الجمعة، 17 يناير 2014

صناعـة القداسة / د. صلاح صالح



سردت (خريف البطريرك) جنرالاً مبثوثاً في سلسلة عجيبة من الجنرالات العصيّين على الانقراض في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية،  
وكانت والدة الجنرال تعمل في تزوير الطيور البيضاء، إذ كانت تصبغ الطائر الأبيض بأصبغة زاهية، منتقاة بعناية ليتخذ منظر طائر ملوّن يشتريه السائحون الغربيون بوصفه طائراً استوائيّاً نادراً. وبعد موت الوالدة حاول الجنرال التماسَ مؤسسة الفاتيكان لـ(تطويب) والدته قدّيسة بصورة رسمية، ولكن المؤسسة الدينية العريقة لم تستجب للطلب كيفما اتفق، بل أرسلت أحد المتمرسين بالتحري الدقيق عن تفاصيل الحياة التي عاشتها المرشّحة لمنصب التقديس، وتنتهي المسألة عندما يختفي المرسل الفاتيكاني بتدبير غامض من الجنرال الذي ساءه النبش الفعلي في ماضي والدته، مثلما ساءه التلكّؤ في قبول طلبه. وفي رواية (الوتر والظل) لأليخو كاربنتيه رصدٌ آسر لمساعي بعض المسؤولين الكبار في الفاتيكان لتطويب (كريستوبال كولون) البحار الإيطالي المعروف باسم كريستوف كولومبوس قدّيساً، بوصفه مكتشفاً للقارة الأمريكية، وبوصف اكتشافه سبباً لنشر كلمة الرب في تلك الأصقاع الهائلة. وخلال التنقيب والتحري الدقيق في سيرة البحار المغامر يكشف النقاب عن كمية مريعة من المخازي والموبقات التي يصل بعضها إلى حد جرائم الإبادة بحق السكان الأصليين، مروراً بمخالفة الوصايا العشر جميعها، إذ سرق، وقتل، ومارس البغاء، وأنجب الأطفال غير الشرعيين، وباع الأسرى الذين قهرهم وسرقهم من أرضهم الأمريكية عبيداً في أسواق إشبيلية. والمهمّ أن مؤسسة الفاتيكان ترفض تطويب كولومبوس قديساً، رغم إلحاح بعض ذوي النفوذ، واستمرار الطلب قيد التداول والبحث سنوات طويلة.
أبرز ما يخطر لذهن قارئ (الوتر والظل) مقارنة خاطفة بين المنهجية الدقيقة التي تعتمدها مؤسسة الفاتيكان في سياق ما يُدعى بـ(تطويب القديسين) وبين ما يحدث في منطقتنا العربية من موازيات تضع أميين وأشباه بهائم، وسفاحين في مواضع خطرة محاطة بأشكال شتى من التبجيل الجمعي والتعظيم الذي يمكن أن يجعل معتوهاً (ما) بمنزلة الوليّ الصالح. لا تعني هذه المقارنة الخاطفة انحيازاً لمصلحة الفاتيكان مقابل مؤسساتنا الدينية التي تحظى بعراقتها الجليلة كمؤسسة الأزهر الشريف (تمثيلاً لا حصراً) ولا تعني أن جميع من حظي بلقب القديس داخل إطار الفاتيكان يستحق ذلك اللقب بالضرورة، ولا تعني المقارنة استلاباً، أو قبولاً أعمى بما يصدر عن تلك المؤسسة، فالأساس في هذه الإثارة أمران: يتعلق الأول بامتداح المنهجية المعتمدة في الدراسة والتمحيص، خلافاً لافتقاد مثل هذه المنهجية في موازياتها العربية خصوصاً، والإسلامية عموماً.
ويتعلق الثاني بتقريظ ترجمة رواية (الوتر والظل) التي ترجمها الأستاذ علي الأشقر بدقّته المعهودة، واختياراته الذكية من المكتوب بالإسبانية على امتداد العالم الناطق بتلك اللغة. واللافت في الرواية أنها تتناول خطين رئيسين في زمنين متباعدين بمئات الأعوام، خطّ الذين تبنّوا تطويب كولومبس قديساً، والخط الآخر المستقى من أشتات السيرة الشخصية التي دوّن كولومبوس بعضها على شكل يوميات، ومذكّرات، قبل وفاته في (بلد الوليد) بعد أن صارت مدينة إسبانية، ولا تخفي تلك السيرة المسرودة بأسلوب الكاتب معرفة كولومبوس بوجود من سبقه إلى تلك الأصقاع الهائلة التي ظنها جزءاً من شرقي الهند، وجوارها الصيني الذي تأسْطر على أيدي (ماركو بولو)، ومن الملامح الجميلة في الرواية أن السرد لم يتخذ صيغة الاعترافات الفاضحة، رغم أنه تضمنها، والجميل أيضاً ما تزخر به الرواية من معلومات ومعارف دقيقة، متعوب على تجميعها، وتحرّيها، أدّت في نهاية المطاف إلى الإسهام في تحطيم ما يُدعى بـ(المركزية الأوروبية) التي دأبت على إخفاء مخازي أبنائها، والتستر عليها، ودأبت على جعْل مجرميها، وأفّاقيها، والمنتمين إلى الدرك الأسفل من قاعها الاجتماعي والأخلاقي أبطالاً أفذاذاً، تدين لهم البشرية القائمة حاليّاً بأنها لا تزال على قيد الوجود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق