الجمعة، 3 يناير 2014

تطبيق «النظرية السوداء» في العراق I / طارق الدليمي



في العام 2006 كان «معهد السلام الأميركي» في قبضة «دانيال بايبس» الصهيوني المعروف والذي «عينه» «جورج بوش الإبن» في حينها ليتعاون معه الكثير من المرتدّين العرب عن الناصرية والشيوعية ويكرسوا «مساكنتهم» في المعهد للترويج المفصّل للسياسة الاميركية في العراق والمنطقة. وفي تشرين الأول / اكتوبر من السنة نفسها قدم إلى المعهد «الان شوارتز» عضو المجلس العلمي في «البنتاغون» تقريراً مسهباً حول الصراع السياسي في العراق ومستقبله المنظور إلى حدود العام 2013، وقد أشار في التقرير إلى النقاط التالية» 1/ إن اميركا في حالة «التأثير» وليس «السيطرة» على النتائج. 2/ التوازن القلق بين «شعار» الفدرالية وتيارات الاندغام الكلي. 3/ الجدل الحاد بين توزيع النفط مركزياً وبين أطروحات «الاستقلال» النفطي في البصرة جنوباً واربيل شمالاً. 4/ انتفاضة «السنة» حول قانون «اجتثاث» البعث وآثار ذلك على الوحدة السياسية للبلد. 5/ بداية خروج المسألة «الكردية» من المحلي العراقي إلى الإقليمي الواسع. وقد اقترح جملة توصيات لإعادة «الاعتبار» للتعاون مع «الطائفية السنية السياسية» وعدم الاقتصار على العلاقة «العضوية» مع «الطائفية الشيعية السياسية» ومساندتها الأحادية في السيطرة على «الحكومة» المركزية، وهي تحتوي النقاط التالية: 1/ على اميركا أن تطلب من دول الخليج وبالذات «السعودية» التدخل المباشر لمصلحة «الطائفية السنية السياسية» وخاصة في محافظة الأنبار، ما يعطي الانطباع بأن «الموصل» و«كركوك» متروكتان للتدخل التركي! 2/ تطلب اميركا من الأزهر التدخل لإجراء المصالحة الاسلامية الشاملة في العراق وبالتعاون مع «السيستاني» لضمان إيقاف تصاعد النفوذ الإيراني في العراق. 3/ تطلب اميركا من «المؤتمر الاسلامي» التدخل أيضاً في هذا الخط من التعاون والتنسيق. هل يمكن التعليق بالتفاصيل حول هذه الجهود المطلوبة الآن، تبعاً للتقرير.
وبدون الخوض في «مغامرات» غير محسوبة في تحليل هذه «التمنيات ـ الطلبات» لا بد من التنويه إلى زميل هذا «الباحث» العلمي وهو الكاتب المهتم بالشؤون الاسلامية الصهيوني العريق «ستيفن شوارتز» والمتعصب جداً لمفهوم «بناء الأمم» في مؤسسة «الدفاع عن الديموقراطيات» الاميركية. حيث يعاوده الحنين الآن إلى أيام الاحتلال الأولى ويطالب بإعادة الكرة بدون وجل أو خجل. واللافت أن صاحب كتاب «وجهان للإسلام» لا يني في الدفاع عن «الاسلام السياسي» في كل صوره المختلفة ومراحله المتعددة مادام هذا «الاسلام» يخدم الاستراتيجية الاميركية العالمية! وهو يثبت في مجرى مداخلاته الفارغة مفاهيم القرن التاسع عشر البالية ومنها أهمية سيادة «قانون الاختلاف»، على قاعدة أخلاق فلسفة الحق، بين الشعوب المتحضرة والشعوب البدائية الأخرى. وهو في صدد مقارباته السمجة حول التجربة الأميركية الاحتلالية للعراق يتشاطر في شرح هوامش هذه الكارثة الشاملة محتقراً كل المتون المهمة والتي قد طرحت حتى من داخل «البيت» الرأسمالي الامبريالي. وتحديداً في الجانب الاوروبي من المحيط الاطلسي.
تبدو معالجة «ستيفن شوارتز» للنتائج المتوقعة من قبل ألان شوارتز مقنعة للوهلة الأولى ولا سيما لتيار الليبرالية، العراقية والعربية، المتعاون مع الاحتلال الأميركي والراقص لأهزوجة «بناء الديموقراطية» في العراق وخاصة في بيان «البرنامج الانتخابي للتحالف المدني الديموقراطي» والذي يتصدّره «الحزب الشيوعي العراقي» بقيادة حميد مجيد زنكنة والمتحالف حتى العظم مع الغزو والاحتلال الاميركي للعراق. أما اللولب الاعلامي في التحالف المدني هذا فهو مثال الألوسي ضابط المخابرات الصدامي سابقاً والذي نقل خدماته علناً إلى المؤتمر الوطني العراقي بقيادة أحمد الجلبي وزار إسرائيل جهاراً نهاراً من أجل التفاهم والتنسيق. أما الذي يحك على جرب هؤلاء جميعاً، فهو أن «ستيفن شوارتز» يهاجم الأقلام الاوروبية بهياج شديد حين توجه سياط نقدها الصارم نحو أميركا وتنتقد سياساتها الكاذبة حول الديموقراطية والحرية وكيف أنها من الناحية العملية أهملت أولوية بناء النظام وتركت الفوضى هي المتحكمة بالناس هنالك.
إن ردود «ستيفن شوارتز» الهزيلة تذكرنا بكتابات «الهر» يوجين دوهرنغ في القرن التاسع عشر وكيف مسح به الأرض المفكر الكبير والثائر فردريك انغلز في أطروحته العميقة حول العلاقة بين النظام والحرية في سياق النضال السياسي والاجتماعي للفقراء والمعدمين في المجتمع. يردّد هذا «الهر» الجديد: «إن الحرية يمكن أن تجلب النظام، ولكن النظام من الصعب عليه أن يجلب الحرية». إن هذه الصفاقة التي هي أعلى من الاهرامات. تلغي تاريخاً كاملاً للاستبداد الاوروبي، ومنه الاميركي أثناء الاحتلال البريطاني لاميركا، وكيف أن هذا الطغيان وبالتضافر مع التراكم الرأسمالي الاقتصادي للقارة قد أدى إلى التطور الصناعي الجبار وإلى التقدم الفكري والسياسي وفي المقدمة منها شعارات الحرية والعدالة وحقوق الانسان. والمثير أن هذا السجال الهابط بين هذا «الهر» الجديد ويسار «الغارديان» المزيف لم تسنح له الفرص المتألقة لإثبات «قانون الاختلاف» الذي يروج له الجميع حضارياً ولاسيما في ميدان الفروق الهائلة بين التجربة البريطانية في احتلال العراق العام 1915 والتجربة الاميركية في الاحتلال العام 2003.
ولأن ستيفن شوارتز مصاب بفقدان الذاكرة الانتقائي فهو يضرب أخماس النظام بأسداس الحرية، من دون التمييز بين المراحل المتعاقبة للتطور الاقتصادي والتقدم الفكري في البلدين: اميركا وبريطــانيا من جهة والبلد المحتل «العراق» من الجهة الأخرى. أما النماذج الملموسة والمدروسة في التجربتين فيمكن تلخيصها من قبل كتاب آخرين واكبوا هذه التجارب عبر التدوين والتحليل والاستنتاج. حيث يكتب «توبي دودج» في أطروحته الملتبسة «الاستــبداد الجــوي وبناء الأمم»: «إن مدينـة السماوة قد قصــفت بكثــافة في العام 1923 وبعد استــقلال العــراق، وفي الوقـت نفسه قصفت مدينة السليمانية الكردية وتمت إبادة ست قرى كردية واستعمل غاز الخردل في هذه الغارات الحضارية.» في ذلك الوقت برز قائد السرب البريطاني المشهور «ارثر هاريس» مبتدع فكرة «قصـف السجادة»، التي طبقها لاحقاً في الحرب العالمية الثانية في المانيا: هامبورغ ـ دوسلدروف. وقد اعتبر المحلل «ادوارد بيك» أن سلاح الجو الملكي البريطاني هو المهيمن في تطبيق السياسة الأمنية حتى العام 1926. وهي تعتبر بالنسبة للانتداب البريطاني نهاية حقبة سابقة وبداية حقبة تالية في «بناء الأمة الجديدة» في العراق والمشرق.
بيد أن دراسة الاكاديمي الاميركي «كريستوفر لاين» حول حرب العام 1991 على العراق فينظر إليها بكونها، من خلال القصف المنهجي على البلد والناس، الحد الفاصل بين الكذب الاميركي والرياء الاوروبي. يقول «لاين»: إن اميركا وبريطانيا وغيرهما مازالوا بعقلية أن «الفلاحين الفقراء» غير قادرين على مواجهة «آلة حرب» الأعراق السائدة في التاريخ المعاصر. وأن أملهم في بناء قرية «بوتمكين» ذات المؤسسات الديموقراطية المزروعة والكاذبة هو الحصاد الأسود للاقتصاد الرأسمالي العالمي المتوحش. وأنه سرعان ما ينهار تحت وطأة التوازن القلق والهش بين مقولتي المكاسب والمخاطر وكسب القلوب والعقول في صحاري النجف والأنبار. بمعنى آخر أن الفشل المباشر يكمن في من يضع «الصراع الوطني بمثابة الصراع الاجتماعي» ويأتي مَن يكمل المأساة في مَن يضع «الصراع الاجتماعي بمثابة الصراع الوطني» والنتيجة راسخة وقديمة مثل جبال العراق، حيث هنا لا يمكن الثقة بنموذج الفلوجة إذ لا يوجد سيستاني فيها ولا يمكن الاطمئنان إلى نموذج «النجف» إذ لا يوجد فيها «هيئة سنية» متجاوبة وموحدة.
وإذا كان المحلل العسكري الاميركي «ستيفن ميتز» قد تمتم بحبور إلى أن قرار التدمير عن طريق «القصف» يتعدّى حدوده «العسكرية والسياسية» فإنه يصل في مداه المرحلي إلى بداية «إعادة بناء الدولة والمجتمع» فإن المحافظ الليبرالي «فرنسيس فوكوياما» ينشد بانطلاق: «لا يمكن للدولة أن تنهض بوجود ميليشيات ولا يمكنها أن تنهض من دون مساندة هذه الميليشيات». بهذا المعنى الرجوع دوماً، للحفاظ على «البقاء» في العراق، إلى ثنائية «الاستقرار والديموقراطية أي النظام والحرية وكيفية تطبيق ذلك على إيقاع القصف السيمفوني للبلاد. والسؤال هل لدى «الهر» «شوارتز» الحد الأدنى من رهافة الحس التي كان يتمتع بها «الهر» «دوهرنغ» في القرن التاسع عشر، حين كان يؤكد أن كل شيء ممكن حله مع «الشعوب» ضمن بقاء وارتقاء قانون الاختلاف الاجتماعي. والغاية تبرر الواسطة حسب المنطق الواقعي للمؤسسات الرأسمالية الحاكمة. وإذا أخذنا كلامه حول الفروق بين النظام والحرية في تحديد نتائج التفاعلات الاجتماعية الهامة بعد الاحتلال فسيكون علينا أن نتحاشى هذره السياسي الفضفاض ونتبنى لغة الجداول بديلاً عن قوة الأشياء في قوانين منحطة من نمط «قانون الاختلاف».
ففي ظل الأوضاع الراهنة الحالية في العراق لا بد من مواجهة هذا الثنائي «النظام، الحرية» في ملفاتهما التفصيلية. خاصة أن البلاد بدأت تدخل في مرحلة انتقالية جديدة يسميها البعض من كتبة الاحتلال بأنها مرحلة التغييرات المفصلية وهي إحدى تمويهات الاحتلال الإعلامية والتي تعتبر نوعاً من الزيوت المستعملة لتشحيم ماكنة العملية السياسية المنهارة وأيضاً إحدى تلفيقات الدعاية الانتخابية للنخب المأزومة والتي تحاول شراء الجموع المعذبة في طريق الاحتلال الدائم. بل أن هذا التخدير الإعلامي الجديد يُراد منه تمهيد الطريق أمام تفسير جديد لقانون الاختلاف وتبديله بقانون وراثي اجتماعي رخيص يستطيع أن يكون عتلة في تحديد الخطوط بين القوى المتنحية القديمة وبين القوى السائدة الجديدة والمطلوبة. فهناك توازن قلق أيضاً بين الاعتناء بالنخب من جهة والاعتناء بالعملية السياسية من الجهة الأخرى، مع التأكيد دائماً بأن المحاصصة الطوائفية والعرقية هي جوهر كل شيء. وضمان السيطرة السياسية والهيمنة على الموارد النفطية هو محور الصراعات في كل وقت.
إن مكر الثعلب في مرويات الحكيم «ايسوب» يتجاوز «منطق الطير» عند الصوفي فريد الدين العطار فالتغيير المطلوب في «العش» لتنظيفه من الفضلات ممكن سياسياً ومؤقت، ولكنه صعب ومستحيل بيولوجيا!! إن أعشاش النخب مثل زرائب «اوجياس» في الأساطير اليونانية لا يمكن تنظيفها أبداً!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق