الجمعة، 17 يناير 2014

"النظام والحرية" في الاحتلال: التطبيق الرمادي / طارق الدليمي




إذا كان الباحث العلمي في البنتاغون الان شوارتز قد تنبأ وطالب، بدقة بما سيحدث في العام 2013، فإن «الهر» ستيفن شوارتز قد زاد في سوء الحشفة كيلة. حين قرر الحنين إلى الأيام الاولى للاحتلال حيث الحرية المفرطة، ويطرح الآن بكل تبجح ضرورة عودة تلك السيرة والمسيرة، تحت شعار الوقوف بوجه الممانعة في العراق والإقليم، والقيام بعقوبات جادة للقوى الأساسية المنخرطة في هذا المحور. وفي الضفة العراقية من مجرى الصراع هذا وكلامه هذا يتناغم بتطابق مدهش مع توقعات الان شوارتز بخصوص التحالفات التي يطرحها لتنفيذ الاستراتيجية الاميركية في العراق ودول الجوار. لكنه عمليا، وعلى العكس من مزاعمه الكاذبة، يحاول الاستفادة القصوى من التجربة البريطانية في الاحتلال والانتداب للعراق بين 1915 - 1932.
 إن مقارباته لا تعني استنساخ التجربة فقط بل الالتفاف حولها أيضا من خلال ازدراء العقل «الاوروبي» وعبر ابتكار أساليب جديدة في الارهاب المنهجي للنظام ــ الحرية، وهو هنا يطلق العنان لكل أنواع النزعات الفوضوية والعدمية لتحقيق هدفين متلازمين للاحتلال الاميركي للعراق: الأول: الاستنزاف الشامل لكل النخب المتعاونة وفي شتى المجالات والاتجاهات وتحت مختلف الشعارات. الثاني: الاستغراق الكامل لاحتواء كل القوى الاقليمية المتعاونة والعميلة من أجل خلق اصطفافات جديدة متغيرة خدمة لاستراتيجيته المتغيرة أيضا.

من هنا يمكننا التركيز على مصدر هام وموثوق جدا يشرح هذه المقاربات الكولونيالية العائدة بكل بساطة وعمق. إنه كتاب «التاريخ السياسي لامتيازات النفط في العراق 1925 ـ 1952» للخبير القدير الدكتورنوري عبد الحميد الذي نشرته إحدى صحف الاحتلال في بغداد. يسلط الكتاب الضوء على التجربة البريطانية وكيف كانت أغراضها تحديدا في: 1/ تكريس حكم تابع لها في العراق. 2/ بناء دولة «الوكالة» في العراق المرتبطة عضويا مع «الكومونولث» البريطاني والسوق الرأسمالية العالمية. 3/ السيطرة الكلية على الموارد الطبيعية في البلاد والاشراف الشامل على النفط في كل مراجل التنقيب والاستخراج والتسويق والتصنيع.

إن هذا الكتاب يعطينا مادة دسمة حين يناقش ويستعرض الصراعات السياسية والمناورات التي حدثت بين 1924 ـ 1925 حين كان الاحتلال، والانتداب البريطاني يريد توقيع الاتفاقية النفطية مع العراق لحسم الأمور نهائيا لصالح السيطرة السياسية والهيمنة الاقتصادية. وكانت بريطانيا تنظر إلى العراق من خلال مكوناته السياسية الافتراضية: 1/ القوات البريطانية. 2/ البلاط الملكي وحاشيته العشائرية والسياسية والعسكرية. 3/ المعارضة السياسية الملفقة احتلاليا والمرتبطة عضويا بالوجود الأجنبي في الوطن. ويشرح الكتاب كيف أن الانتداب يتلاعب بكل النخب المتوفرة في الصراع ويمارس كل الخدع والأساليب الوسخة من أجل خلق تيارين متعارضين في الاتجاه ومتعادلين في القوة في الوقت نفسه، وهما: 1/ تيار السلطة. 2/ تيار المعارضة. ويشير الكتاب إلى: كيف كان المندوب السامي «هنري دوبس» يحرض الوزراء والنواب على المعارضة سرا، تحت شعار مخاطر الأطماع الفرنسية والاميركية «النفطية» في العراق، وكان في مناوراته الخسيسة هذه يضع رجوع «الموصل» إلى العراق مقابل توقيع «المعاهدة» النفطية مع الحكومة البريطانية. ويؤكد الكتاب على أن السياسة المزدوجة التي سارت عليها الحكومة البريطانية في تلك الآونة كانت ناشئة عن اختلاف وجهتي نظر وزارتي المستعمرات والخارجية البريطانيتين. فهل هي الصدفة التي تجعل «الهر» شوارتز الآن يشيد بمناقب وزارتي الدفاع والخارجية في اميركا ويطنب في التعاون والتنسيق الفعال بينهما على أعلى المستويات! وهو يجزم بأن الحرية هي فقط أهدافهما، محتقرا السلوكات الاوروبية القديمة في تجاربها الاحتلالية!!

أما النقطة الثانية والخطيرة جدا التي يركز عليها الكتاب فهي التنسيق السري بين الانتداب وبين قيادات الكرد في شمال العراق من جهة، وبلاط المملكة السعودية من جهة جنوب العراق. ففي وقت المفاوضات كان الانتداب يبتز البلاط والحكومة حول تقوية الجيش مقابل المخاطر الناجمة من الاعتداءات العسكرية على البلاد شمالا أو جنوبا، وكانت الحكومة العراقية تشكو من العجز المالي، جراء تعويضاتها الثقيلة نحو تركيا، وشح مواردها في تسليح الجيش وزيادة قطعاته الميدانية. حصلت الهجومات الغادرة شمالا في منطقة السليمانية بقيادة الزعيم الكردي محمود الحفيد والاعتداءات الوحشية جنوبا من قبل القوات العسكرية الرسمية السعودية وميليشيات «الإخوان» المتحالفة معها. حقا لقد نجحت المناورات البريطانية بدقة عجيبة ورجعت الموصل إلى حضن الجغرافية العراقية وطار النفط من تاريخ العراق الجديد.
لكن الهر شوارتز يحاول الآن مجددا أن يضع نقاط الاحتلال على حروف النخب من خلال الاصرار على أن هؤلاء الأصدقاء عاجزون وحدهم عن مواجهة أعاصير دول الجوار. وهو يعتقد من خلال جدولة افتراضية لاعادة الاحتلال أن تكون مهمات الادارة الاميركية متخصصة في انقاذ العراق، والذي هو انقاذ اميركا، من «الاسلام الوحشي» المعادي لاسرائيل والغرب والتحالف مع «الاسلام السعودي الوهابي»، والذي هو معتدل ومتعاون مع الغرب. وهذا لن يتحقق الا في ظل اعادة انتاج العملية السياسية نفسها مع بعض التبديلات غير الضارة! ويقدم شبه دراسة أولية حول احتمالات بقاء الوزير الأول في ولاية جديدة بعد الانتخابات المقبلة في نيسان العام 2014، ويشترط لتنفيذ ذلك أن تحقق ضمانات أكيدة للتعاون الكامل بين الدول المنتمية إلى نادي «الكوندومينيوم» وتحت الاشراف الاميركي. وهو يشرح ذلك بكل ثقة: اولا في المجال السياسي:
1 ـ ضرورة إنهاء «الاعتصام» في الأنبار وتصفية تنظيمات القاعدة المتلازمة معه. ولكي يعبد الاستقرار اللازم لنجاح الانتخابات المقبلة. واللافت هنا أن القوات الحكومية العسكرية المركزية في ذهابها إلى الأنبار تصرفت بالضبط بالأسلوب نفسه الذي تعتمده القوات الاتحادية الاميركية حين «تذهب» إلى إحدى الولايات في مجرى أحداث عنف ما، وحين يفشل الحرس الوطني المحلي في الولاية في إخماد تلك الفتن. بل ان حكومة الوزير الأول قد استعانت بقوات إضافية من الجنوب العراقي، منطقة الناصرية حيث يحكم محليا هناك «حزب الدعوة»، وأرسلتها لدعم القوات الموجودة في الرمادي.
2 ـ الاسراع في تفتيت التحالفات السياسية التي خاضت الانتخابات في العام 2010 والعمل على تكوين «تحالفات» جديدة وتثبيت استقطاباتها الاقليمية ودفعها إلى الشروع بعقد الصفقات الخاصة وتبادل المقايضات في الغرف السرية، ما يجعل من أحداث مهمة مثل «الاعتصام» في الأنبار صورة من صور الصراع «السياسي» هناك، وبين مكونات المحافظة السياسية والدينية والقبلية وليس أحد الأساليب النضالية التي يمكن ممارستها في مواجهة استبداد وطائفية الحكومة، والعمل من أجل تحقيق أهداف مشروعة ومحددة. 3 ـ استغلال قوة العادة في مجرى الاحتلال والمحاصصة واعتبار النخب المسيطرة على بعض المفاتيح السياسية هي المتينة، ويمكن التعويل عليها في ملء الفراغات المعروفة في الهيكل القيادي للسلطات الشكلية المهيمنة على القرارات الحاسمة في الحكومة في بغداد. بل ان إثارة الغبار المتعمد حول عدم معرفة الوزير الأول المقبل هو جزء لا يتجزأ من شطارة الهر شوارتز وقدراته الاستثنائية في الدجل والمراوغة. لكنه أيضا يؤكد وبشكل تمويهي بأن العنف الحالي سببه الأساسي انهيار السياسة في البلاد، وليس التدخل الاميركي الغادر أو الاختراقات الاقليمية الساعية لتقسيم العراق وتحديدا من خلال «الاسلام الوهابي» المسلح.

أما ثانيا، في المجال الاقتصادي: فالفالح «الهر شوارتز» يستعين بمنجمين في «الاقتصاد السياسي» من نمط فرانك غنتر ويصب جام غضبه على «النخب» المنحرفة من جهة، وعلى النفط ولعنته المعدنية من الجهة الثانية. ويتندر من دون شفقة على أحادية الاقتصاد العراقي ومن دون أن يقر بجرائم الاحتلال وأطماعه الشرهة، وبكون الوضع الاقتصادي الراهن لا يمكن الشفاء من أمراضه الا حين يتم إنهاء المرحلة بقضها وقضيضها والتخلص من الجيل السياسي المتعاون مع الاحتلال برمته. علما أن الجميع يعرف أن الاحتلال قد عين، وإلى حد الآن، مستشارين اميركيين في كل الوزارات وهم عمليا يتحملون مسؤولية كل شيء، ويتناسى أيضا أن الاحتلال قد أباد «الدولة الوطنية» وشيّد مكانها وزارات طوائفية وعرقية أصبحت بؤرة للفساد؛ وهذه النخب السياسية المسيطرة هي التي تبني مشاريعها الاقتصادية الخاصة، وبتشجيع من الاحتلال وتحت إشرافه وموافقته. وهذه المشاريع لها الامتدادات الاخطبوطية في السوق العالمية ومن خلال الشركات الاميركية العملاقة.
وفي مواجهة «الهر شوارتز» في مداخلته الفجة حول «النظام والحرية» لا مناص من استدعاء مقولات الثوريين في تثبيت العلاقة العضوية والجدلية بينهما من خلال بناء «جسر» محكم يربطهما بصورة خلاقة ويتجاوز كليهما إلى فضاء الارادة الحرة للمواطن في التطور التراكمي للمجتمع والتقدم الحقيقي للفكر السياسي المبدع. هذا الجسر المرصوص البنيان هو الدولة الوطنية الحديثة، التي تلتزم بسيادة البلاد وترعى الرفاهية للناس وترفض التدخلات الخارجية وتقف ضد الغزو والحروب واحتلالات بلدان الآخرين. هنا يعتصم الهر بالصمت المطبق، لكنه هل يعرف ان هذا الاعتصام لا يطمس الحقيقة الموضوعية، وهي حالة المواطن العراقي المطحون بالجوع والاستبداد، والمعتصم أيضا بالصمت مع ان هذا الصمت هو نوع من الحزن لا يمكنه أيضا أن يطمس جور الحكومة المسلط على رقبته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق