السبت، 25 يناير 2014

مقاتل اللبنانيين.. عجز النظام أم ضريبة الجوار؟ / ريتا فرج



في لبنان يغدو الموت فصلاً عادياً من فصول حياة اللبنانيين، بعدما اعتادت أجيال وافدة من رحم القلق من الماضي والمستقبل على ملحمة الدم العابر للطوائف. لا تتمتع الذاكرة الجمعية التي تمخّضت عن الحرب الأهلية والحروب الصغيرة المتتالية بمناعة مضادة للعنف، ليس لأننا هواة نبذ، بل لأننا لم نتعلم من تاريخنا المثقل والمدجّج بالتساؤلات عن الآخر والوطن والهوية والدور، ولم نأخذ العبر من مقاتلنا الداخلية ومقاتل الآخرين على أرضنا عبر التأسيس لذاكرات خلاصية مناهضة للنزاعات ببعدها المحلي والخارجي.
من طرابلس إلى بيروت ومن الجنوب إلى الضاحية الصاحية ندفع ضريبة الخوف والعبث بأمن لبنان وأهله. نتساءل ونحن على مشارف التسويات أو الانفجارات الكبرى: هل ندفع ثمن الجوار الجغرافي الذي أصبح هو الآخر في عين الإعصار، أم أن للداخل أزماته الدورية الكامنة في بنية النظام السياسي نفسه، الذي لم ينجح منذ التأسيس لدولة لبنان الكبير العام 1920 في إرساء دولة حديثة قادرة في الدرجة الأولى على ضبط إيقاع التوتر الطائفي المديد وتهدئته عبر توطيد المشترك الوطني الجامع؟
تبوح الجماعات الطائفية المتناثرة على أرض لبنان بسر دفين: «لا نريد العيش معاً». هذه المقتلة الجديدة التي تنخر في جسد الوطن، ليست عاملاً طارئاً على تاريخنا. لم يتسنَ للبنانيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية، ماضياً وحاضراً، بلورة وتكثيف المشتركات الثقافية والمجتمعية والتاريخية، وهم الذين قدموا حالة خاطفة بسرعة الضوء عن إمكان تعايش الهويات وتهذيبها أقله في مراحل الهدوء التي عرفوها، وإن كانت قليلة ونادرة نظراً لتعاقب التوترات الداخلية وامتداداتها الإقليمية.
لبنان المستقبل المسروق من أبنائه أليس له الحق منا أن نحصنه من ذواتنا؟ هل باستطاعنا إعادة بناء وترميم الهوية الوطنية؟ ولماذا تبدو لعبة الرهانات والموت أسلوباً قابضاً على أنفاسنا نفتخر بها بموتنا وموتهم؟ من النادر أن تجتمع على أرض واحدة طوائف وجماعات مختلفة شكلت مداراً جاذباً وطارداً في آن. يعتبر أدونيس أن «لبنان البلد الوحيد بين البلدان العربية، وقد يكون على مستوى العالم، الذي تتلاقى فيه، موضوعياً لا نظرياً، تيارات كثيرة إثنية وعرقية ودينية، جديرة بأن تبني أنموذجاً لبلد المستقبل؛ لبنان لا يكتمل لأنه مشروع للمستقبل، هو بلد مستقبل، يبتكر دائماً، يُخلق من جديد دائماً، كما يُخلق الحب». قد يقول قائل في كلام شاعرنا مبالغة وإجحاف غير موضوعي بحق تاريخنا الجماعي الاستشهادي، على اعتبار أن كل جماعة تصنف نفسها صاحبة القضية وصانعة الغد، وتدعي الأحقية في التضحيات، من سُنة وشيعة ومسيحيين ودروز؛ الناظر في العالم العربي باستثناء بعض المنارات، هنا وهناك، يدرك عن كثب ماهية ما أدلى به صاحب «الثابت والمتحول» كيف ذلك؟ تمكَّن اللبنانيون وهم أهل الحوار والتسوية والاعتدال بكل طوائفهم من تأسيس وضع فريد يمكن إيجازه في ظاهرتين: الأولى، التدشين لأرضية سياسية قادرة على استيعاب الجماعات من خلال نظام سياسي، على فجواته، استطاع بالحد الأدنى إشراك الجميع في إدارة البلاد؛ والثانية، تلاقح الأمْزِجَة والطبائع على مستوى البنية المجتمعية، وإن بدت على السطح غير قابلة للانصهار والاندماج.
خوف اللبنانيين الراهن آتٍ من أعماق كل واحد منا، غير أن هذا الخوف مع حجم التحولات الهائلة في المنطقة يختلف عن الفترات السابقة. ثمّة الآن ما هو أخطر وأعظم لجهة التداعيات والمآلات، فهل تسجل الطبقة السياسية الحاكمة لحظة وعي تاريخي قادرة على إنقاذ لبنان من فم الذئب المذهبي الهائج في محيطه العربي؟ الحاصل أن الانقسام العمودي الذي أنتجته قوى «14 و8 آذار» انعكس بحجمه ومؤثراته على جزء لا يُستهان به من الشرائح الاجتماعية بطوائفها ومشاربها وتطلعاتها الخارجية. هذا العجز الذي تمعن في تعميقه هذه القوى نتيجة تضارب وتناقض الأجندات الخارجية على حساب الهم الوطني وإنقاذ ما تبقى من مؤسسات الدولة، إن دلّ على شيء فعلى الاهتراء الوظيفي.
يرى الدكتور انطوان مسرة أن معضلة لبنان تتجلى في ثقل الجوار «غير الديموقراطي، ولبنان ليس لديه مشاكل دستورية كبيرة، ومشاكــلة تتعلق بإدارة الحكم وبجوار جغرافي سياسي من أصعب الجوارات في العالم. لبنان في صلب ثلاث قضايا عالميـة: قضــية الدول الصــغرى في النــظام العالمي الجديد، قضية الأديان والعلاقة في ما بينها، قضية الأنظمة المركبة والميثاقية ودرجة فاعليتها». وعلى أهمية الخلاصــة التي تقدم بها مسرة لا يمكن أن ننكر التعثر الذي يعاني مــنه النظــام السيــاسي اللبنــاني في بنيته وركائزه، رغم تكريسه للميثاقية، خصوصاً أن المتغيرات التي أعقبت العام 2005 أوجدت صيغاً جديدة، وأنتجت مخاوف لدى كثيرين من هيمنة طائفة على طائفة، رغم الحديث عن المساواة التي كرسها اتفاق الطائف.
لا مخرج من الحلقة المفرغة إلاّ بالإصلاح الجوهري في طبيعة النظام السياسي، ورفع مستوى الوعي الوطني والمحاسبة، ما يستدعي قبل كل شيء تخطي الطائفية السياسية والنهوض بلبنان. وفي ظل الوضع الراهن الذي يمر به العالم العربي، لا سيما الجوار السوري، الذي ينعكس تشرذماً واضطراباً داخلياً علينا، وسط انشغال الأطراف السياسية بما ستؤول إليه الأوضاع في دمشق وما بعدها، لا يبدو أن إمكانات الإصلاح والمراجعات قابلة للإنعاش في المدى المنظور.
بين لبنان المخطوف من أهله، والجوار الأوسع المُصادَر بالمذهبية غير المسبوقة، المتولدة عن أنظمة أحادية لا ترى التعددية إلاّ بمرآة العين الواحدة، يدخل اللبنانيون في الانتظار القاتل، فلا هم قادرون على تجاوز الانسداد السياسي الداخلي، ولا على تفادي الجحيم الجواري، فما الذي يبقى أمامهم في هذه الحقبة الضبابية التي تسود فيها الفوضى؟ أياً تكن الخيارات والسيناريوات لا شك في أن النتائج ستكون كارثية على المستويات كافة، إذ نشهد انفجار المشرق العربي بشكل أشدّ عنفاً مما عرفناه، ولن يكون لبنان بمنأى عنه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق