الاثنين، 27 يناير 2014

خارطة الشرف وخارطة الخيانة في الأنبار عاصمة المقاومة / د. مثنى عبدالله



ليس بين مفهومي الشرف والخيانة الا موقف يسوّد صفحات ويبيّض أخرى. أما أصحاب الصحائف البيض فهم أولائك الذين عزمهم هو المؤهل الوحيد الذي يجعل العزائم لا تستقر الا في رحلهم، فيجعلون منها ملاحم بطولة وفداء في سبيل المجموع. أما أصحاب الصحائف السود فهم أولائك الذين تعظم في عيونهم الصغائر فينهزمون أمامها ملقين بأنفسهم في أحضان أعداء أهلهم وقتلة أبنائهم، أملا في شراء يوم أو بضعة ايام من العمر للعيش في كنف الذل والمهانة. ولقد كان غزو واحتلال العراق في عام 2003 سببا في نهوض الكثير من القيم وارتفاعها في سماء الوطن، حتى باتت كحزمة ضوء ساطع شعت على أرض الرافدين، كأنها قدر كي يميز بين هذين الصنفين من البشر. فعرف العراقيون من هم أهل البطولة والعزم والمقاومة التي لا تلين، الذين أنار دروبهم ضياء القيم، كما عرفوا أولائك الذين أعماهم الباطل فبرزوا يقاومون الحق تحت مسميات ‘صحوات القوات الامريكية وشركاء العملية السياسية’. 
وقد انخرط تحت هذه العناوين آخرون عُرفوا بأنهم زعماء قبائل وشيوخ عشائر، ففتحوا مضايفهم للمجرم بوش ولقادة الجيش الامريكي المحتل، كما استضاف بعض رجال الدين وخطباء المنابر الحاكم الامريكي بول بريمر والكادر الدبلوماسي في السفارة الامريكية في دورهم ومدوا لهم موائد الطعام. وقد كان نصيب محافظة الانبار من هذا الفرز بين رجال الحق وأصحاب الباطل كما كبيرا. ولان الخيانة عمرها قصير ورموزها لا يمكن الوثوق بهم حتى من قبل أسيادهم الذين استخدموهم، ولانهم كعود الثقاب لا يستعمل الا مرة واحدة، فسرعان ما تم التخلي عنهم وباتوا مطرودين من قبل السلطة الحاكمة في بغداد، بعد أن صدرت بحق الكثير منهم أوامر القاء قبض وقطعت عنهم الاموال التي أجراها لهم المحتل، وباتوا وجوها معروفة في شوارع عمان يلوذون في أماكن معلومة يعرفها العراقيون في الاردن. وعندما فاض كأس غضب الشرفاء في الانبار وتفجرت الانتفاضة الشعبية فيها، وارتفعت في سمائها خيم الاعتصامات المطالبة بالحقوق، عاد البعض من هؤلاء وخرج آخرون منهم من جحورهم كي يلبسوا رداء الانتفاضة ويعتلوا منصات الحق، مدعين بأنهم ضد السلطات الحاكمة ومع المطالبات بالحقوق، بل كانوا أكثر تطرفا من غيرهم في التصريحات عبر الفضائيات والصحف والمواقع الالكترونية المعارضة، حتى تخالهم من أقطاب المقاومة الوطنية، لكن رفع الخيم والحرب التي أشعل المالكي أوارها في الانبار، وسقوطه المهين في وحل الهزيمة نتيجة التصدي البطولي من قبل أهلها الشرفاء لثعابينه التي أطلقها عليهم، جعلته يولي وجهه صوب حلفائه الامريكان طالبا النصيحة، فنصحوه بإعادة حلقة الوصل (الدولارت) التي كان قد قطعها عن صحوات الانبار والاخرين المحسوبين على الامريكان، فعادوا مرة أخرى يرتدون الدروع الواقية ويرافقون قادة الجيش والاجهزة الامنية، يمارسون دور الدلالة لصالح المالكي على أهلهم وأبناء عشائرهم بتهمة الانتساب لـ’داعش’ و’القاعدة’، ويصححون إحداثيات القصف المدفعي لقوات الجيش على الفلوجة والخالدية والبو بالي والكرمة وغيرها من أقضية ونواحي المحافظة وشوارعها وأحيائها. كما بات بعض شيوخ العشائر يمارسون دور المراسلين لرئيس الوزراء ولوزير دفاعه، الذي يأمرهم بالتحرك لممارسة الترغيب والترهيب على هذا الزعيم القبلي او غيره كي يشتروا ولاءهم له. أما المحافظ فقد ارتكب خطيئتين كبيرتين بحق أهل الانبار، الاولى عندما استغله وزير الدفاع كي يحضر الى مجلس الوزراء ويدعي أمام المالكي بأنه الوحيد الذي يعلم بوجود أكثر من 36 قائدا من قادة ‘القاعدة’ في ساحات الاعتصام، ثم انكر علمه بما أدعى في لقاء تلفزيوني على احدى الفضائيات نائيا بنفسه عن ذلك، مدعيا بأن لا علم له بذلك، لان هذا واجب الاجهزة الامنية وليس عمله، والثانية عندما طالب المالكي بدخول الجيش للمدينة بحجة سقوطها بيد ‘القاعدة’ و’داعش’. 
ان تعدد قوى الخيانة والتنافس القائم بين رموزها في الذهاب الى أبعد حدود الدعم للمالكي، أملا في الحصول على الامتيازات المستقبلية التي تدرها مساهمتهم في الحرب الدائرة ضد أهلنا في الانبار، سيطيل عمر الصراع الدائر فيها ويزيد من معاناة الابرياء ويساهم في زيادة أعداد المهجرين، ويعطل مصالح الناس ويضيق عليهم عيشهم. فالسباق بات محموما بين زعيم قوات الصحوة الامريكية وزعيم مجلس إنقاذ الانبار ورئيس صحوة المالكي وبعض الزعماء العشائريين، كل يريد تقديم أفضل الخدمات للحصول على افضل الامتيازات، على حساب مصير ومستقبل المواطنين، وباتوا يلصقون تهمة الانتساب لـ’داعش’ و’القاعدة’ بكل صوت شريف يعارض المالكي وسياساته. كما أن بدعة الاستقالة مع وقف التنفيذ التي تقدم بها بعض نواب القائمة العراقية ومتحدون، هي الاخرى تدعم موقف السلطة الباغية، وتعطيها مؤشرا خاطئا على عدم وجود قرار شجاع لدى الاطراف الاخرى في مواجهة الباطل حتى لو كان بدرجة أضعف الايمان، وقد تكرر هذا المشهد البائس مرات عدة ثم عادوا أدراجهم الى البرلمان ومجلس الوزراء. ان رهان أهل الانبار بات اليوم محصورا بشيوخها الذين عززوا أقوالهم بأفعالهم الشريفة ومواقفهم البطولية، والذين عكسوا وحدة العراق ومجتمعه عندما فتحوا مضايفهم الى كل من القى سلاحه من قوات الجيش، وباتوا يرعون مصالح الناس ويسهرون على ممتلكاتهم بعد أن هجرّهم القصف المدفعي على المدينة، كما ان الرهان معقود أيضا على مجلس ثوار الانبار وفصائل المقاومة وكل الاصوات الشريفة التي رفضت ظلم وطغيان السلطة، وكذلك رجال الدين الذين لم يواربوا ولم يهابوا ووقفوا وقفة عز في وجه سلطان جائر. لكن من حق أهل الانبار أن يسألوا أين أفعال ساحات الاعتصامات الاخرى في بقية المحافظات؟ ولماذا لم يرتفع فعلهم الى مستوى البطولة التي تجري في غرب العراق؟ بل أين التضامن الذي يفترض ألا يبقى محصورا بالاقوال والخطب، بينما دماء أهلهم تسيل في الانبار؟ انه موقف بات جميع الشرفاء مسؤولين مسؤولية تاريخية عن ضرورة تسجيل أسمائهم في سفره، لانه الوحيد الذي يقرر مصير ومستقبل العراق ويفتح نافذة انقاذه من الهوة السحقيقة التي هو فيها منذ أكثر من عشر سنوات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق