الأحد، 5 يناير 2014

المشرق بين أحلام النخب وواقع الجماعات / غازي دحمان




ما بين أحلام النخب وواقع الشرق، فضاء تملأه ثقافات مختلفة وحساسيات متنوعة. ففي حين تبدو أحلام النخب هنا مثل كتل هوائية سريعة الهبوب والرحيل، فإن الواقع الاجتماعي يبدو مثل كتل صخرية، ثابتة وراسخة، لدرجة أن رؤية التغييرات الطفيفة على هذه الكتلة تستلزم جيلاً أو أكثر.
لا يشكو لبنان من نقص في فقهاء الدستور، ولا نخبه ثقافية حداثية وعصرية، بل أنه يغص بما يكفي منها، ورغم ذلك لم يستطع لبنان، الذي دخل دائرة الحرب اللعينة عام 1975 الخروج من هذه اللعنة. كل ما أنجزه لبنان بعد ذلك هو صناعته الهدنة، ولم يستطع تالياً الولوج إلى لبنان الذي من المفترض أن يكون صورة لنخبته الفريدة.
على الخطى ذاتها سار العراق، وما زال، حيث توسعت الأحلام ذات يوم لتشمل عراقاً تسوده العدالة وتعم الرفاهية جميع مكوناته. وكانت النخب العلمانية هي صانعة هذا الحلم، لكن العراق تحول ذات يوم إلى كابوس، لا يلامس بأي شكل المشهد الذي تصوره حالموا الأمس.
وعلى الخطى ذاتها أيضاً تسير سوريا. الفارق الهائل بين أحلام نخب الثورة وواقعها اليوم يحكي الحكايتين اللبنانية والعراقية ذاتهما، فقد بدأت القصة بثورة جميلة تتحدى قيود عقود من الاستبداد وانتهت إلى شكل من أشكال الفوضى المؤلمة والمدمرة لكل شيء.
الصورة ما زالت مظللة ولا تزال مشاهد الموت والقتل تجثم على عقولنا ووجداننا، وتصنع استجاباتنا، وتبلور ردات فعلنا، ويزيد من انفعالنا ذلك التكالب المريع على حياة شعب أعزل. الصورة تلفح الوجدان وتزيد حدة الغرق في مستنقع الوجدان، بحيث تجعل من الصعب رؤية ما عداها من الصور الأخرى.
لكن من يملك القدرة على الانسلاخ عن الحدث وإفرازاته، ويعيد قراءته بتأنٍ، سيكتشف تلك اللوحة أو جزء منها، التي صنعت الحدث وكونته وتحكمت بمساراته ومآلاته، لوحة منفرة ربما ترفض نوستالجيتنا الاقتراب منها مخافة جرح نرجسيتنا، وربما كي لا تخدش مظلوميتنا، وتتهاوى رواياتنا عن الحدث.
في تلك اللوحة سيظهر كم أن الثورة كان ينقصها عمل دراسة للجدوى (هل الثورات كما المشاريع تحتاج لدراسة جدوى؟)، حول مطالبها، بمعنى دراسة قدراتها وما يمكن أن تتيحه تلك القدرات من إنجازات، وحجم التكلفة اللازم لتحقيق تلك المطالب؟
حسناً، الثورة انطلقت بشكل عفوي، ولم يتسنَ تالياً إجراء أي حسابات من أي نوع، كما أن الثورة جاءت في مناخ "الربيع العربي"، الذي انطلق قبل ذلك بثلاثة أشهر، وهي مدة زمنية غير كافية لإجراء ترتيبات ما، في ظل نظام شمولي يسيطر على كل مفاصل الحياة، ويتابع كل صغيرة وكبيرة.
هذه الذريعة لا تصمد أمام الواقع، وحتماً سترفضها المحاكمة العقلية المستقبلية للحدث، لأن سوريا كانت تنطوي على مجتمع سياسي اجتهد على توطين حركة سياسية اعتراضية مديدة، حركياً وأيديولوجياً، تبدأ من قبل حكم حافظ الأسد وتتخلله. كانت سلمية في مراحلها العريضة، وتخللها نوع من الاعتراض المسلح، أحداث حماة عام 1982 مثلا، واستمرت هذه الحركة الاحتجاجية حتى الأيام الأولى من الثورة، حتى يمكن القول أن هذه وليدة تلك. ولم يكن ممكناً أن تظهر الحركة الثورية، بطابعها العلماني والحداثي، ومطالبها العصرية، لو لم تكن قد استفادت من التراث الفكري، الذي أسسته حركة إحياء اللجان المدنية على سبيل المثال، وهي آخر طبعات الاعتراض السوري، أو أكثرها معاصرة.
والسؤال الملح هنا، لماذا لم يتم تجذير هذه الحركة وتفعيلها أيديولوجيا وحركياً، ولماذا لم يتم ضبط فعاليات الثورة شكلاً ومضموناً. ظلت الثورة مدة ستة شهور ولم يظهر خلالها أي طيف لتنظيم سياسي يدل على وجود خبرة سياسية تحركها، كما لم يظهر أي أثر للقوى المذكورة في فعاليات الثورة. ألسنا نتكلم اليوم عن أن النظام فرض العسكرة على الثورة، لماذا لم يحدث العكس وتفرض الثورة سلميتها على النظام، لماذا تصرفت الثورة بردة فعل وفقدت المبادرة، في حين كان المفترض دفع النظام إلى هذا النمط من السلوك؟
المشهد الثاني من اللوحة، الذي سيتكشف، هو قدرة الثورة على التمدد خارج النوى الأولى التي انطلقت منها، إذ ثمة وهم نامت عليه الثورة وهو افتراضها أن كل البنى والتشكيلات والمكونات لديها قابلية للتثوير والانخراط بالثورة متى انطلقت هذه، من دون اعتبار لحقائق مترسخة على مدار عقود، وهي أن النظام عمل على اختراق مختلف تلك البنى، سواء عبر ربطها بمصالحه أو عبر إقناعها بوحدة المصير. والسؤال، لماذا لم تفلح الثورة بتفكيك تلك التحالفات، ولا حتى مجرد محاولة. ولكن ربما السؤال الأهم، لماذا كل هذا التناقض تجاه حدث وطني بهذا الحجم؟ وهل إذا انتصرت الثورة سيعد ذلك إنجازاً وطنياً ام حدثاً مؤسساً لحرب أهلية طويلة تماما كما هي نتيجة احتمال انتصار النظام؟
هل يجيب تفكيك عناصر المشهدين عن السؤال حول افتراق رؤى وتطلعات النخب عن مصائر ومآلات وقائع المشرق؟ ربما يتوجب علينا، لجلاء الصورة أكثر، طرح السؤال التالي والإجابة عليه بتجرد وواقعية، لماذا لا ينجح عندنا في الشرق من الفعاليات سوى الحروب الأهلية، فهي وحدها التي استطاعت أن تكون علامات فارقة في تاريخ إجماعنا، في حين ان نشاطنا السياسي الآخر من تشكيل أحزاب وحركات مدنية لم يكن سوى نوع من الترف الآني غير المؤثر ولا الفاعل؟ أو هو فقط الهامش المسموح به للنخب وقت سلم الجماعات وهدوئها.
الجواب عن هذا السؤال هو أننا، في المشرق، لا نعدو كوننا جماعات ما قبل الحداثة، لم نستطع هضم الحداثة وإن تعاملنا ببعض منتجاتها، والدليل أننا صنعنا أنظمة تشابهنا في التخلف والانغلاق. حتى ثوراتنا، وفي أحسن أحوالها أنتجت نظماً دينية عصابية.
خاتمة القول أن الأحداث الكبرى في المشرق، من لبنان إلى العراق وسوريا، إنتهت بنتيجتين متشابهتين:
الأولى: إغتراب المثقف، وتحوله إلى اللامبالاة، بعد انكشاف ضحالة تأثيره وفاعليته في مجتمه.
الثانية: الإفتراق النهائي بين المكونات الوطنية، وتحديد تخوم التواصل عبر حصرها بالمحاصصة على جثة الأوطان.
هاتان النتيجتان هما الأبرز والأكثر وضوحاً في أحداث المشرق الكبرى، وما دونهما ويليهما مجرد محطات للاستراحة والاستعداد للجولة المقبلة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق