الاثنين، 20 يناير 2014

محكمة الحريري وثقافة الاغتيال / جهاد فاضل


لم يعد أحد يجادل في مَن قتل رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري سوى القتلة ومن هم وراءهم. ذلك أن "القاتل" كان معروفاً منذ اللحظة الأولى لحادثة الاغتيال، ولكنه كان ينكر بالطبع ولم تكن الأدلة والبينّات متوافرة كما توافرت فيما بعد. و"القاتل" الذي لا يشكّ أحد في أنه هو الذي ارتكب الجريمة، هو بلا جدال النظام السوري والنظام الإيراني معاً.

النظامان معاً هما اللذان قرّرا اغتيال الزعيم اللبناني السُنّي البارز في لبنان والمنطقة والعالم تدفعهما دوافع مذهبيّة ومصالح سياسيّة. لقد وجدا في الحريري عقبة كأداء في إحكام سيطرتهما على لبنان نظراً لنفوذه البالغ فيه وفي الخارج أيضاً. كان في تقديرهما أن إزاحته شرط ضروري لهذه السيطرة لأنه رمز "للبنان" التاريخي السُنّي/ المسيحي، ورمز لمقاومة لبنان هذا لتغيير شخصيّته هذه . وقد جاء اغتياله في ذروة الفجور الذي كان يُمارسه هذان النظامان على الساحة اللبنانية، وفي ذروة صعود المشروع الإيراني في المنطقة. ومن الضروري الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ الحريري في الأشهر التي سبقت وفاته أجرى سرّاً محادثات مع قادة حزب الله كان هدف الحريري منها ثني حزب الله عن الطريق التي يسير فيها وإعادته إلى الأفق اللبناني المحض بحيث يعمل الفريقان معاً من أجل المصلحة اللبنانية وحدها. حزب الله لم يكن في واقع أمره في وارد مثل هكذا مشروع، ولكنه أراد أن يستمع إلى ما يقوله الحريري لينقله بالصوت والصورة إلى مرجعيّته الإيرانيّة والسوريّة. وقد شكلت هذه اللقاءات السرّية بين الحريري وحزب الله الأسباب المُوجبة لقتله بحسب رأي بعض المحلّلين. فالرجل الذي كان قبل شهور من مقتله متردداً علناً في اتخاذ موقف شديد الوضوح من الوجود السوري في لبنان، كشف كل أوراقه أمام حزب الله، وحفر بالتالي قبره بيديه. فالسوريون لم يكن بإمكانهم أن يتساهلوا إزاء زعيم لبناني بارز وقوي يريد إخراجهم من لبنان والعمل في إطار مشروع لبناني محض. والإيرانيون كانوا مقتنعين بأن «أيرنة» أو «أرينة» لبنان مستحيلة ما دام الحرير موجودًا في الساحة السياسيّة ومصرٌّ على قناعاته اللبنانية. وكان من أسباب قوة الحريري (وهي عديدة) أنه كان يُذكّر اللبنانيين بالزعيم اللبناني التاريخي رياض الصلح، بطل الاستقلال اللبناني عام ١٩٤٣ من حيث إجماع اللبنانيين عليه. كان الحريري مثل رياض الصلح زعيماً مقبولاً من المسلمين والمسيحيين معاً ورجلاً مستقيماً وصاحب ضمير ورجلًا وطنيّاً قبل كل شيء. ولما كان مثل هذا الزعيم عقبة بوجه المشروع الإيراني خاصّة (والواقع أنه من غير الممكن فصل هذا المشروع عن المشروع السوري وهما في حقيقة الأمر نوع من توأم سيامي) فقد قرّر النظامان معاً تصفيته.

لقد قتلاه معاً. أمّا كيف تمّت عملية التصفية فهذه تدخل في باب التفاصيل التي قد تُكشف كاملة أو لا تُكشف في المدى القريب. ولكن الأكيد أن السوريين أوكلوا عملية التنفيذ لسواهم، وبخاصّة لحزب الله وعلى الأخصّ لعماد مغنية القائد العسكري للحزب الذي قُتل فيما بعد ولا يعلم أحد من قتله: النظام السوري أو الإسرائيليّون. فإذا كان السوريون هم وراء قتله، فلا شكّ أنّ تصفيته تمّت في إطار محو أيّ أثر لهم في اغتيال الحريري. لقد خافوا عندما قتلوه من شبح محكمة دوليّة تُحاكم يومًا قتلة الحريري ويكون مغنية وراء قضبان المحكمة ويبوح بأسراره فأجهزوا عليه.

ولكن إذا كان سؤال مَن قتل الحريري؟ ليس بالسؤال الصعب، الذي يُحّير العقول كما قلنا، فإن سؤالًا آخر يستحقّ أن يُطرح وأن تُجرى مناقشته وبالتالي الوصول إلى جواب بصدده. هذا السؤال يتصل بالخلفيّة التاريخيّة والثقافيّة والسياسيّة التي جعلت هذين النظامين، وبخاصةٍ النظام السوري، ينهجان نهج الاغتيال السياسي. بدأ هذا النهج يأخذ طريقه إلى الحياة السياسيّة في لبنان وسوريا بمجرّد وصول الفريق حافظ الأسد إلى السلطة في دمشق، ولم يكن معروفاً أو شائعاً قبله، عمل حافظ الأسد على تصفية كل خصومه السوريين من ضباط وسياسيين تصفية دمويّة ووحشيّة. صفّى ضباطاً علويين مثل اللواء محمد عمران، إذ أرسل إلى حيث يقيم عمران في طرابلس عملاء له فقتلوه. وبعد أن استتبّ الحكم للأسف في سوريا التفت إلى لبنان لتطويعه. كانت أداته الأولى في هذا التطويع عمليّات الاغتيال التي لا ترحم أحداً. قتل رئيسي جمهورية هما: بشير الجميل ورينيه معوض، وقتل رئيس حكومة هو رشيد كرامي وقتل المفتي حسن خالد وقتل الزعيم الدرزي كمال جنبلاط وقتل كثيرين من زعماء ونواب وصحفيين وكان كل الذين قتلهم من الطائفة السُنّية ومن المسيحيّين. أمّا من الطائفة الشيعيّة فلم يمد يده حتى إلى مَن ناوأه منها مثل كامل الأسعد رئيس مجلس النواب إذ اكتفى بإزاحته من السلطة لم يقتله، ومثل الزعيم الديني للشيعة الإمام موسى الصدر الذي تقول بعض المعلومات إنه أوكل للقذافي عمليّة تصفيته، إذ لم يرد أن يُصفّي زعيماً شيعيّاً. وعلى طريقه سار ابنه بعد وفاته.

السؤال يتناول سياسة الاغتيالات هذه التي كانت طابع النظام السوري بالدرجة الأولى، والنظام الإيراني بالدرجة الثانية. من المحللين من يرى أن سياسة الاغتيالات هذه يُسأل عنها الإرث العقائدي المذهبي الذي تربّت عليه الجهة التي مارست هذه السياسة. فلماذا لم تعرف سوريا قبل آل الأسد حكاماً نهجوا هذه السياسة؟ لأنهم ببساطة غير مرتبطين بثقافة الاغتيالات القديمة التي كان الغلاة الإسماعيليّون وغير الإسماعيليّين من رموزها. ومن رموز هؤلاء الغلاة القدامى كما هو معروف الحشّاشون الإيرانيّون الذين روّعوا المشرق العربي والإسلامي باغتيالاتهم الشهيرة التي تناولت، في من تناولت، رؤساء دول في حينه.

الحشّاشون وهبوا اسمهم للإفرنج الذين استشفوا من هذا الاسم كلمة تفيد الإرهاب والتصفيات والجرائم الكبيرة على أنواعها. كما وهبوا نهج الاغتيال السياسي في حاضرنا اليوم لمن يتبنّى فكرهم الديني والعقائدي.

لو أن الحاكم السوري في نصف القرن الماضي كان حاكماً مسلماً، بالمعنى المعروف للكلمة، لما شهد المشرق العربي الجرائم السياسيّة التي هزّت المنطقة والعالم. ولكن من اقترف هذه الجرائم لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، بل إلى فكر الغلوّ الذي عندما وصل إلى السلطة اعتبر أن وجوده فيها اغتصاب وأنه لا سبيل له للاحتفاظ بها إلاّ بالقتل. أصبح القتل وسيلة من وسائل الحكم، بل الأداة الأولى للبقاء فيه. بدون القتل يستحيل الاستمرار في الحكم. أصلاً وصل الحشّاشون إلى الحكم بالحيلة والخداع والاغتصاب، وفي غياب تامّ للديمقراطيّة والانتخابات الحرّة. فكيف يحتفظون به إذن؟ بالاغتيالات وبأخواتها. كان اغتيال الحريري ذروة هذه الاغتيالات، وكان القتلة، الكبار والصغار، يظنّون أنّ جريمتهم أو جرائمهم، ستمرّ كما مرّت كلّ جريمة سابقة ارتكبوها.

ولكن سؤالاً مهمّاً آخر يدور حول محكمة لاهاي: هل ستسلك هذه المحكمة فعلاً سبيل العدالة فلا تحيد عنه، أم أنّ من الممكن استغلالها من قبل "الكبار" في إطار صفقةٍ ما مع إيران (على الخصوص) من شأنها عدم كشف الوجه البشع للنظام الإيراني والتستّر عليه لقاء ترتيب هذه المسألة أو سواها في المنطقة والعالم؟

هذا سؤال كبير ليس من السهل الإجابة عنه في الوقت الراهن ولا شكّ أنّ قسماً من هذه الإجابة يتعلق بمدى صناعة قضاة المحكمة بالدرجة الأولى. فهل سيكونون قضاةً بالمعنى الحقيقي للكلمة، أم سيسمحون لبازار السياسة (والبازار كلمة إيرانيّة كما هو معروف) بالتجوّل في أرجاء محكمتهم وفي ضمائرهم قبل كل شيء؟ الأيام وحدها كفيلة بإعطاء الجواب الصحيح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق