يكن أكثر من أداة ضمن حملة شيطنة الرئيس مرسي للتمهيد للانقلاب، وقالوا ان الإخوان احتشدوا من اجل إسقاطه ونجاح مرسي بالتزوير، وأن محاكمته التي تحول دون عودته الى مصر، تتم بتحريض من مرسي.
لا بأس، مرسي لا يحكم البلاد الآن، فلماذا لا يعيدوا الحق الى أهله، ويتم تنصيب شفيق رئيساً؟ ولماذا لم تصدر الأحكام ببراءته، بعد أن توقف ضغط مرسي على القضاة من اجل إدانته؟!
المسألة وما فيها ان هناك طامع في السلطة اسمه عبد الفتاح السيسي، وقد ظن حمدين أنه يمكنه أن يضعه في جيبه، باعتباره المرشح الذي سيعطي المؤسسة العسكرية الحق في ان تحكم من وراء حجاب، وسيجعل من السيسي الحاكم الفعلي للبلاد، لكن سعادة الفريق يريد أن يكون رئيس جمهورية مصر العربية، لذا فلم يخدعه الحديث العاطفي، الذي كان عبارة عن غناء من المذيع ليرد عليه الضيف: أقول له يا سيدي.. وأقول له يا سيسي، وعندها تمنيت لو دخل عليهما النادل بقدحين من عصير الليمون.. ويدخل عليهما المخرج بكوبليه العندليب: ‘حبيبها لست وحدك حبيبها’.

المجال الجوي للعندليب

محمود سعد من أنصار حمدين صباحي، لذا فان عملية توزيع اللحن الموسيقي الخالد: ‘أقول له يا سيسي وأقول له يا سيدي’، بينهما، عملية مقصودة، لكن تسريبات السيسي، أكدت أنه لم يهضم هذه ‘الأونطة’، وهو محترف مثلهما في المجال الجوي للعندليب، والثلاثة عندما تستمع لهم تتذكر العندليب الأسمر، في الفيلم الشهير، عندما ضحكت عليه فتاة لعوب، ودفعته ليحلق شاربه، لتجعل منه أضحوكة، وعندما علم بهذا، قبل حفل له، تنهد من بين ضلوعه وقال: سأغني، واستمعت الفتاة إليه عبر المذياع والكلمات كاشفة عن حجم االحسرة، وكانت على جمر النار!
لم يبق لقناة ‘النهار’ سوى برنامج محمود سعد، بمواقفه المتأرجحة، يهاجم الانقلاب ويتقرب منه، ومحمود وحمدين بعزفهما المنفرد قررا أن يبيعا الماء في ‘حارة السقايين’.. لكن على من؟!
في واحدة من التسريبات، التي أذاعتها قناة ‘الجزيرة مباشر مصر’، قال السيسي ان حمدين جاء إليه ليقول له اذا ترشح فسوف يقف معه، لكن اذا لم يترشح فانه يطلب مساندته، وبحسب تصريحات السيسي، فانه لم يجبه، ومع هذا خرج حمدين يعلن انه المرشح وأن السيسي تراجع عن الترشيح!
وكان هذا التسريب كاشف عن أن العلاقة لم تعد على ما يرام، فكان هذا مبرراً للتيار الشعبي المؤيد لصباحي أن يعلن انحيازه لمرشحه، لكن حمدين وضعه أكثر تعقيداً من شباب أكثر حرية، وليس المذكور بقادر على أن يدخل معركة مع عسكر، الخيارات في تعاملهم مع الخصوم مفتوحة، فليس السيسي والذين معه برجال دولة، مثل كمال الشاذلي، أو حتى المشير محمد حسين طنطاوي.
ومؤخراً بدا الانقلاب العسكري وقد ضاق ذرعاً بفكرة أن يمثل دور المنحاز لثورة يناير للنهاية، فكان القانون المانع للمظاهرات، مع أنه انقلاب جاء بالمظاهرات، واعتمدها أداة لتأكيد الشرعية والاستيلاء على السلطة والإطاحة بالرئيس المنتخب!
ويدهش غير المتابع للأحداث عندما يشاهد، ضباط وزارة الداخلية وقد عملوا بهمة ونشاط، في التصدي للشباب الذي خرج في مظاهرات الأسبوع الماضي ضد قانون التظاهر، اذ كان واضحاً ان ضباط وزارة الداخلية في حالة انتقام شخصي، تسمح به ظروف الانقلاب المعادي لثورة يناير، والذي قرر الجهر بالمعصية.

أكمنة للنشطاء

في فض اعتصام رابعة، وعندما قال ضباط الجيش ان هذه مهمة وزارة الداخلية، كان قول ضباط الشرطة لن نذهب إلى هناك إلا وهم معنا، اذ كانوا يريدون الانتقام من الجميع، وحتى يتوقف الهتاف الأثير: ‘الجيش والشعب يد واحدة’، حيث كانوا يحسبونه هتافاً موجهاً ضدهم، لكن في مواجهة الشباب الثوري، وجدوها فرصة ذهبية للانتقام الشخصي من ثورة يناير في حماية الجنرال المتمرد، إذ كسروا فيها، وهزموا وولوا الدبر، وظلوا عامين ونصف العام في حالة من انكسار النفوس والعيون، وهي الحالة التي مثلت عائقاً أمام اللجنة المشكلة في عهد الرئيس محمد مرسي لهيكلة وزارة الداخلية، فقد كان أعضاء اللجنة يجدون من حسن المعاملة وطيب القول، ما أنساهم مهمتهم، والآن يضربون كفاً بكف، بعد أن جهر السادة الضباط بالعداوة، وأكدوا صحة مقولة، أن العرق دساس!
ضباط الشرطة الذين عزلوا في عهد الثورة، عادوا الى مواقعهم في زمن الثورة المضادة، وجاءت المظاهرات فرصة للانتقام لأنفسهم، وظلت قناة ‘الجزيرة’ تعيد ليوم كامل صورة الناشط المستسلم لعملية القبض عليه، ومع هذا فان الضابط يصفعه على وجهه، وتلازم هذا مع تحول بعض برامج ‘التوك شو’، على فضائيات الثورة المضادة، الى أكمنة للنشطاء.
لقد شاهدنا كيف لمساعد سابق لوزير الداخلية يهين على الهواء مباشرة ناشطا في بحركة السادس من ابريل، وقد سالت على لسانه صفائح القاذورات، سباً وقذفاً، وقال لي مقدم بأحد البرامج التلفزيونية، المغلقة بقرار من الانقلاب، كيف أن هذا الجنرال كان يأتي ضيفاً الى برنامجه فيتحدث مكسوراً ووديعاً.
لقطة أخرى لبرنامج رولا خرسا، جاء فيها أحد الضباط الكبار السابقين ليدشن مرحلة جديدة، أعادتنا لمرحلة مبارك القديمة، والتي أسقطتها ثورة الشعب المصري في يناير، عندما أكد ان أداة الحكم الجديدة، في التعامل مع المعارضين هي ‘الحذاء’، والحديث موجه للثوار.
رولا واحدة من منكوبي يناير، فقد كان بعلها عبد اللطيف المناوي ‘ قيمة وسيما’ في عهد مبارك، وجاء من خارج التلفزيون المصري متخطياً الرقاب ليكون الأول مكررا مع انس الفقي وزير الإعلام.. وهي الآن تنتقم من النشطاء، انتقاماً منها لمقدرات العائلة الكريمة التي ذهبت هباء منثورا.
الانقلاب ومنذ يومه الأول، جاء لينتقم من كل مكونات ثورة يناير، ومطاردة قناة ‘الجزيرة’ منذ اللحظة الاولى تأتي في هذا السياق، والعداء للإخوان، هو على هذه القاعدة، والآن اخذ الانقلاب مجراه، فهو لم يعد بحاجة الى غطاء ثوري، يعوقه عن أداء المهمة المنوطة به، بإعادة زمن حسني مبارك كاملاً، يحل عبد الفتاح السيسي محل مبارك فيه، فكان الجهر بالمعصية.
فالى أولادي المغرر بهم، لقد حلت الفكرة، فـ’الحداية لا تلقي كتاكيت’ ونظام مبارك لا يمكن أن يكون منتمياً لثورتنا، بأي درجة، فلا تكونوا كباسط كفيه على الماء ليبلغ فاهه وما هو ببالغه.

الشمس أجمل في بلادي من سواها / أحمد صبري


امتدت يد المنون إلى رمز من رموز العراق القومية الراحل سلام أحمد الذي بقي يحلم بتحقيق مشروع الوحدة على الرغم من تجاوزه الثمانين من عمره رغم الارتدادات التي أصابت سعي المتحمسين لهذا المشروع.
وكان يراهن على تجاوز الكارثة التي ألمت بالعراق والأمة بالاعتماد على المخلصين من أبنائها ويرى في فكر الزعيم جمال عبد الناصر ومشروعه، الأمل والملاذ لتخليص الأمة من حالات الانكسار والعثرات.
وسلام احمد ابن البصرة الفيحاء انتمي إلى حركة القوميين العرب في ذروة المد القومي عندما كان طالبا في الجامعة الأميركية ببيروت في خمسينيات القرن الماضي وعاصر الرواد هاني الهندي والمرحوم باسل الكبيسي والمرحوم سعدون حمادي ومناضلين عرب آخرين كان لهم الفضل في استمرار جذوة النضال القومي في تلك الفترة.
وقبل نحو اسبوعين من رحيله هاتفت أبا احمد فرد علي رغم اشتداد مرضه إلا أنه أشعرني انه قوي بالمبادئ التي آمن بها ويحلم أن تتحقق رغم حال الانكسار والتردي بفعل مااصاب قضية فلسطين واحتلال العراق وتغول الطامعين بأرض العراق وسيادته وعروبته. وما زادني اعتزازا وفخرا بموقفه الوطني والقومي أنه حملني مسؤولية أكبرت فيه عمق انتمائه وتمسكه بالعراق العربي الموحد بوصيته أن تكتب على قبره عند رحليه إلى الباري عز وجل مطلع رائعة الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب (الشمس أجمل في بلادي من سواها).
والراحل سلام احمد مضى على انخراطه بالسياسة مناضلا ومفكرا نحو ستة عقود تقلد خلالها مسؤوليات كبيرة في العراق وفي سوريا ومصر ولبنان والكويت في فترات هي من أشد فترات الإثارة في تاريخ العراق والنضال العربي .
كان قريبا من عبد الناصر ومن دائرة اتخاذ القرار في الرئاسة المصرية خلال ستينيات القرن الماضي وحاول خلالها أن يعزز أسس العلاقة بين التيار القومي في العراق ومصر إلا أن المتصيدين بالماء العكر وضعوا العراقيل في طريقه.
عمل بالصحافة فترأس صحيفة الثورة العربية لسان حال الاتحاد الاشتراكي العربي بالعراق في ستينيات القرن الماضي بعدها ابتعد قليلا عن السياسة وتفرغ للعمل التجاري واتخذ الكويت مقرا له.
واثار غزو العراق واحتلاله عام 2003 في سلام أحمد كل عوامل النخوة والرفض والتحدي لادراكه بمخاطره على وحدة العراق واستقلاله ودوره القومي ورأى فيه عدوانا سافرا ومشروعا لإضعاف العراق وإخراجه من دائرة الصراع العربي الصهيوني.
وخلال الفترة التي أعقبت احتلال العراق حاول سلام أحمد أن يستجمع طاقات القوى المناهضة للاحتلال ومشروعه وخاصة القوى القومية إلا أنه أصيب بخيبة أمل لاختلاف الرؤى في معالجة الحال التي وصل إليها العراق .
وكان يرى في المشروع الوطني العابر للطائفية والعرقية منقذ العراق وحاميه من محاولات تشظيه وتقسيمه والمحافظ على عروبته وهويته العربية وعمق ارتباطه بأمته العربية.
وراهن الراحل على التيار القومي العروبي بفصائله كافة ودوره في الحياة السياسية لأنه كما يعتقد تيار نظيف ووطني ومخلص وعابرللطائفية والعرقية وهو الأمل في إخراج العراق من محنته.
وعلى الرغم من اشتداد مرضه زاربغداد العام الماضي في مهمة وطنية سعى خلالها لتوحيد أطراف التيار القومي العربي في كيان واحد لمواجهة استحقاقات المرحلة الخطرة التي يمر بها العراق ومسؤولية القوى القومية العربية بالاضطلاع بهذا الدور الوطني.
وعلى الرغم من انه لم يفلح في مسعاه إلا أنه كان يراهن على المخلصين لإنضاج مشروع وطني يستجيب لشواغل العراقيين وتطلعاتهم بوطن آمن وموحد ومستقر وغير قابل للقسمة.
وحاولت مرة أخرى أن اطمئن على وضعه الصحي هاتفيا إلا أن زوجه أم أحمد ابلغتني بصعوبة تحدثه معي غير أنها أبلغتني أن آبا احمد يوصيك بتنفيذ وصيته.
وهكذا نودع إنسانا كان يحلم بوطن يستظل به الجميع وأراد أيضا أن يستظل بشمسه وهو في لحده. 

الذين اكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح! / سليم عزوز


بدأ حجم المؤامرة يتكشف، إذ وقفنا في هذا الأسبوع على من يقف وراء اختراق القرار المصري برفض التطبيع مع إسرائيل، وهو القرار المهم في تاريخ نقابة الصحفيين المصريين، والجماعة الوطنية عامة!.

وللتذكرة، فإن وفداً يضم خمسة عشر صحفياً مصرياً، فاجأنا بزيارة للضفة والقدس، ويضم الوفد ثلاثة من أعضاء مجلس نقابة الصحفيين المصريين، التي أصدرت الجمعية العمومية لها في سنة 1980 قراراً بحظر التطبيع مع إسرائيل، وقد عاقبت من خالفوا القرار، في فترات متفرقة، بيد أن الفارق فيما حدث في السابق وما حدث الآن، هو إعلان بعض الذين سافروا سابقاً أنهم ندموا على ما فعلوا، وقدموا أعذاراً متعددة، لم تحُل دون توقيع العقوبة، وإن خففتها في بعض الحالات، لكن الجديد هذه المرة أن مِن بين الذين سافروا، مَن كانوا ينتظرون منا، بدلاً من الهجوم عليهم، أن نكرمهم باعتبارهم أقدموا على إنجاز عظيم، وكأنهم اكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح، ولعلهم من فتحوا عكا، و باب المندب!.

وكالة " قدس برس"، بثت خبراً نشرته بعض الصحف، يفيد أن اتحاد الصحفيين العرب، قرر أن يعقد اجتماعه المقبل في "رام الله"، وأن هذا القرار اتخذ في الاجتماع الأخير بالكويت، ولا أدري هل تم نشره حينئذ ولم ننتبه له، لأننا مشغولون بما تتعرض له الثورة المصرية، على يد النظام البائد وأركانه، أم أنه تقرر إخفاء القرار على قاعدة أن الإثم هو ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، وأن الإعلان الآن هو بعد أن قام " الوفد" سالف الذكر، بمهمة استطلاعية، تمهد لهذا الاجتماع، حتى لا يكون انعقاده بمثابة الصدمة، وحتى يتأكدوا، بمستوى رد الفعل على مدى يقظة العقل المقاوم، وإلى الآن فإن ضعف رد الفعل يغري بالإقدام على هذه الخطوة، التي تمهد لطي صفحة العداء الشعبي للاحتلال الإسرائيلي!.

" قدس برس" استطلعت آراء بعض الكتاب حول هذا الاجتماع المرتقب، وكان مما قاله محمد المسفر أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر، أن قرار اتحاد الصحفيين العرب بعقد اجتماعهم المقبل في "رام الله" يرقى إلى مستوى الجريمة بحق فلسطين والأمتين العربية والإسلامية. واعتبر المسفر القرارَ تطبيعًا، في حين قال عبد الستار قاسم أستاذ العلوم السياسية بجامعة نابلس إن زيارة الصحفيين العرب لفلسطين، وهي تحت الاحتلال، هي مشاركة للاحتلال في جرائمه ضد الفلسطينيين وأن أي عربي يزور فلسطين وهي تحت الاحتلال هو مطبع مع الكيان الصهيوني!.

ما قاله مسفر والقاسم، ليس اختراعاً جديداً، فالإجماع منعقد على أن زيارة الأراضي العربية المحتلة الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي يدخل في باب التطبيع المحرم وطنياً، ونقابياً، وشعبياً، لكن الوفد المكون من خمسة عشر صحفياً الذي ذهب ليمهد الأرض لزعزعة "اليقين الوطني"، قرر أن يشغلنا بالدفاع عن بديهيات وعلى المستقِر في الوجدان الشعبي، وبدأ بعض أعضاء الوفد في الرد علينا وكأنهم كائنات مندهشة وقد تساقطت علينا من السماء!.

لم أكن أعلم بما جرى، إلا عندما شاهدت صورة أحدهم أمام المسجد الأقصى وفركت عينيّ غير مصدق، وقلت في "عقل بالي" ربما لا يعرف الفتى أن ما أقدم عليه يمثل جريمة، فذهب يحتفي بنفسه، وكأنه في رحلة مدرسية إلى مدينة الملاهي، ثم كانت الطامة الكبرى بصورة نشرت لأخرى عضو في مجلس نقابة الصحفيين وهي في كنيسة بيت لحم، وظننت للوهلة الأولى، أن الأمر مرده إلى جهل منها بقرارات الجمعية العمومية، وعدم وعي بأن زيارة الأرض المحتلة يدخل في باب التطبيع، لولا أنني تذكرت أنها وهي المسيحية الديانة، تعلم أن البابا شنودة أوقف الحج للمسيحيين ما دامت القدس تحت الاحتلال، وذات عام تفجرت أزمة الوفد المسيحي الذي زار القدس على الرغم من قرار البابا بالمقاطعة، فأصدر فرماناً بالحرمان الكنسي في حقهم!.

فإن لم يسعف الوعي السياسي للسيدة عضو المجلس أن ما أقدمت عليه يقع في دائرة "الحرام" السياسي، فهي تعلم حتماً أنه يقع تحت مظلة "الحرام" الكنَسي!.

بعد هذا علمت، من خلال ما يكتبه بعض عناصر الوفد المسافر، أن وفداً صحفياً يتكون من خمسة عشر فرداً سافر إلى "رام الله" وإلى القدس، ووجود ثلاثة أعضاء من مجلس النقابة، جعلني في ريبة من أمري، وعليه فقد طلبت رأي اثنين من النقابيين المخضرمين، هما رجائي الميرغني، ويحيى قلاش، فيما حدث: أليس هو التطبيع المحرم؟.. وجاءت الإجابة سريعة، أنه التطبيع بشحمه ولحمه، وجاء رأيهما تنديداً بما جرى ولهذا الاختراق لقرار الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، وأتبع يحيى قلاش هذا بمقال وضح فيه الصورة لهؤلاء الذين بدوا غارقين في "ماء البطيخ"، يتحدثون خارج الموضوع، وكأنهم جاءوا بدين جديد!.

وفي لحظات معينة، بدا لي جو النقاش، الذي جرى بين من يقفون على ثغرة من ثغور الوطنية، ومن تم اختراق قرار الجماعة الوطنية بهم، فكاهياً بامتياز!.

لم نكن نعلم بأمر الوفد المسافر، إلا من خلال ما نشره عدد من أعضاء الوفد، ومع هذا جاءت الردود على استنكار ما أقدموا عليه، لتدفع من تصدروا المشهد فيه، إلى إعلان أسفهم على الخذلان، الذي تعرضوا له، وقالت واحدة أنها مصدومة، فبدلاً من تكريمهم يجري تقديمهم فريسة لقوات الاحتلال الإسرائيلي!.

لا أعرف الأهداف الوطنية النبيلة، التي كانت دافعاً للقوم للسفر، ولا أعرف ما حققوه من إنجازات وطنية، تدفعهم إلى انتظار التكريم منا، لكن أثار الضحك الحديث عن أننا كان ينبغي أن ننتظرهم حتى يعودوا إلى أرض الوطن، ولا نشعر الأمن الإسرائيلي بهم!.

بدا المشهد ساخراً، والوفد الذي سافر من أجل تحقيق إنجازات عظيمة في اتجاه قضية الصراع الإسرائيلي، يقدم نفسه على أنه "تسلل" إلى رام الله ومنها إلى القدس، دون أن يشعر الأمن الإسرائيلي بهم، كما لو كانوا في رحلة تنكرية، ولم يعلنوا إلى الآن ما حققوه من إنجازات جبارة، وقد طلبوا منا أن نسكت حتى يعودوا ويعلنوها، وقد عادوا ولم يعلنوها فربما لو وقفنا عليها، لأمكن لنا أن نلتمس العذر لهم، وربما قمنا بتكريمهم على النحو الذي أعلنته عضو الوفد "المصدومة" فينا.

ربما استخسروا فينا أن نقف على هذا الدور الوطني، بيد أنه على الرغم من فضحنا لمن قاموا بالرحلة التنكرية، فإن الأمن الإسرائيلي لم يعلم بأمرهم، ربما لأنه لا يجيد العربية التي كتبنا بها، ولهذا تمكن الوفد المتسلل من أن يصفع هذا الأمن على القفا للمرة الثالثة، الأولى وهو قادم لرام الله من القاهرة، والثانية وهو في طريقه للقدس من رام الله، والثالثة من القدس إلى القاهرة.. يا له من أمن هو عنوان الفشل!.

حديث التسلل جاء بعد أن نفى القوم أن يكونوا قد دنسوا جوازات سفرهم بتأشيرة "دولة إسرائيل" وعندما قيل لهم أن أبو مازن نفسه لا يمكنه أن يدخل أو يخرج إلى رام الله إلا بتأشيرة إسرائيلية، وأن هناك طريقة أخرى هي الحصول على تأشيرة على ورقة منفصلة وهي لا تمنح إلا للعملاء ومن في حكمهم، كان الإسهاب في "حدوتة" التسلل على أطراف الأصابع بالليل والناس نيام!.

مما قيل، أن السفر كان للاحتفال بذكرى وفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، قبل تضخيم الدور، ليصبح في حجم اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وعرفات لم يمت البارحة، وإذا كان المسافرون ليس لديهم علم بموضوع التطبيع، فأليس من المنطق أن يسألوا أنفسهم عن الموانع التي حالت دون سفر وفود خلال السنوات الست الماضية لإحياء ذكرى عرفات؟!

ما علينا، فعندما علمت بأن اتحاد الصحفيين العرب بالتعاون مع السلطة الفلسطينية هم من وقفوا وراء سفر وفد الصحفيين المصريين، قلت اتضحت الرؤية، ولعل القائمين على الاتحاد، يعلمون أن الاجتماع الأول في "رام الله" كاشف عن أن هناك موانع كانت تحول دون ذلك في الماضي، وقد استغلوا إلهاء الأمة بجراحها، للإقدام على هذه الخطوة، التي تخدم إسرائيل، و"عربون محبة" من السلطة الفلسطينية للكيان الإسرائيلي!.

وعندما نتوصل إلى إجابة على سؤال: لماذا كان الوفد مصرياً فقط، على الرغم من أن الاتحاد إطار جامع للصحفيين العرب جميعاً، سنقف على حجم مشاركة الانقلاب العسكري في مصر في الخيانة لقضايا الأمة، بحثاً عن رضا إسرائيلي يجلب بالتبعية الرضا الأمريكي.

إنها الخيانة وقد أطلت برأسها.

الخميس، 28 نوفمبر 2013

العلاقات السعودية ـ الأمريكية: بيت من زجاج.. يرجم بالحجارة! / صبحي حديدي


قبل أن يتولى الأمانة العامة لمجلس الأمن الوطني، ثمّ يترأس المخابرات العامة، في المملكة العربية السعودية؛ شغل الأمير بندر بن سلطان منصب سفارة بلده لدى الولايات المتحدة، طيلة عقدين، شهدا توطد صداقة خاصة وثيقة مع الرئيسين جورج بوش الأب والابن، واكتساب ذلك اللقب الظريف الذي اختارته له كواليس الصحافة الأمريكية: ‘بندر بوش’. أمّا في الأيام الراهنة من عمر العلاقات بين واشنطن والرياض، فإنّ لقب ‘بندر أوباما’ لم يعد بعيد المنال وغير وارد، فحسب؛ بل صار أقرب إلى سبّة، في ناظر الأمير، وسمة غير مرتجاة، وغير سارّة أغلب الظن، عند الرئيس الأمريكي الثالث والأربعين.
كان الخلاف يتسع، تدريجياً ولكن بانتظام، حول ملفات عربية مثل مواقف البيت الأبيض من نظام بشار الأسد في سورية، ثمّ نظام الفريق عبد الفتاح السيسي في مصر، رغم النقائض الكثيرة التي توجّب أن تُبعد الموقفَين، السعودي والأمريكي، عن حيثيات مفصلية في الملفّين؛ كأنْ تقف الرياض ضدّ جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتحتضن إسلاميي سورية (المعتدلين منهم مثل الوسطيين، فضلاً عن المجموعات المسلحة والسلفية)، وتنهج واشنطن مسارات أخرى، متباينة أو متعارضة. ثمّ تفاقم الخلاف حول مسائل تسليح المملكة، وخاصة في ميدان الأنظمة الدفاعية والصاروخية المتطورة، حيث لوّح الأمير بالانفتاح على السلاح الروسي، وقام بالفعل بزيارة متعددة الأغراض في آب (أغسطس) الماضي، تردد أنها شملت عرض ‘رشوة’ مالية ضخمة إذا بدّلت روسيا موقفها من نظام الأسد.
وبالطبع، كان لا مفرّ من أن يبلغ الخلاف أشدّه، مؤخراً، على خلفية الاتفاق الذي توصلت إليه طهران مع الغرب وأمريكا في المقام الأوّل، ومع روسيا، حول البرنامج النووي الإيراني؛ والذي لاح، ليس دون أسباب وجيهة في الواقع، أنه سجّل تفضيلاً صريحاً من البيت الأبيض، يضع أمن المملكة في مصافّ تالية لأمن إسرائيل، وبقاء التوازن النووي راجحاً لصالح الأخيرة في المنطقة. كأنّ السلف من رؤساء أمريكا، منذ خريف 1945، حين عُقد الاجتماع الشهير بين فرنكلين روزفلت وعبد العزيز آل سعود، على ظهر حاملة الطائرات الأمريكية USS Quincy في مياه قناة السويس، قد انتهجوا خطاً مغايراً لهذا الذي يهتدي به أوباما اليوم. أو كأنّ المملكة شرعت في برنامج نووي، جسور وطموح، منافس لإسرائيل، أو للجارة الإيرانية، يقلب التوازن النووي الإقليمي؛ فلم تجد من الولايات المتحدة إلا الصدّ والتعطيل، أو المساواة بالمثل مع إيران (على الأقلّ، لأنّ علاقة امريكا مع إسرائيل لا تشبه اية علاقة لها مع أيّ حليف).
وسبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر! ففي صبيحة 16 كانون الثاني (يناير) 1991، بعد أيّام معدودات على فشل لقاء جنيف الشهير بين وزيرَي الخارجية آنذاك، العراقي طارق عزيز والأمريكي جيمس بيكر، اتصل الأمير بندر بالملك فهد ليقول له، بعد وصلة تمويه قصيرة تضمّنت السلام والسؤال عن الصحّة: ‘صاحبنا سليمان قادم الساعة الثالثة صباحاً. إنه مريض، وٍلهذا أنا أرسله إليكم’. وكان، بالطبع، يُعْلِم مليكه بالتوقيت الدقيق لاندلاع العمليات الجوية ضدّ بغداد، إذْ في الساعة ذاتها كانت قاذفات الـ B-52 تقلع من قاعدة باركسديل، لويزيانا، في طريقها إلى الخليج. ولقد تردّد حينها أنّ الأمير السعودي كان على علم بتوقيت وتفاصيل الخطة العسكرية، قبل أن يعلم بها عشرات الأمريكيين من أصحاب الحقّ الشرعي في معرفة تلك المعلومات الحساسة؛ كذلك تردد، بعدئذ، أنه أحيط علماً بخطة وتوقيتات غزو العراق، سنة 2003، قبل أن تبلغ أسماع وزير الخارجية الأمريكي كولن باول!
تلك كانت واحدة من ذرى ما يُسمّى ‘العلاقة الخاصة’ بين السعودية والولايات المتحدة، كما سهر على تطويرها بندر بن سلطان بصفة خاصة، وهذا يكمن بعض التفسير (حيث الجانب السيكولوجي الذاتي، فيه، ليس ضئيلاً البتة) وراء إحساس الأمير، نفسه وأكثر من سواه، بخيبة خاصة أقرب إلى الانتكاسة الشخصية. بيد أنّ تلك العلاقة كانت سيرورة ارتهان من جانب المملكة، للسياسات الأمريكية عموماً، على نطاق كوني ظلّ دائماً يتجاوز المشكلات المحلية أو الإقليمية؛ من الإنفاق على الإنتخابات البلدية الإيطالية لكي لا ينجح الشيوعيون، إلى الدور السعودي المركزي في تقديم الأرض والقواعد العسكرية لتحالف ‘حفر الباطن’، ثمّ غزو العراق لاحقاً… وكانت السيرورة تخلق وقائعها وظواهرها الرديفة أو المكمّلة، تلك التي لم تأتِ دائماً برياح تلائم سفائن آل سعود: استيلاد ‘الأفغان العرب’، والتأثيم الذي ترافق مع اكتشاف 15 سعودياً من أصل 19 انتحارياً نفّذوا هجمات 9/11، واهتزاز الشرعية الدينية والسياسية التي تمتعت بها العائلة الملكية، وتفاقم الازمات الاقتصادية، ومشكلات البطالة وانخفاض الدخل الفردي، ارتفاع والمديونية العامة، وعشرات الأزمات الاجتماعية والسياسية الأخرى.
وتلك، أيضاً، هي ذاتها السيرورات التي استولدت ما يُسمّى بـ ‘القوى الليبرالية’ أو ‘التكنوقراط’ أو دعاة الإصلاح في صفوف المثقفين خصوصاً، وتوجّب أن تشكّل قطباً موازياً موضوعياً للقطب العقائدي الوهابي المشيخي، الذي لم يكفّ عن الالتحام بهيكليته القبلية، متشبثاً بموقع الحامل الرسمي للقِيَم القبلية والأعراف والتراث والماضي التليد والفقه والشريعة والسنّة… هذه، باختصار، هي كتلة القِيَم التي ستأخذ صفة موحدة عالية المقام، اسمها ‘أصول الدين’؛ وهي التي سوف تنقلب إلى مؤسسة عقائدية مستقلة جبارة، تتبادل التأثير والتأثر والشدّ والجذب مع بيروقراطية الدولة وشروط العصر وعواصف التحديث التي كانت تهبّ بين الحين والآخر لأسباب موضوعية صرفة. وهكذا فإنّ صيغة التعاقد بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية فرضت على النظام اعتماد مزيج من سياسات القوة بما تتضمنه من إضعاف للامتيازات القبلية، وتوطيد للقرابات والولاءات، ودعم للأسس الإدارية والبيروقراطية الضرورية، وإتمام للزواج الناجح بينها وبين شركات النفط العملاقة، واستيراد التكنولوجيا، والمضيّ قدماً في التحالفات الإقليمية والدولية.
الولايات المتحدة لم تكن بعيدة عن هذا الغمار، ليس بسبب أمن الطاقة واشتراطات العلاقة التاريخية مع المملكة، فحسب؛ بل كذلك لأنّ ‘الحملة على الإرهاب’، كما دشّنها بوش الابن ورهط المحافظين الجدد في أمريكا، اقتضت إشراك المملكة، قسراً أحياناً، في غالبية مقتضيات الحملة، المالية واللوجستية والاستخباراتية بصفة خاصة. على صعيد سعودي داخلي، انحصرت الحملة في مستوى أمني وتقني محض، وبقيت بالتالي عاجزة تماماً عن تحقيق الأهداف المرجوة منها في المستويات السياسية والتربوية والدينية؛ كما أنّ نتائجها، على الصعيد الإعلامي الرسمي، كانت كارثية تماماً. يُضاف إلى هذا أن الحملة لم تقترن بأي إصلاحات ملموسة تخصّ الحريات العامة والتعددية الفكرية وحقّ التعبير، فبدا وكأنّ ما يقوم به المتشددون من عمليات هو جهاد الحقّ ضدّ الباطل، وجهاد المسلم ضدّ السلطان الجائر والفاسد.
وممّا سرّع في وتيرة هذا الفهم لمعنى ‘الجهاد’، الداخلي كما يصحّ القول، أنّ شرعية النظام اهتزّت دينياً وسياسياً، وأخذ يزداد ضعفاً مبدأ الطاعة المبنيّة على النص الديني، بل لعلّ المبدأ ذاته تحوّل إلى شرعية مضادّة، جهادية، تدعو إلى الخروج على النظام. وعلى الصعيد السياسي، لم تعد صيغة المملكة كما شيّدها الملك المؤسس قادرة على إقناع الجمهور، وأخذت تتلاشى تدريجياً صورة التلاحم الداخلي التي رسمها في أذهان المواطنين، بل إنّ علاقات النظام وسياساته الداخلية ومواقفه الخارجية منذ 11/9 باتت تتسبّب في العكس تماماً، أي تفضح مقدار الزيف في تركيب عناصر تلك الصورة.
وقبل هذا وذاك، انطوت معظم أوهام ‘دولة الرفاه’، حين أخذت الأوضاع الاقتصادية تسير من سيىء إلى أسوأ، وبرزت مشكلات اقتصادية جدّية بالفعل، أناخت بثقلها على المملكة للمرّة الأولى منذ تأسيسها سنة 1932، فلم تعد مطالبة المواطنين بالإصلاح السياسي ترفاً أو تقليداً للآخرين، بل رغبة فعلية في الدفاع عن مصالحهم المعيشية ومستقبل أبنائهم. ولقد ساد اعتقاد مفاده أنّ القطاع السعودي الخاص هو ‘رافعة’ التغيير الديمقراطي، واستحداث مؤسسات المجتمع المدني، ووضع حدّ لهيمنة السلطة والولاءات العشائرية على السياسة والسيرورة السياسية. المفارقة، في هذا، أنّ المثال الأمريكي كان النموذج المرجعي في تحليل يهمل دور الدولة التي تضخّ رؤوس الأموال إلى القطاع الخاص، ودور العائدات النفطية في تكوين الدائرة ‘الإنتاجية’ الأكبر من حول القطاع الخاص، وطبيعة التقاسم الوظيفي المسالم بين الدولة والسوق.
خلاصة القول إنّ أطوار ‘العلاقة الخاصة’ قد انصرمت، حتى إشعار آخر، وانقضت تلك المناخات التي شهدت الرئيس الأمريكي بوش الابن يرفع شعار الشراكة الأمنية مع المملكة، وتنبري وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس لامتداح حلفاء سعوديين ‘يحاربون الإرهابيين ومموّليهم، ويحاولون دفع جهود السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني، ويتحركون لتوسيع حقوق التصويت وحقوق المرأة. هنالك صورة لا تفارق مخيلتي رأيتها خلال الانتخابات البلدية السعودية، حين اصطحب رجل ابنته إلى مركز الانتخاب وجعلها هي التي تسقط ورقة الاقتراع في الصندوق. هذا يدلنا على ما يُتوقع لحياتها إذا استمرت الإصلاحات الديمقراطية’! ولعلها، بالأحرى، أطوار سيناريوهات الكارثة، على غرار ما استعرضه الأمريكي روبرت باير في كتابه ‘الذهاب إلى الفراش مع الشيطان: كيف باعت واشنطن أرواحنا مقابل الخام السعودي’، والذي صدر قبل عقد من الزمان، واستبصر سلسلة الأخطار الفادحة التي يمكن أن تنجم عن سوء إدارة العلاقات السعودية ـ الأمريكية.
خلاصة ثانية تفيد بأنّ بيت آل سعود صار من زجاج، أكثر من أية حقبة سابقة، وصار رجم الآخرين بالحجارة من داخله كفيل باستقبال حجارة تهشّم جدرانه، إذا لم تأتِ على بنيانه وتهدّ أعمدته؛ وبذلك فإنّ البيت بات أكثر اعتماداً على ضامنه التاريخي، وحارسه الأوّل: الولايات المتحدة، بصرف النظر عن اسم شاغل البيت الأبيض.
الخلاصة الثالثة، الرديفة، هي أنّ هذه الأيام، تحديداً، ليست المثلى التي قد تزيّن للأمير بندر بن سلطان أن ‘يحرد’ من الحارس الأمريكي الضامن؛ في الملفات جمعاء، من نظام الأسد إلى نظام السيسي، ومن البرنامج النووي الإيراني إلى برامج التسليح الماراثونية.
وما همّ أن يُصاب أمير ما، واحد، بجرح نرجسي، طفيف أو حتى غائر؛ ما دامت المملكة باقية على حالها العتيق، صديقة وفيّة، راضية مرضية، ميزانها التجاري السنوي يشير إلى واردات من الولايات المتحدة بقيمة 17 مليار دولار أمريكي!

الأربعاء، 27 نوفمبر 2013

الجيش الأمريكي يكتشف افريقيا



أندرو بيسفتش 
ترجمة قاسم مكي - عن لوس انجلوس تايمز 
لقد ظلت إفريقيا دائما في أسفل قائمة أولويات الجيش الأمريكي. ولكن يبدو أن ذلك الوضع يتغير الآن. فكما  ذكر إيريك شميدت مؤخرا في نيويورك تايمز “يستعد الآن آلاف الجنود الذين كانوا يتجهون فيما مضى إلى العراق أو أفغانستان لأداء مهام في إفريقيا.” وقبل أن يقطعوا شوطا طويلا في استعدادهم هذا فلربما يرغب الأمريكان في طرح أسئلة قليلة. ومن أهم هذه الأسئلة: لماذا هذا التحول الفجائي في الأولويات؟ وما هو الهدف؟ ومن هو الذي سيستفيد من ذلك؟ وماهي المخاطر التي ستترتب على عسكرة السياسة الأمريكية في إفريقيا؟.
إن الجيش الأمريكي خصوصا (من بين مختلف أسلحة القوات المسلحة)  ينجذب إلى فكرة تمدد الوجود العسكري الأمريكي في إفريقيا.
وكما لاحظ شميدت فإن الجيش “يتطلع إلى مهام جديدة حول العالم” مع خروج القوات الأمريكية من العراق ومغادرتها أفغانستان عما قريب حسبما هو مقرر. وبالنسبة لقادة الجيش فإن إفريقيا تعني فرصة لإثبات أهميتهم في وقت تفقد فيه الولايات المتحدة قدرا كبيرا من شهيتها في إرسال جنودها لغزو واحتلال البلدان الأخرى. وهكذا صارت لدينا قيادة الجيش الأمريكي في إفريقيا (يوساراف) والتي تشكل إضافة إلى قائمة البنتاجون التي تضم قيادات عسكرية تتزايد باستمرار. وبدا يقينا أن مهمة هذه القيادة التي توصف بأنها “أول فريق عسكري أمريكي لخدمة التغيير الإيجابي في افريقيا” يعوزها البريق وأنها طموحة على نحو لاينبئ بخير. فقيادة (يوساراف) تعزز من جهة ” قدرات القوات البرية  للدول الإفريقية والمنظمات الإقليمية”. كما أنها من جهة أخرى “تتصرف بحسم لتأسيس بيئة آمنة إلى جانب حماية مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة.”ويأمل المرء أن تُخصَّص الأولوية لإتمام النصف الأول من هذه المهمة (تدريب الجنود الأفارقة  وتزويدهم بالمعدات ) قبل تنفيذ نصفها الثاني. ولكن مثل هذه الجهود غالبا ما ستمهد السبيل للقيام ” بتصرف حاسم”. وهذا تعبير مهذب يُقصد به “شن الحرب.” دعونا  نتخلى عن العبارات المهذبة ونقول إن هذا مثال  كلاسيكي لوضع تحل فيه المصالح البيروقراطية ليس فقط محلَّ الحسابات الاستراتيجية بل أيضا الحس السليم كأساس لوضع السياسات. وبالنسبة للقوات البحرية والجوية( الأمريكية) فإن سياسة أوباما التي رُوِّجَ لها بشدة تحت اسم “الانعطاف” نحو شرق آسيا تبدو أشبه بفرصة بعثت بها العناية الإلهية. فالتصدي للتهديد المفترض  من الصين الصاعدة ينطوي على وعد بالإبقاء على  القوات المسلحة الأمريكية في حالة انشغال(ووفرة في المخصصات المالية) لعقود قادمة. ولكن باستثناء الاستئناف المحتمل للحرب الكورية التي ظلت في حالة كمون لفترة طويلة فمن الصعب تصور سيناريوهات آسيوية تستلزم تولي قوات الجيش مهاما واسعة النطاق هناك. لذلك  فإن مدَّ ” الحرب الدولية على الإرهاب”  إلى قلب إفريقيا يسمح للجيش الأمريكي باتخاذ ” انعطافته” الخاصة به. مبدئيا، فإن بعثات عسكرية صغيرة فقط ستذهب إلى إفريقيا. وهذا يتسق مع تجانس الجيش مع ما أسماه ” أثر القدم الخفيف” الذي اكتشفه مؤخرا. وعلى الرغم من أن البعثات العسكرية ستتشكل من جنود مقاتلين إلا أن غرضها لن يكون القتال ولكن التدريب. فهي ستساعد في إيجاد قوات محلية كفؤة وموثوقة سياسيا. ولاشك أن جهود الولايات المتحدة  لترقية القدرات العسكرية الإفريقية ستثمر فرصا لتسويق الأسلحة الأمريكية. وهذه منفعة ثانوية لاتغيب عن بال مورِّدِي المعدات الدفاعية بالولايات المتحدة. ثمة مشكلتان على الأقل هنا. أولاهما أن سجلِّ القوات المسلحة الأمريكية فيما يخص بناء القوات الأجنبية يشكل مزيجا من الإيجاب والسلب في أحسن الأحوال. ففي العراق مثلا عَانَى البنتاجون لعدة أعوام في إعادة بناء الجيش العراقي بعد حماقة حَلِّه في عام 2003 . وقد سمح ذلك المجهود في النهاية لقوات الولايات المتحدة بمغادرة العراق. ولكن وكما تشير الهجمات اليومية للمتمردين التي تعيث خرابا في بغداد والمدن الأخرى فمن الواضح أن “جيشنا” العراقي غير قادر على الحفاظ ولو على أدنى حد معقول من الأمن الداخلي. وإذا كان ذلك يُعَدُّ نجاحا فمن الصعب تخيل كيف يبدو الفشل. وفي مصر عملت الولايات المتحدة لعقود من أجل غرس مبدأ الحكم المدني وسط الجيش المصري. ولكنَّ هذا العام حين رأى كبارُ الضباط أن الحكومة المنتخبة ديمقراطيا تتصرف على نحو يخالف هواهم دبَّروا إنقلابا على الفور وأطاحوا بها. ثم عقب ذلك قمع الجنود في قسوة المواطنين ممن تجرَّأوا على الاعتراض.  وفي الأثناء اتضح أن نفوذ البنتاجون على الجنرالات المصريين يساوي صفرا. وربما أن الأسوأ من منظور الولايات المتحدة هو تحوُّل (أو تحوُّر) البعثات العسكرية  التي تتشكل (في البداية) من عدد متواضع من الجنود  إلى قوات كبيرة . فحين لاتمضي الأمور بطريقة صحيحة يكون لدى واشنطن ميل تلقائي لرفع الرهان.إذ سيعني وقوعُ خسائر قليلة خلق انطباعٍ بوجود رهانات كبيرة  وزعما بأنَّ صدقيةَ الولايات المتحدة على المحك وإصرارا من الصقور بأن تغيير مسار الأمور يستلزمُ وجود” أحذية ثقيلة في الميدان.” ولكيلا يكون ذلك إشارة مبتذلة (من جهتنا) للتصرفات التصعيدية التي أنتجت حربَ فيتنام دعونا نتفحص كلمات اللواء حينها بيرك جاريت الذي تولى قيادة (يوساراف) حتى عام 2010. فقد ذكر أن (يوساراف) ربما تبدو صغيرة في حدِّ ذاتها ” ولكننا نمثل جيشا من مليون جندي ( في الخدمة أو الحراسة أو الاحتياط). ويمكننا إرسالهم إلى إفريقيا.” إن لدى إفريقيااحتياجات عديدة. ومن المشكوك فيه أنها تحتاج إلى أن تبعث لها الولايات المتحدة بمليون جندي أمريكي. وإذا كانت واشنطن تريد تشجيع ” التغيير الإيجابي” في إفريقيا فربما يكون تدريب مليون مدرِّس إفريقي أكثر فائدة. إن جهود بناء جيوش أجنبية يرتكز ضمنا على افتراض رغبة الشعوب” المتخلفة” في التعلم على يد أمريكا وأنها ستستفيد منها يقينا. لكن هذا الإدعاء الأبوي الذي يزيد قليلا عن أن يكون تحديثا  لمفهوم “عبء الرجل الأبيض” يستحق مراجعة نقدية. ومن الواجب حقا التخلي عنه باعتباره زائفا ووخيما في  الوقت نفسه. فهو سيىء للإفارقة وسيىء لنا.

* الكاتب أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن

الأحد، 24 نوفمبر 2013

كم على الأدباء العرب أن ينتظروا حتى تطرق نوبل أبوابهم مجددا ؟



  محمد القصبي

ما أسعده النجاح، له ألف أب، وما أتعسه الفشل، لقيط ومنبوذ !! بعد 25عاما من حصول شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ على جائزة نوبل، ثمة من لا يزالون يتنازعون أبوة الحدث الأعظم في تاريخنا الأدبي، وقد لا يكون نزاعا، خاصة في حالتنا تلك، بل الشعور بالفخر، أو ربما كشفا عن حقيقة تغيب عن الكثيرين، وما أعنيه هذا الذي ذكره البروفيسور عطية عامر مؤسس قسم اللغة العربية بجامعة استكهولم، في صحيفة القاهرة عدد الثلاثاء 2 أكتوبر 2012 من أنه ساهم في حصول محفوظ على الجائزة من خلال ترشيحه له عبر مكاتباته للأكاديمية الملكية السويدية، فهل نصدقه ؟
في مذكراته التي نشرت بالعربية في "أبو ظبي" منذ عدة سنوات، يشير دينيس جونسون ديفز إلى أنه خلال زيارة له للقاهرة في سبتمبر عام 1988 ـ وكان وقتها يقيم بفرنسا أو ربما في أسبانيا ـ اتصل به صديق ليقول له إن زوجة السفير الفرنسي في تونس وهي سويدية الجنسية، وكانت في ذلك الوقت تزور بالقاهرة، ترغب في مقابلته، يقول ديفز: "عندما التقينا في "كليوباترا هوتيل" أخبرتني بأن لجنة جائزة نوبل تنظر في احتمال منح الجائزة لأحد الكتَّاب العرب" ومن هذه العبارة نفهم أن عملية اختيار الفائز بالجائزة لا تتكئ على محكات العدالة المطلقة، أي مرشحين من كافة أنحاء الدنيا يجري اختيار الأفضل من بينهم بغض النظر عن أية معايير أخرى إقليمية أو عرقية أو دينية أو سياسية، مما يضرب عرض الحائط بأحد الشروط الصارمة التي سنها ألفريد نوبل نفسه في اختيار المرشحين لجوائزه وهو: أن تمنح الجوائز لمبدعين قدموا للبشرية أفضل ما يمكنها الاستفادة منه خلال السنوات السابقة، وألا يتم التوقف عند جنسية المبدع وانتمائه القومي عند ترشيحه لنيل الجائزة.
ولأن هذا الشرط رغم إلحاح ألفريد نوبل عليه عند تأسيسه لنظام الجائزة لا يؤخذ به في كثير من الأحيان تحت وطأة الدوافع السياسية، فقد أبدى ديفيز استغرابه لما سمعه من زوجة السفير الفرنسي، لاعتقاده ربما أن الجائزة مسيسة، فكيف تمنح للعرب ؟!
ويكشف المترجم الكبير عن أن زوجة الدبلوماسي الفرنسي كانت لديها بالفعل قائمة بمرشحين عرب للجائزة، مثل أدونيس الذي ظل اسمه يتردد سنويا عشية الإعلان عن الفائز بالجائزة منذ ثلاثة عقود، والطيب صالح، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، إلا أنها كانت تريد المزيد من المرشحين، لذا سألت إن كان لديه أسماء أخرى؟ وحين أجاب ديفيز بالنفي بدآ في نقاش حول أهلية كل اسم للجائزة.
وطبقا لما ذكره ديفز، بدت حظوظ أدونيس قليلة لأن شعره غامض وغير مفهوم للعامة، وثمة سبب آخر لا علاقة له بإبداعه إلا أنه يمكن أن يمثل عقبة أمام حصوله على الجائزة، تغيير اسمه، سلوك قد يثير نفور الكثير من مواطنيه العرب. يوسف إدريس لم يكن أفضل حالا رغم مكانته الرفيعة ككاتب بارز إن لم يكن الأول في كتابة القصة القصيرة في العالم العربي، لكنه يعاني مما يعانيه الكثير من كتاب العالم الثالث، أعماله المترجمة للغات الأوروبية الأكثر شيوعا قليلة، ويبدي ديفز حماسه للطيب صالح، إلا أنه أيضا يعاني من قلة أعماله المترجمة والتي انحصرت في موسم الهجرة إلى الشمال، وعرس الزين وعدد قليل من القصص القصيرة، ومن وجهة نظر ديفيز أنها أعمال قليلة لا تؤهله للمنافسة، لكن هذا لم يمنعه من الاعتراف بأنه سيكون سعيداً، لو حصل الطيب صالح على الجائزة. إلا أنه بدا واضحا أن نجيب محفوظ هو الكاتب الأوفر حظاً في القائمة، ليس فقط لنوعية كتاباته بل للحجم المذهل من الروايات ومجموعات القصص القصيرة التي نشرها على حد قول ديفيز.
لكن ثمة أسئلة تطرح نفسها إن كان ما جاء في مذكرات ديفيز صحيحا، لقد تم هذا اللقاء في شهر سبتمبر 1988، أي قبل الإعلان عن منح نجيب محفوظ الجائزة بأسابيع قليلة، وكما نرى من خلال الحوار أنه لم يكن قد تم الاستقرار على اسم بعينه لتقديمه للجنة نوبل، فهل كانت تلك الفترة المحدودة جدا كافية لأن يقرأ أعضاء اللجنة أعمال محفوظ وغيره من الكتاب العرب المرشحين للجائزة للمفاضلة بينهم؟ ،أم أنه طالما الجائزة ستمنح للعرب، فلتذهب لأكثرهم شهرة وترجمة لأعماله، بغض النظر إن كانت الجودة والتميز تتوافران في هذه الأعمال أم لا، وكفى أعضاء اللجنة إرهاق القراءة!! أم أن أعضاء اللجنة اتخذوا قرارهم بمنح نوبل للعرب، ثم انخرطوا في قراءة أعمال المرشحين للجائزة ممن ينتمون للعربية، وبدأوا في اجراء اتصالاتهم بشخصيات قريبة من العالم العربي مثل السويدية زوجة السفير الفرنسي في تونس والبروفيسور عطية عامر لتوفير مزيد من المعلومات التي تعينهم على اتخاذ قرارهم النهائي! ربما ثمة أسرار تتعلق بخلفيات حصول محفوظ على نوبل، قد لا نعرفها إلا عام 2032،حيث يقضي نظام جوائز نوبل عدم نشر الوثائق الخاصة بالجوائز إلا بعد مرور نصف قرن على منحها.
على أية حال لا يوجد تعارض بين ما قاله ديفيز في مذكراته، وما ذكره عامر في صحيفة القاهرة، وكما أشرت، فربما اتخذت الأكاديمية السويدية قرارها بمنح الجائزة للعرب، وبدأت تطرق أبواب من هم على دراية بالعرب وآدابهم مثل زوجة السفير الفرنسي والبروفيسور عطية عامر، وآخرين لسؤالهم عمن يرونهم جديرين بالجائزة من الكتاب العرب.
العرق أولا !
من خلال ما ورد في مذكرات ديفيز يمكن تخمين عدة أسباب محورية لاختيار الفائزين بالجائزة:
أنه بدءا ـ ورغم أنف ألفريد نوبل ـ لا يتم اختيار اسم كاتب بعينه، بل عرق !! وكما نرى قالت زوجة السفير الفرنسي لديفيز: لجنة الجائزة تنظر في احتمال منح الجائزة لأحد الكتَّاب العرب، وبالتالي لا يمكن الارتكان إلى ما يقوله ستوري ألين سكرتير الأكاديمية الملكية السويدية في أحد حواراته الصحفية أن الجوائز تمنح فقط للجدارة الأدبية ودون انحياز لأي دول أو قارات أو ثقافات أو مجموعات لغوية"
بعد تحديد العرق يتم إعداد قائمة بالمرشحين الذين ينتمون إلى هذا العرق طبقا
لمعيارين رئيسين: غزارة الإنتاج، وكم ما يترجم منه للغات الأوروبية الشائعة كالانجليزية والفرنسية والألمانية والسويدية والأسبانية والبرتغالية والدنماركية، وهي اللغات "المعتمدة" داخل لجنة الاختيار والتي يقرأ بها أعضاؤها أعمال المرشحين، أما لو كان الأديب المرشح يكتب بشكل مباشر بأي من هذه اللغات، فيقينا هذا يزيد من أسهمه في الفوز بالجائزة، لا لشيء إلا لأنه قد يعد من وجهة نظر اللجنة أحد أبناء الثقافة الأوروبية، وهذا ما يبدو جليا عند قراءة تاريخ الجائزة، حيث ثمة حرص على أن تمنح إما لأوروبي أو متأورب، أو غربي بشكل عام.
فمن بين الـ106مرات التي منحت فيها الجائزة ،حصل عليها 94 كاتبا غربيا، أي بمعدل 90% تقريبا، هذا يعني أنه خارج المنظومة الغربية لم يحصل عليها سوى إثنى عشر كاتبا من آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية وبعض هؤلاء الجنوبيين يكتب إما بالانجليزية أو بـ"شقيقتها اللدود" الفرنسية ،! أو بأي من اللغات الأوروبية الشائعة، أي أنه ينتمي ولو لغويا للثقافة الغربية ! وتحديدا لا يزيد عدد من حصلوا عليها من خارج حظيرة تلك الثقافة على أربعة منهم نجيب محفوظ!
فقط الكتابات الأوروبية،! ومنذ عدة سنوات سأل احد الصحفيين المنسق الدائم للأكاديمية السويدية هوراس اينغدال: لماذا تذهب الجائزة في الغالب لكتاب أوروبيين ؟ وتلك كانت اجابة المسئول "الملكي": لأن أعضاء اللجنة التي تختار تنصب قراءتهم حول الكتابات الأوروبية!
أهذا هو العدل الذي شدد عليه ألفريد نوبل عند تأسيس الجائزة ؟ يقينا لا ، فما ذنب كتاب افريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية الذين لم تترجم أعمالهم ليحرموا من الجائزة ! أنهم لا يملكون عيونا زرقاء وبشرة بيضاء!! ،وأظنه ـ ستور ألين ـ حين يقول في حديث صحفي إن الأكاديمية تعمل حالياً على تحسين قدراتها اللغوية فهو يعني اللغات الأوروبية الشائعة عالميا وليس الصينية أو العربية أو اليابانية ، ذلك لأنه يستدرك قائلا في حديث صحفي: من المهم في هذا المنطلق أن يكون هناك ترشيحات من شتى مناطق العالم، وأن يكون لدى المرشحين مؤلفات ترجمت إلى السويدية، أو النرويجية، أو الدنماركية، أو الإنجليزية، أو الفرنسية، أو الألمانية، فماذا لو كان كاتبا مجيدا ينتمي إلى أمة توازي ربع سكان العالم كالأمة الصينية ولا يكتب إلا بلغة شعبه، ولم تترجم أعماله إلى أي لغة أخرى ، ألا يكفي أنه يكتب بلغة يقرأها مليار ونصف المليار من البشر لتنظر الأكاديمية الملكية في استكهولم لأعماله،؟ أم يحرم من نعيم ألفريد نوبل لا لشيء إلا لأن أعضاء اللجنة لا يقرأون الصينية وليس لديهم استعداد لأن يقرأوا بها !!!
ليس ذنب محفوظ
فهل هذا يعني وفي ظل المعايير العرقية والثقافية التي تهيمن إلى حد كبير على قرارات اللجنة ،! أن فرصة الكتاب العرب لاقتناص نوبل خلال السنوات القليلة المقبلة، قليلة ؟ .
عقب إعلان الأكاديمية الملكية السويدية في أكتوبر عام 1988 عن فوز نجيب محفوظ بالجائزة أتذكر ويتذكر معي الكثير ما قاله البعض بأسى: فوز محفوظ أضاع على آخرين من أبناء هذا الجيل فرصة الحصول عليها رغم استحقاقيتهم،!
والمقصود أن لجنة نوبل لن تعاود الالتفات للأدب العربي قبل مرور عدة عقود ،! ولأن الجديرين بها في عالمنا العربي على مشارف السبعين أو تجاوزوها ، فقد يطويهم الموت قبل أن تلحق بهم الجائزة ،! وبالفعل رحل الطيب صالح ويوسف إدريس ومحمود درويش وجبرا وغيرهم ممن يستحقونها دون أن تطرق بابهم !
وطبقا لهذا المنطق، فلو كان طه حسين أو توفيق الحكيم أو اي أديب عربي
آخر حصل على نوبل في ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي لتجاوزت الأكاديمية الملكية السويدية اسم نجيب محفوظ ، وما فكر أعضاء اللجنة في أي كاتب عربي ربما لنصف قرن! وهو استنتاج وجيه ، لكن من السخف أن نلقي باللوم على محفوظ ، الرجل لم يفكر أبدا في الجائزة ، ولم يتطلع إليها ، لكنه جدير بها، حتى لو كانت ثمة دوافع سياسية صاحبت تلك الجدارة ، وكونها طرقت بابه ولم تطرق باب أي عربي آخر حتى الآن، فليس ذنب محفوظ ، بل ذنب أعضاء الأكاديمية الملكية التي لا يراعي أعضاء لجانها شرط مؤسس الجائزة ألفريد نوبل بأن تكون الجدارة ، وليست اللغة أو السياسة أو القومية أو العرق الذي ينتمي إليه المرشح المحك الأول والأوحد لمنح الجائزة ، ولو التزمت الأكاديمية بهذا الشرط فالفرصة متاحة أمام ثلاثة مرشحين عرب ، كالعادة الشاعر أدونيس ، ثم الروائية آسيا جبار ، والروائي أمين معلوف، فإن لم تلتزم ، فعلى الأدباء العرب أن ينتظروا ، ربما بضعة عقود ، ذلك أن الجائزة طرقت العام الماضي باب الأديب الصيني مويان ، ولكي تتذكر الأكاديمية الملكية السويدية مجددا أن ثمة أدباء كبارا في الجنوب أمامها ربع قرن ، هذا إن كانت تتمتع بذاكرة قوية ، فإن تذكرت فربما تمنح جائزتها لأي من أدباء إفريقيا أو آسيا أو أميركا الجنوبية ،ليعاود العرب الانتظار ربع قرن آخر !



كتاب فرنسي يطرح سؤال "من هم الشباب العربي"؟



رفيف رضا صيداوي
تتفحّص المقالة التالية مفهوم "الشباب العربي"، من خلال كتاب فرنسي صدر مؤخراً وحمل العنوان نفسه (Jeunesses arabes) ، وهو ثمرة أبحاث سوسيولوجية ميدانية قام بها فريق من الباحثين عبر معايشة عيّنات من الشباب العرب في مختلف بلدان المشرق والمغرب والخليج، وذلك من خلال تبيان اهتمامات هؤلاء الشباب، ما يجعلنا نعيد النظر في معظم ما قيل عن الشباب العربي في العقدين الأخيرين حول خضوع الشباب العربي لنمط الاستهلاك المعولم، أو لأنماط حياتية باتت تهدّد هويّتهم
ماذا عن الشباب العربي؟
إن كتاب "الشباب العربي" (Jeunesses arabes) الصادر حديثاً لمجموعة باحثين، تحت إشراف Laurent Bonnefoy et Myriom Catusse، عن دار لا ديكوفيرت La découverte الفرنسية، أعادنا إلى مقولة قديمة لعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، وهي "أن كلمة الشباب وحدها لا تعني شيئاً محدداً"، فهم ليسوا مجرد شريحة اجتماعيّة يحكمها العمر فقط، لا بل يتمايز أفرادها في العديد من الخصائص، كالجنس والعمل والانتماء الاجتماعي وشروط الحياة المتفاوتة بين الريف والمدينة والتحصيل التعليمي والمهارات المكتسبة، وغير ذلك من خصائص.
تناول الكتاب عيّنة من الشباب العربي من الجنسين، من 18 بلداً عربياً (بلدان الخليج والمشرق العربيين وشمال أفريقيا)، محاولاً رصد هواياتهم أو سبل التسلية لديهم، وكيف يمضون أوقات فراغهم، بغية الخلوص إلى رسم صورة حول "ما يقوله شباب العام 2013 العربي للعالم".
لعلّ أهمية الكتاب تكمن في أنه لم ينطلق من الأحكام الجاهزة، والأفكار المسبقة والنمطية حول الشباب، وفي أنه أيضاً تجاوز مقولة شائعة في الشرق والغرب، مفادها "أن الأجيال العربيّة الجديدة، هي صنو خزان لا ينضب من المجرمين بالقوّة". كما أنه لم ينطلق من الماكروي (العام)، بل من الميكروي (الخاص)، وتحديداً من القنوات الحياتية الخاصة بهم (ممارسات، طقوس، عادات، في إطار اجتماعي متنوّع: مناطقي، ديني، طبقي)؛ وهي قنوات تسمح باستشعار أحوال الماكروي، ولاسيما عبر تتبّع مسارات التسلية لدى هؤلاء الشباب.
لم يخرج الكتاب بالتالي، بتعميمات حول الشباب، تسهم في إعادة نمْذجتهم. كما أنه لم يسهم في تقديم معطى ثري من الأحكام الجاهزة في صددهم. ولئن بدا أن السياسي غائب عن أجواء الكتاب، فإن تلمّس بعض التوجهات السياسية لدى الشباب مثلاً، (تيارات اليمين، واليسار، والإسلام السياسي) أفضت إلى التعريف بالتحوّلات السياسية، وبما ينبئ بوجود اختلافٍ للسياسي عن معناه أو تجلّياته المألوفة، التي سادت في ستينيات وسبعينيات القرن الفائت، ومن أبرزها غياب "الأسطورة المؤسّسة"، التي آمنت بها أجيال ذلك الزمن. فتمّ تمثّل نوع التسلية المستحدثة، شأن الراب في الوطن العربي، وخصوصاً في فلسطين والمغرب العربي، كإحدى القنوات السياسية، التي يَعبُر من خلالها الشباب من المجتمعي إلى السياسي، من خلال التعبير عن مشكلاتهم وهمومهم وشجونهم. كما لحظ أيضاً، تواصل الشباب مع الماضي، وليس انقطاعهم عنه، سواء في ما يخصّ "الصراعات الموروثة" أم "الهويات المجروحة" أم "الجنان المفقودة"، ودائماً من خلال تتبّع مسألة تزجية أوقات الفراغ. بمعنى آخر، تمّت قراءة تجليات هذا التواصل مع الماضي عبر بصماته القائمة في أوقات الفراغ هذه: من الأغاني الدينية القبطية في مصر، والحنين السياسي، الذي أبداه بعض مناضلي اليسار في لبنان، باستعادتهم تحزّب الستينيات والسبعينيات، مروراً بتميّز مؤسّسات "الرقص التقليدي" في فلسطينإلخ، بدا أن هناك تأثراً كبيراً لدى عدد من الشباب العرب بالأجيال السابقة. ممارساتهم في التسلية، عكست الأساليب والأنساق التي تمّت من خلالها إعادة إنتاج الممارسات العائلية، واستبطان المعايير أو القواعد الاجتماعية التي انتقلت إليهم، حتى ولو أنه أعيد الاشتغال عليها بتكنولوجيات متقدمة أو في سياقات مغايرة، وذلك بما يحول دون النظر إلى الثورات العربية، بوصفها "تحديات بكر، من دون ماضٍ أو مقدمات". وكأننا بأنماط التسلية الحديثة للشباب، وبحسب ما يستنتج الكتاب، أمام ظاهرة لاحقة تعيد تجديد التراث باستمرار.
ولئن التفت الكتاب أيضاً، إلى الشباب الذين شكّلت لديهم التسلية الإيجابية (مثل الأنشطة الفنيّة والمرحة، أو العمل في الجمعيات الثقافية الفنية، مثل فرقة "باب الواد إس أو إس" SOS Bab El Oued في الجزائر) منفذاً للخروج من ضغوط العائلة أو الجماعة، توقاً للتميّز والتفرّد الإيجابيّين، إلا أنه بيّن في المقابل، كيف أودت نشاطات التسلية الآثمة ببعضهم الآخر إلى التحرّر وتدمير الذات في آن.
صورة خالية من الادعاءات
لا يدّعي الكتاب- أي "الشباب العربي"- أن الشباب العربي هم في أوضاع يحسدون عليها، بل جلّ ما قام به هو نقل صورة واقعية عن أحوالهم، بجمالها وقبحها، أي بتبايناتها كافة، بعيداً من محاولات التجميل المؤدية إلى التفاؤل المفرط من جهة، والصورة السوداوية التي من شأنها أن تؤدي إلى تشاؤم مبالغ فيه من جهة ثانية. إلا أنه ومن بين التأملات الكثيرة التي يثيرها الكتاب، وعلى مستويات مختلفة، صعوبة القبض على مفهوم جامع للشباب سوسيولوجياً، خصوصاً مع تفاوت ممارساتهم الثقافية والترفيهية؛ وبالتالي، صعوبة تأطير الشباب العربي من ضمن نماذج تجوهرهم، وتجعل من بعض الصفات الاجتماعية سمة أو صفة ثابتة فيهم، سواء أكانت صفات إيجابية (الشباب الثوري، الشباب المبدع..) أم غير إيجابية (الشباب المحبط، الشباب الاستهلاكي...).
لعلّ هذه المسألة باتت أكثر تعقيداً في الوقت الراهن مع الاستقلالية النسبيّة للممارسات الثقافية والأذواق عن الطبقات الاجتماعية في مجتمعات ما بعد الحداثة، بحسب ما أكّد بيار بورديو، خصوصاً مع العوالم الافتراضية التي باتت توازي عوالم البشر الحقيقية، مختزلةً الفروقات الطبقية إلى حدّ ما، ومع "الانفصال التدريجي لثقافة الأحداث عن القنوات الكلاسيكية لنقل الثقافة: المدرسة، العائلة" (Matthieu Béra et Yvon Lamy, Sociologie de la culture). غير أن ذلك كلّه لا يعني أنه لم تعد للفروقات الطبقية أو للأسرة أو المدرسة أدوارها في تشكيل نمط الممارسات الثقافية والترفيهية لدى الشباب. بل يمكن القول إن فرضية
عالم الاجتماع الفرنسي Laurent Fleury، في كتابه (Sociologie de la culture et des pratiques culturelles)، ومفادها "إنه في مجال الثقافة، ليس ثمة علاقات بسيطة وأحادية بين أوضاع الطفولة من جهة، والسلوك في مرحلة الرشد من جهة ثانية"، هي الأقرب إلى واقع الشباب.
إذاً، وكإجابة عن سؤال مَن هم شباب الوطن العربي اليوم؟ نقول إنهم كتلة بشرية تتجانس أوضاعها وظروفها حيناً، وتتقاطع أو تتباعد أحياناً، لكن خلاياها المكوّنة، وهي كتل حيّة وشابة بالطبع، تتشعّب إلى جملة خصائص وثقافات، غالباً ما تتفرّع بدورها، بحيث لا يمكن التغاضي عن الفروقات في الخصائص والإمكانات الفردية والموروثات الاجتماعية والثقافية.

السبت، 23 نوفمبر 2013

فيليب كوركوف: هل البناء الاجتماعي اليوم محرر حقاً؟




قصي الحسين
لعل ملامح النقاشات الجديدة التي شهدتها علوم الاجتماع الفرنسية بدءاً من ثمانينات القرن العشرين، سواء من خلال الإشكالات الأصيلة أو من خلال استخدامات الكتّاب الأجانب الأكثر قدماً أحياناً كثيرة، قد أسهمت حقاً بتناول علم الاجتماع كعلم نظري/ تجريبي، أي كمنتج معارف عن الواقع القابل للمراقبة، والمغربل بتصورات، والمزود بأدوات منهجية للتقصي. وخير دليل على ذلك ما تحيلنا إليه دراسة فيليب كوركوف والتي نجحت في ميادين عدة من التعليم الجامعي لعلم الاجتماع وخصوصاً تعليم العلوم الاجتماعية. ولهذا ربما، تمت ترجمتها إلى لغات عدة على التوالي: البرتغالية 1997 والإسبانية 1998 والصينية 2001 والبرتغالية البرازيلية 2001 والروسية 2002 والرومانية 2005، وفي الفترة الأخيرة الفارسية وأيضاً العربية. فحملت تساؤلاتها إلى ما وراء الحدود الناطقة بالفرنسية لتبلغ عالماً معولماً أكثر فأكثر.
والسؤال الذي يُطرح، أنه حين يشكل علم الاجتماع الفرنسيّ، وحاله حال أي واقع إنساني، صيغة اجتماعية متغيرة، فماذا إذاً عن علوم الاجتماع الجديدة منذ 1995، خصوصاً أن النماذج النظرية لا تولد أو تموت بهذه الكثرة ولا بهذه السرعة. فقد بقيت لذلك التيارات الأساسية والكتاب الأساسيون، وظلوا يمدون النقاشات والدراسات والأبحاث، سواء تعلق الأمر بالمرجعيات والمراجعات القديمة مثل ألفرد شوتز ونوربير الياس، أو بالباحثين والبحوث الأركان مثل بيتر بيرغر وتوماس لوكمان وبيير بورديو وهارولد غارفينكيل وآرون سيكوريل وأنطوني غيدينس، أو بالأحدث منهم أمثال ميشيل كالون وبروفو لاتور أو لوك بولتانسكي ولوران تيفنو، ولو أنهم عرفوا كما نجد، بعض الانعطافات والتطورات الجديدة، وربما القراءات المحددة، كإطار جديد يجمع بين الموقف النقدي والمصلحة المنفعية كما هو الحال مع "بولتانسكي".
بظهور تيارات جديدة وكتاب جدد، كان لا بد أن ينعكس ذلك في حقل الأعمال التي هي قيد التطوير حول المفاهيم المتقاربة للفرادة الفردية والفردانية، كما بدا لنا في الفصل الرابع (ص 84) والذي جاء تحت عنوان: "أفراد مفردون ومفردنون وجمعيون". وكذلك الأمر في ثلاثة قطاعات أخرى، نشطت في الآونة الأخيرة وكثر الحديث عنها، من دون أن يستأني الباحثون الاجتماعيون فيها مثل تحليل الشبكات الاجتماعية (ص 23) وإشكاليات البناء الاجتماعي في الاقتصاد (ص 51) والذي يغذي - باتساع عظيم علم الاجتماع الاقتصادي والأعمال النسوية خصوصاً على مستوى حيازة الدراسات الجنسانية Gender Studies الإنجليزية الأميركية (ص 71).
وما دام الحديث يتصل عن جديد هذه الدراسة عن سابقاتها، فقد لامست مكانة المرجع البنائي أيضاً شيئاً من التغيير. ومن الممكن وصف مفهوم "البناء الاجتماعي للواقع" بأنه صياغة قياسية للتطور، بحسب توصيف علم المعرفة الاجتماعي لجان كلود باسرون. إذ بالنسبة لهذا الأخير فإن العلوم الاجتماعية لكونها علوماً للمقارنة التاريخية، فإنها تمتد في فضاء "علمعرفي" مصنوع من التوترات بين الأهداف التنظيمية لأبنيته النظرية، وبين فرادة السياقات التاريخية التي التقطت منها مثل هذه الملاحظات الهامة والدقيقة.
وفي هذا الإطار ربما، يمكن أن تقع التصورات في العلوم الاجتماعية. وربما تكون أيضاً قياسية من حيث انها تشير إلى تشابهات من دون أن تقصي الاختلافات بين سياقات تاريخية مختلفة، وإن تكن غير متطابقة تماماً. ومن هنا يمكن الحديث مثلاً بشكل قياسي عن "طبقة عاملة" في إنكلترا القرن التاسع عشر، وفي فرنسا اليوم، تماماً كما يمكن التوسع قياسياً في مفهوم "رأس المال" عند ماركس، حين التحدث عن "رأس مال ثقافي" كما فعل مثلاً "بورديو".
وحسب "هاكينغ وباسرون"، كما يرى المؤلف: أن مفهوم "البناء الاجتماعي للواقع" مثله مثل كل صياغة قياسية للتصور، قد سمح بميادين جديدة للاستقصاء في العلوم الاجتماعية، ولو أنه ترك ميادين أخرى في الظل. وعبر فيلسوف العلوم الأميركي "يان هاكينغ" Ian Hacking عن ازدواجية المفهوم، كما يقول "كوركوف" بينما ازداد انتشاره أكثر فأكثر في ما وراء الأطلسي. وهو يستشهد بـ"هاكينغ" حين يقول: " كانت فكرة البناء الاجتماعي في سياقات عديدة فكرة محررة بحق"... وتذكرنا هذه الفكرة خصوصاً بأن الأمومة ومعانيها ثابتة بشكل قطعي ولا مفر منها، بل ترتبط بالإنجاب والتربية. وهي تنتج عن حوادث تاريخية وقوى اجتماعية وإيديولوجيا".. ويمكن لنجاح بلاغة البناء الاجتماعي أن يفعل أيضاً فعل الخلايا السرطانية بتكاثره من دون السيطرة عليه".
وبرأي الباحث أن التقابل بين الجماعي والفردي في جميع النقاشات داخل العلوم الاجتماعية لا يجعل من البنائية علاجاً لهذه المشكلة. إذ إن قطبية الشمولية والفردانية سرعان ما تظهر ماثلة في "العلاقة المنهجية" كبرنامج ثالث، من دون أن تنضوي تحت البنائية الاجتماعية. وكانت الإشكالية البنائية قد ظهرت في الدراسات السابقة على أنها تجاوز للتناقضات الموروثة من الفلسفة، ومن ضمنها تلك التي تقابل بين الجماعي والفردي. وهذا الموقف يضرب في جذوره كافتراض فكري مسبق، وكموروث بشكل غير واعٍ من قراءات "هيغل" Hegel (1770- 1831) حول الثالوث: نظرية نظرية مضادة توليفة. ولهذا يتم التساؤل أين أصبحت وإلى أين تتجه علوم الاجتماع الفرنسية في بداية القرن الواحد والعشرين؟
على ذلك يرد "فيليب كوركوف" بقوله: "إن قلب علم الاجتماع الفرنسيّ يقع أكثر من الماضي جيئة وذهاباً بين النظرية والتجريب. بين التصورات والاستطلاع، تماماً كما يقع في المواجهات مع الميادين التجريبية والمناهج المضبوطة. ولذلك عزم الباحث على سبر الإرث الفلسفي في البرنامج العلاقي واللغة البنائية كمدخل أولي لدراسة البنى الاجتماعية وتفاعلاتها ومن ثم الانتقال لدراسة هذه التفاعلات في البنى الاجتماعية. كما أولى اهتماماً خاصاً بدراسة بناء الجماعات والتصنيف الاجتماعي، مخصصاً بحثاً مستقلاً للحديث عن الأفراد كظاهرة "أفراد مفردون ومفردنون وجمعيون"، لينتهي للحديث عن علم الاجتماع المنفعي للوك بولتانسكي ولوران تيفنو اللذين استخلصا صيغة منفعية تتمحور حول "الفعل المتموقع" و"علم اجتماع أنظمة الفعل" أو علم اجتماع أنظمة الالتزام. ويقول إن هذا العلم إنما يهتم بأجسام مزودة بمهارات. وهي تواجه الأشياء في صميم مجريات الفعل. ذلك أنها لا تتناول العلاقات الاجتماعية حصرياً من زاوية الروابط بين الأشخاص وحسب وإنما ضمن التأقلم مع الأشياء أيضاً. وقد ذيل ترجمة هذا البحث الأكاديمي الجاد بثبتين: ثبت المصطلحات وثبت الأعلام، بالإضافة إلى ثبت المراجع والذي هو7 في غاية الدقة والأهمية.
 فيليب كوركوف: عدم الاجتماع الجديدة بين الجماعي والفردي. 
ترجمة أحمد حاجي صفر مراجعة د. بسام بركة.
دار الكتاب العربي. بيروت 2013 (140 ص تقريباً

جون كينيدي ومشكلة النساء / ناعومي وولف



إن الذكرى الخمسين لاغتيال الرئيس الأمريكي جون ف. كينيدي توفر الفرصة للنظر في تحولات الوعي التي شهدتها الولايات المتحدة في نصف قرن منذ وفاته. وبشكل خاص، ورغم أن كينيدي دخل معبد الأبطال الأمريكيين، فإن البيانات الأخيرة تُظهِر أن النساء بوجه خاص كنّ قد بدأن يفقدن إعجابهن به كزعيم. ولكن لماذا؟

في بعض النواحي، كان إرث كينيدي فيما يتصل بالنساء لا يقل تقدمية عن إرثه فيما يتعلق بالعرق والفقر. وكان من بين التحركات الأصيلة الحالمة مطالبة إليانور روزفلت، وكانت من نصيرات الحركة النسائية لفترة طويلة، بتولي رئاسة اللجنة الرئاسية الأولى المعنية بأحوال النساء. والواقع أن هذه اللجنة، التي تضمنت زعماء سياسيين من الرجال والنساء، كانت بمثابة جهد حقيقي وليس تجميلياً لتقييم التحيز في مكان العمل، والحماية القانونية التي يجب أن تتوفر للنساء، وماذا يمكن القيام به لإنهاء التمييز بين الجنسين ــ وهو المفهوم الذي لم تنشأ له بعد مفردات تناسبه.

والواقع أنه عندما شكل كينيدي هذه اللجنة، كان من الممكن آنذاك استبعاد النساء من هيئات المحلفين، هذا فضلاً عن حرمانهن من وسائل منع الحمل عن طريق الفم والإجهاض، ولم يكن بوسع النساء حتى الحصول على الائتمان بأسمائهن. وفي نفس العام الذي شهد مقتل كينيدي، نشرت بيتي فرايدان كتاب "الغموض المؤنث"، والذي أشعل عاصفة من الجدال حول "المشكلة التي لا اسم لها" استياء النساء إزاء أدوارهن المحدودة. وكان تقرير اللجنة النسائية الأولى المعنية بأحوال النساء، والذي صدر قبل شهر واحد من اغتيال كينيدي، ليصبح علامة فاصلة ونقطة تحول كبرى لولا مقتله.

ولكن رغم موقفه التقدمي، فإن إعادة تقييم النساء الأمريكيّات لمرحلة الستينيات في العموم لم تترك سمعة كينيدي سالمة. فبعد أن كان ذات يوم رمزاً للبطولة وسحر الشخصية والسعي إلى التغلب على مظالم طال أمدها، تضررت سمعة كينيدي بشدة بفعل روايات وشهادات عن العشرات من النساء اللاتي تناوبن على غرف النوم في البيت الأبيض (أو غرف الفنادق عندما كان الرئيس يسافر).

والواقع أن المذكرات المدونة بأيدي بعض هؤلاء النساء -بما في ذلك ميمي الفورد، وكانت متدربة تبلغ من العمر تسعة عشر عاماً في المكتب الصحفي بالبيت الأبيض عندما بدأت علاقة دامت عاماً ونصف العام مع الرئيس- كانت سبباً في تضاؤل الهالة التي أحاطت بكينيدي، إن لم تكن قد أظلمتها تمامًا. وكذلك فعلت التقارير التي تناولت علاقته بمارلين مونرو ومارلين ديتريتش. وهناك نساء آخريات، مثل عشيقته جوديث كامبل، والتي يُقال إنها كانت تقيم علاقات جنسية مع شخصيات من المافيا أيضًا.

منذ ذلك الوقت تآكل شعور الاستحقاق الذي دعم مثل هذا الاستهتار الذكوري، وهي العملية التي تكشفت فصولها على شاشات التلفاز، مثلها في ذلك كمثل الكثير في الثقافة الأمريكية. فالمسلسلات الشعبية، مثل مسلسل "الزوجة الطيبة"، تُظهِر آلام ومعاناة زوجات الساسة اللاتي ينتظر منهن أن يلتزمن الصمت وينتحلن سلوكاً مهذباً في مواجهة معايير سلوكية مزدوجة. وعلى نحو مماثل، يتناول مسلسل "رجل مجنون" خواء ودمار الامتياز الجنسي الذكوري المتفوق في أوائل الستينيات، من خلال عرضه لمجموعة من المديرين التنفيذيين في مجال الإعلان والذين يستهلكون النساء كما يتناولون المقبلات في وقت الغداء.

وقد حدثت عملية إعادة تقييم الامتياز الجنسي الذكوري وانعدام المسؤولية في ستينيات القرن العشرين في مجالات أخرى أيضا، الأمر الذي عزز من تحول صورة كينيدي من الشاب اللعوب الساحر إلى مفترس قهري خطير. ومؤخراً ظهرت في الولايات المتحدة السيرة الذاتية للكاتب نورمان مايلر -الذي اشتهر بمقولته عندماً بدأت الحركات النسائية بأن كل النساء لابد أن يحبسن في أقفاص-، والواقع أن تاريخ مايلر في ملاحقة النساء (وهو أيضاً تزوج ست مرات) يستحق إعادة التقييم بشكل نقدي جاد.

ولعل من الأمور الكاشفة إلى حد كبير أنه مع تضاؤل هالة كينيدي بين النساء كانت سمعة زوجته تتنامى. والواقع أن الأعوام العشرة الأخيرة شهدت ظهور جاكلين كينيدي الجليل الموضوعي كمحررة كتب بارعة -ورمز للمرأة العاملة الحديثة والمهتمة بالحركة النسائية- فحلت هذه الصورة محل صورتها كمضيفة أشبه بالدمية تظهرها كاميرات التلفاز في البيت الأبيض، أو الأرملة المصدومة الحزينة على زوجها وهي ترتدي النقاب الأسود. وقد أضافت المحادثات المسجلة في مارس من عام 1964 مع المؤرخ آرثر شليزنجر، والمصممة بشكل متعمد لتطلع عليها الأجيال القادمة والتي نشرت عام 2011، إلى شهرتها بعد وفاتها.

إن نجم جاكلين كينيدي الصاعد ونجم جون كينيدي الآفل على نحو متزايد -على الأقل عندما يتعلق الأمر بحياته الخاصة والاستخدامات التي كرس لها جاذبيته الشخصية- يعكسان التطور الاجتماعي في أمريكا ذاتها. فالتحول في فهم الأمريكيين للرموز مثل آل كينيدي يسلط الضوء على التغيير -والذي أعتبره نحو الأفضل- الذي طرأ على احتياجات الأمريكيين وقيمهم ورغباتهم فيما يتصل بالنساء والعلاقة بين الجنسين. إن تأسيس كينيدي للجنة النسائية الأولى المعنية بأحوال النساء يوحي بأنه رأى ما هو آت، حتى رغم أنه ظل إلى حد كبير رجلاً متماشياً مع زمنه.