الأحد، 19 يناير 2014

مستنقع البذاءة اللفظية / ناظم مهنا



إذا كان النقاد والمؤرخون قد أطلقوا على القرن التاسع عشر اسم عصر التحليل والبحث، وعلى القرن العشرين عصر النقد والنظريات الأدبية، فبماذا يتسم هذا القرن في عقوده الأولى؟ إنه عصر البذاءة بامتياز، وأهم سماته الفساد والكذب!  
حتى بات البشر وكأنهم قد وجدوا لأنفسهم ديناً جديداً غير معلن، هو البذاءة، التي يحب الناس ألا يعترفوا بوجودها، إلا أنها تحاصرهم من كل جانب، في زمن يبدو فيه الأخلاقيون وكأنهم كائنات نادرة أو من عالم آخر! وإذا كانت هذه الحالة عامة يعاني منها العالم كله رسمياً وشعبياً، فهي عندنا، نحن العرب، مضاعفة وخطرة للغاية، وتبدو منفلتة بلا حدود، حتى إن الأمل بالخلاص منها يتضاءل يوماً بعد يوم، لا بل هي تنمو وتتفشى حتى تلوثنا جميعاً، ويصير واحدنا يتساءل كالممسوس: إلى أي حد أنا ملوث، ويعلق بي هذا الدبق المستشري؟! فمن المستحيل أن نعيش في مجتمع ونكون في معزل عن تأثيره. فالبذاءة اليوم تختلف عن تلك التي عرفها البشر عبر تاريخهم، وتناولها النقاد على أنها أفعال صادرة عن عناصر الشر والعدوان في الجنس البشري، فهي ليست مجرد استخدام للألفاظ النابية، أو المقولات والأشعار الهجائية والسباب، بل هي تأخذ منحى أبعد من ذلك، وتغدو سلوكاً يتجلى في كل الأنشطة الإنسانية، في الحياة اليومية وفي العلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، وتتمدد لتزهو وتزدهر في النتاج الفني والأدبي والثقافي! حتى بات الفاسدون والكاذبون لا يحتاجون إلى أقنعة! وما يزيد الطين بلة، أننا نعيش هذه البذاءة المعاصرة إلى جانب العنف الصريح، تغذيه وتتغذى منه! وهي بحد ذاتها عنف رمزي كافية وحدها لتلوث الحياة! وما لنا حيال ذلك إلا الصبر على البلوى، على حد قول الجواهري. عرف الشعر العربي الهجائي وغير الهجائي صنوفاً من الكلمات النابيات ومن السفاهة أحياناً، وكانت تتعرض للنقد والملاحقة القانونية في بعض الأحيان، كما حدث للحطيئة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وفي بعض الأحيان كانت تؤخذ أنها ضرب من ضروب التفكه كما عند أبي نواس وأبي دلامة وغيرهما، وكتب الأخبار حافلة بمثل هذه التنويعات التي تتوازى وتتنافر مع الأخلاق الصارمة للمجتمع. وعرف الغرب مثل هذا الأدب البذيء على مر العصور وبنسب متفاوتة، ولاسيما في الشعر وفي كتب الاعترافات، ولم يكن مسموحاً بها دائماً، بل كانت تعرض صاحبها للملاحقة والازدراء أحياناً، وقصة الفرنسي جان جينيه مع القضاء الفرنسي، حيث حكم عليه بالسجن لستة أشهر، بسبب مشهد عرض في إحدى مسرحياته، ينال فيه من الجنود الفرنسيين في الجزائر، ودافع عنه سارتر ومالرو وآخرون حتى أفرج عنه، وكان لسارتر وهربرت ماركوز فلسفتهما في الدفاع عن البذاءة ضد الأخلاق البرجوازية. ولكن أياً كانت الفلسفات المدافعة، عميقة أم سطحية، لا تستطيع أن تبرر هذا الطوفان من البذاءة التي لم تعد سمة برجوازية، بل هي مجتمعية شاملة ونحن اليوم لا نكاد نقرأ رواية لروائي عربي إلا ونجد أنها دست فيها كلمات بذيئة ومشاهد لإثارة الانفعالات، ولا يهم حتى ولو بدا ذلك خارجاً عن السياق، ولا مبرر فنياً له! بل يبدو أنه جاء لتلبية رغبات الناشرين، وهذه قمة البذاءة وقلة الشرف الفني، وضعف في الخيال، فالبذاءة لا تنتج أدباً متألقاً بل تنتج تفاهات، حتى لو تذرع الروائي بذرائع الواقعية وشدة حرصه عليها، فلغة الأدب ليست مطابقة للواقع ولا تستطيع أن تكون. وأذكر أن ستيفن ديدالوس بطل رواية يولسيز لجيمس جويس، يقول: «المشاعر التي يثيرها الفن البذيء، مشاعر حركية (إما الرغبة وإما النفور) والفنون التي تثيرنا هي فنون بذيئة» وذلك بعكس الانفعال الجمالي الذي يرفع العقل فوق الرغبة والنفور، ويؤدي إلى انسجام المشاعر.
هذا الطفح من التردي في مستنقع البذاءة اللفظية التي نراها سافرة بلا حياء على الشاشات، وفي الكتابات مضافاً إليها السلوك البذيء المنفلت بلا أي ضوابط، تؤكد إننا في حالة بؤس، وكبت، وكأننا أطفال فقدوا البراءة، وبلغة فرويد، إننا لا نزال في المرحلة الفموية من مراحل النمو! فهل هذا يليق بمجتمعات حضارية عمرها آلاف السنين؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق