الأحد، 26 يناير 2014

العصور الوسطى الجديدة / باراج خانا




لا تزال القوة تتمثل في الأذهان إلى حد كبير بوصفها عملة السياسة العالمية. لكن مفهوم القوة ـ الثابت ـ لم يعد كافيا لتفسير العالم عديد الطبقات والأقطاب الذي نعيش فيه. فالقوة اليوم تتجلى من خلال الفعالية. وقد تكون القدرات العسكرية لبلد أوضح موارد القوة لكننا نعرف أن هذه القوة لا تقوم بالضرورة بتحقيق جميع ما ترمي إليه من أهداف. وذلك ما أثبتته تجربتا العراق وأفغانستان إثباتا أليما. لم يعد بوسعنا أن نتوقع لقدر ثابت من القوة ـ عسكرية كانت أم سياسية أم اقتصادية ـ أن يكون هو العامل الحاسم في سياسة العالم أو اقتصاده.
ولكن بوسعنا أن نقوم بتحليل الفعالية: كيف يمكن استغلال القوة لتحقيق النفوذ. الفعالية، خلافا، للقوة غير الثابتة لأنها لا توجد إلا في علاقتها بشيء آخر. وليس بوسع أحد أن يمتلك الفعالية على النحو الذي يمتلك به القوة. فالفعالية قوة في سياق، ودرجة المرء في الفعالية تبقى دائما في حالة تغير. وانظروا مثلا في فعالية القطاع الخاص على القطاع العام فيما يتعلق بالتعقيد المالي: لقد كان هناك اعتقاد ـ بعد الأزمة المالية ـ بأن القطاع العام سوف يسترد فعاليته بعدما فقد القطاع الخاص مزاياه. ولكن من الواضح بجلاء أن ذلك لم يحدث. فقد برع القطاع الخاص في استغلال فعاليته في استعادة استقلاله في مجال التعقيد المالي.
هونج كونج أهم من المكسيك
يفضي بنا هذا بسلاسة إلى أن سؤال «من الذي يمتلك القوة؟» هو سؤال قليل الأهمية في يومنا هذا. فعلينا بالأحرى أن نسأل «من يمتلك الفعالية؟». في أغلب سنوات القرن العشرين، كانت الدولة هي اللاعب الوحيد. لكن الدولة اليوم تجد نفسها في منافسة مع لاعبين آخرين كالمدن، والشركات، والمجتمعات. ولقد أصبحت العوامل النظامية مثل رأس المال والتكنولوجيا هي أدوات أولئك اللاعبين، ولكن ما ليس بواضح هو من الذي يتحكم في هذه الأدوات، أي من الذي يجلس في مقعد السائق.
إن القدرات المالية لكثير من الشركات والمدن تفوق قدرات دول. ولو أننا نظرنا إلى مجموعة العشرين، وهي أهم عشرين اقتصادا في العالم، فلن يكون بوسعنا أن ننال من حقيقة أن بعض الدول ـ كإيطاليا والارجنتين ـ لم تعد ذات صلة باللعبة على الإطلاق. فهونج كونج  بكونها مركزا تمويليا وملتقى اقتصاديا ـ أهم من المكسيك. لو اختفت المكسيك من على الخريطة، لن تكون عواقب اختفائها المالية أفدح على العالم مما لو اختفت هونج كونج. وهذا وإن يكن مثالا افتراضيا إلا أنه شديد الدلالة في واقع الأمر.
بالطبع هناك بعض الدول مثل الولايات المتحدة أو الصين أو ألمانيا لا تزال صاحبة نفوذ كبير، ولكن علينا أن نتذكر أن نفوذها هذا يأتي من إيوائها أصلا للاعبين من أصحاب الفعاليات الكبرى. ولكن سيكون من الخطأ أيضا أن نفترض أن حكومة الولايات المتحدة هي صاحبة النفوذ الأكبر لأنها مقر اللاعبين ذوي الفعاليات الكبرى. فلا يمكن القول إن الولايات المتحدة هي صاحبة الفعالية الكبرى إلا في حالة ما إذا كانت حكومتها تقوم بالتنسيق بين هؤلاء اللاعبين من ساكني أراضيها. وفي حدود قيام شركات الولايات المتحدة بالحصول على تمويلات من الحكومة واجتذاب رؤوس أموال خارجية، فإن إسهامها في فعالية أمريكا الوطنية أقل مما يبدو.
لقد ولَّى توازن القوى الذي عرفناه في القرن الماضي بما كان فيه من سيطرة للدول. ونحن اليوم شهود على حقبة تعتمد فيها الدول على المدن أو الشركات وليس العكس. ففي أغلب الدول ترون مدينة أساسية تعتمد عليها الدولة في نشاطها الاقتصادي ورفاهيتها. ولو سقطت هذه المدينة، سرعان ما تسقط بقية الدولة في أعقابها. وتمهلوا للحظة فكروا فيها في دولة واحدة ناجحة لا تستطيعون أن تشيروا فيها إلى مدينة ناجحة نجاحا استثنائيا. ولسوف يطول بكم الانتظار بلا جدوى. وإن آثار هذا التطور الجديد تزداد كل يوم وضوحا عن سابقه. فالناس في لندن يمزحون فيقولون إنهم قادرون على الانسحاب من المملكة المتحدة. وهم واعون تمام الوعي أن العلاقة بين مدينتهم وبقية الدولة علاقة ظالمة إلى أبعد حد. فأغلب العائد الضريبي في المملكة المتحدة وأغلب إجمالي الناتج الوطني إنما يأتيان من مدينة لندن، ثم يتم توزيعهما من بعد بالتساوي على جميع أرجاء البلد. ولو أن بوسع أهل لندن أن يتحكموا في هذه العوائد، إذن لانمحت بقية البلد.
ولكن هذه الحقبة الجديدة في السياسات العالمية التي تشهد تنافس العديد من اللاعبين على النفوذ ليست بالحقبة الجديدة كل الجدة على أية حال. وأفضِّل على وصفها بالجدة وصفها بـ «القروسطية الجديدة» إذ ان في هذا الوصف تصويرا مساويا لتوازن القوي العالمي الحالي. إن الفترة الممتدة بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر تشبه شبها مذهلا زمننا المعاصر الحديث. فالعصور الوسطى كانت عديدة الأقطاب عديدة الحضارات تقوم على نظام عديد الطبقات. ولم تكن الدولة الحديثة ولدت، حينما كانت الإمبراطوريات والسلطات الدينية والمدن والشركات والعائلات وشتى أشكال اللاعبين في حالة تنافس على القوة والنفوذ ـ تماما كما هو حالنا اليوم. وإذن، من وجهة النظر التاريخية، فإن الهيمنة الحصرية للدولة هي الاستثناء، لا القاعدة والعرف.
مشكلة الشرعية
ومع ذلك تبقى للدولة على نطاق واسع مكانة الأصنام المعبودة، وذلك لأن في يدها ميزة حاسمة يفتقر إليها منافسوها: هي ميزة الشرعية الديمقراطية. لكن مشكلة الشرعية الديمقراطية ـ بوصفها المصدر الوحيد للشرعية ـ تتمثل في أنها لا تنطبق إلا على الدول فهي بذلك تقصي بقية اللاعبين. ولو أننا نريد احتواء بقية اللاعبين في نظم شرعية، فعلينا أن نتبنى نظما أخرى في المساءلة والمحاسبة تلائم اللاعبين حينما لا يكونون دولا مثل المراقبة والإشراف والسمعة السوقية. إن الشرعية الديمقراطية مقياس منقوص بالنسبة لأي نظام. وحتى النظام السياسي الذي تتوفر فيه المسائلة والمحاسبة والشرعية الديمقراطية  ـ كالديمقراطية الغربية على سبيل المثال ـ ليس بعد نظاما كامل الشرعية إذا لم تكن المحاسبة والمسائلة السوقية فاعلة فيه. وتجاهل هذا فيه خسران لجزء كبير من الصورة.
إن القضايا والمشكلات التي تواجهنا اليوم لهي أكثر تعقيدا من أن تتولاها حفنة من الدول. وإن أنصار نظام الدولة ليتشبثون بسلطة الدولة الحصرية لكنهم ينسون أن التعقيد هو الواقع الأشد جذرية من نظام الدولة نفسه. فنظام الدولة لا يسيطر على التعقيد، بل إن نظام الدولة نفسه هو الذي يقع تحت رحمة التعقيد.


*كاتب المقال يعمل في المنتدى الاقتصادي العالمي في جنيف  وفي معهد بروكنجز وله مؤلفات عديدة تصب في محاولة حل المشكلات العالمية من خلال توثيق التعاون الدولي.

نشر المقال في مجلة ذي يوربيان
ترجمة أحمد شافعي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق