السبت، 10 يناير 2015

مصر بين الأمس واليوم.. وداعاً للطبقة الوسطى / طارق البشري


(1)
استعير هذا العنوان من عنوان لكتاب لرمزي زكي، أصدره منذ أكثر من خمس عشرة سنة، وهو كتاب مع كتابَين آخرين له يعتبر موضوعهم من أهم ما يتلاءم مع وضعنا الحاضر على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة، والكتابان الآخران هما «الليبرالية المستبدة» و «الليبرالية المتوحشة» أصدرهما في تسعينيات القرن العشرين.



والطبقة الوسطى التي هتف بتوديعها الكاتب الجليل، ذكر أنه يعني بها مختلف الشرائح الاجتماعية التي تعيش أساساً من الرواتب المكتسبة في الحكومة والقطاع العام وفي الخدمات والمهن الحرة، حتى وإن كان يمتلك بعضهم دخلاً إضافياً من عقار أو من عمل آخر لديه. وتتكون هذه الطبقة في نظره من شريحة عليا تضم علماء وباحثين وأساتذة جامعات وأصحاب مهن متميزة في الطب والهندسة والقانون والفن والجيش والشرطة، والشريحة الوسطى منها تتكون من أعداد أكبر من السابقين في الوظائف والأعمال الفنية والإدارية والإشرافية، مثل المدرسين وذوي الوظائف في المؤسسات المختلفة. والشريحة الدنيا تضم أعدادا كبيرة من صغار الموظفين وغيرهم ممن يعمل في الوظائف الكتابية والبيروقراطية.. هذه الشرائح متداخلة وليس بين بعضها البعض فواصل حادة واضحة.
هذه الشرائـح الاجتماعية من ذوي المهن المختلفة ومن ذوي الحرف كلها وما ينبثق منها جميعاً من ذوي الثقافة والفكر، ممن يعتمدون أساساً في حياتهم على ما يحصلون عليه من عرق عملهم المهني والحرفي، هم من ألقي على عاتقهم تغيير وجه مصر على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين. وهم من قادت طلائعهم ثورات مصر وقادوا ما عرفت من حركات نهوض اقتصادي واجتماعي وعلمي وثقافي عبر هذه الأزمنة، ومنهم انبثقت الأبحاث والدراسات والمناهج والبرامج التي حددت تطور مصر في العصر الحديث. ومنهم ومن طلائعهم من قاد ثورات مصر منذ تكونت هذه الشرائح الاجتماعية الحديثة في عهد محمد علي منذ ثورة عرابي، مروراً بثورة 1919، ثم «ثورة 23 يوليو» 1952.
ولكي نعرف وضع مصر الآن بعد «ثورة 25 يناير» 2011، يتعين أن نعرف ماذا حدث لهذه الشرائح الاجتماعية، وعلى وجه الخصوص الشريحة العليا منها وما تتداخل معه من شريحة وسطى بالتقسيم والتعريف الذي ذكره الدكتور رمزي، وهو التعريف الذي يتعين أن يعتمد في هذا الحديث.
ولكي تتضح لنا الصورة، ويتضح لنا سبب ما أدى بنا إلى الوهن الحاضر، الذي كشفت عنه سلبيات المجتمع المصري بوضوح بعد «ثورة 25 يناير» 2011. يستحسن أن نسوق مثلاً من تاريخ مصر طالما ذكره المؤرخون ورتبوا عليه النتائج على نحو ما سنرى، وهو يتعلق بما فعله السلطان سليم الأول، سلطان الدولة العثمانية، عندما غزا مصر في سنة 1517.
(2)
خصّ إبن إياس الجزء الخامس من كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لوصف دخول السلطان العثماني سليم الأول مصر، بعد هزيمة المماليك في موقعة مرج دابق بالشام ثم واقعة الريدانية. وكان ابن إياس يطلق على المماليك الذين جاؤوا أساساً من أواسط آسيا، اسم «الأتراك»، ويطلق على العثمانيين الذين جاؤوا مصر فاتحين من الأناضول والآستانة (القسطنطينية سابقاً) اسم «الروم»، بما يميز الأولين بكونهم من أصل الشرق والآخرين بكونهم من أصل الغرب، برغم وحدة أصلهم الجغرافي السابق، وقد دخل السلطان سليم القاهرة من باب النصر في 3 محرم سنة 923 هجرية (26 كانون الثاني سنة 1517)، ومكث فيها ثمانية أشهر كاملة، ألحق بها مصر بالدولة العثمانية بعدما كانت عاصمة لدولة تمتد من الشام شمالاً إلى حدود اليمن جنوباً.
وما يهمني في هذا الحديث هو ما ذكـره ابن اياس مـن أن السلطـان سليم لم يلحق مصر فقط بدولته ويقضي على دولتها، ولكنه قضى على التشكل الحضاري الذي كانت تمثله في العلوم والفنون والصنائع، حتى أن رجاله خلعوا الرخام من مباني قصور القلعة وعواميد الأواوين. حتى «خيمة المولد» التي كانت حديث الناس في فخامتها بقاعتها الكبرى وأواوينها الأربعة وقبتها الشامخة، «لم يعمل مثلها أبداً» كما يصفها ابن اياس. وكذلك جمع العملات ذات الوزن الكبير من الذهب والفضة، فاستبدل بها أوزاناً خفيفة بما يقصد به إضعاف الاقتصاد. وكل ذلك عاد به إلى الأستانة عاصمة ملكه.
الأهم من ذلك كله ما فعله في النخب الثقافية والفنية والمهنية والإدارية والحرفية، أي ما نسميه «الطبقة الوسطى»، وهي كانت ما أوصل مصر إلى مستواها الحضاري بحسبانها دولة كبرى بمعايير ذلك العصر. يقول ابن اياس أن العثمانيين «شرعوا يطلبون أعيان الناس من القضاة والشهود والمباشرين والتجار وأعيان تجار المغاربة وتجار الوراقين وتجار الشرب والباسطية وجماعة البردوارية والرسل وطائفة من السوقة في المصانع وطائفة من البنائين والنجارين والمرخمين والمبلطين والحدادين وغير ذلك من المعلمين، حتى طلبوا جماعة من اليهود، وعينوا منهم جماعة يسافرون إلى اسطنبول فكتبوا أسماءهم في قوائم وألزموا كل واحد منهم أن يحضر له بضامن يضمنه» (ص 178 – 179) «ثم استدرجوا لأخذ الكتب النفيسة التي في المدرسة المحمودية والمؤيدية... وغيرها» (ص 179).
وقد وصف رحيل هؤلاء يوماً بيوم، فيذكر ما كان من ترحيل لبنائين ومهندسين ونجارين وحجارين وحدادين ومدهنين ومبلطين، و «منهم مسلمون ونصارى وحتى طائفة من الفعلة»، ومنهم «قضاة على مذاهب الشافعية والمالكية والحنفية والحنابلة، وكذلك تجار الباسطة وخان الخليلي»، ويذكر، «وكانت هذه الواقعة من أبشع الوقائع المنكرة التي لم يقع لأهل مصر قط مثلها في ما تقدم من الزمان» (ص 152 – 183).
كما جرى ترحيل الخليفة أمير المؤمنين الذي كان مقيماً بمصر ويمنح ولاية السلطة شرعاً لسلاطين المماليك بحسبان مصر عاصمة لدولة الخلافة، وبهذا انقطعت الخلافة من مصر ونقلت إلى اسطنبول. «ومن حين فتح عمرو بن العاص مصر لم يقع لأهلها شدة أعظم من هذه الشدة» (ص 183).
وقد شمل الترحيل ناظر الجيش وموقع الدرج، أي قادة الجيش والشرطة، كما شمل قاضي القضاة ومستوفي ديوان الجيش وكاتب الخزانة وأمثالهم من كبار رجال الدولة (ص 187) وكذلك «بعض النصارى من كتاب الخزانة» (ص 188). ويذكر المؤرخ أن عدد من خرج من أهل مصر يبلغ ما يقرب من الف وثمانمئة، وأنه برحيل هؤلاء من القاهرة»، حصل لأهلها الضرر الشامل وبطل منها نحو خمسين صنعة تعطلت ولم تعمل.
كما أورد باباً خاصاً أشار فيه إلى ذكر من توجه إلى القسطنطينية من كبار من تولوا مناصب الدولة، ومنهم «أمير المؤمنين وامراء ومحتسبون وأولاد ناس ومعلمون ورجال فقه وقضاء على المذاهب الأربعة ورجال الخزانة وديوان الجيش ونظار للإدارات والمصالح والأوقاف وأعيان الناس والتجار والخدام والبنائين والنجارين والحدادين والمدهنين والمبلطين والمهندسين والحجارين والفعلة وهم آلاف «لم يقاسِ أهل مصر شدة من قديم الزمان أعظم من هذه الشدة ولا سمعت مثلها في التواريخ القديمة» (ص 229 – 232).
(3)
ولنا أن نتصـور ما حـدث لمصر وقتها وفي ما تلى ذلك من مراحل التاريخ، ما حدث من انهيار حضاري واقتصادي يشمل الانتاج والادارة والدولة والفنون والمهن والحرف. فهي لم تعد حاضرة دولة ذات مركز جاذب كما كانت في العهد الذي ولىّ. كما أنها بالاستيـلاء على مجمـل النخب المشار إليها، لم تعد مركز الاشعاع الثقافي والمهني والحرفي بما كان يجتمع لها من ذوي العلوم والفنون والمهارات.
ولنا أن نتصور كيف كانت ستكون مصر لو بقي فيها هؤلاء المشار إليهم آنفاً، بما يجعلها مركزاً حضارياً جاذباً ويعمل له كل الحساب، حتى أن فقدت مكانها كعاصمة للدولة، ومما يجعلها دائماً في مجال المنافسة للمركز الآخر المستجد. كما لنا أن نتصور ما كانت عليه اسطنبول قبل أن تفد إليها هذه النخب، برغم أنها كانت عاصمة عريقة في الحضارة الغربية منذ قيام الامبراطورية الرومانية الشرقية. ولكن ما استطاع أن يكسبها ما بلغها من طابع شرقي، هو هذا الوافد إليها من خبرات ومهن وحضارات، أتى بها السلطان سليم من فتحه مصر والشام أيضاً.

(4)
إذا كان مؤرخنا الكبير عبد العزيز محمد الشناوي في دفاعه النبيل عن الدولة العثمانية في كتابه المتعدد الأجزاء «الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها»، إذا كان قد أورد فيه أن علماء مصر وفنانيها ومثقفيها الذين أجبروا على تركها إلى اسطنبول مع السلطان سليم قد بدأوا يعودون إلى مصر بعد تولي السلطان سليمان الحكم هناك في سنة 1520، وأن ابن اياس ذكر أخباراً عن عودة هؤلاء في الجزء الخامس من كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لوصف دخول السلطان العثماني سليم الأول مصر، فإنه مع مراجعة هذا الأمر ومع صحة ما ذكره مؤرخنا، فإن أعداد العائدين لم تكن بالحجم الذي كان خرج منها (صفحات من 390 إلى 461)، وأن هؤلاء العائدين لم يعودوا إلى أعمالهم التي كانوا عليها بعدما ألغيت وظائفهم ودمرت صناعاتهم وتجاراتهم ومراكز نشاطهم المهنية، وأن العودة للبعض لم تُفض تلقائياً إلى وصل ما انقطع من سياق اقتصادي وثقافي وحضاري ومهني وحرفي سابق. وهي تكشف أن هؤلاء العائدين بعدما فقدتهم مصر كمستوى حضاري، لم تكسبها عودتهم استعادة ما سبق فقده. ونحن هنا لا نتكلم عن الذهاب الجبري لهم ولا عن البقاء الجبري أو الاختياري لهم بالخارج، بل نتكلم عن فقد الأداء الوظيفي ودلالته وأثره الحضاري بصرف النظر عن مدى الجبر والاختيار فيه. ونحن هنا لا نتكلم عن الدولة العثمانية ولا نزن محاسنها وسيئاتها، ولكننا نتكلم عن مصر وما ألمّ بها بسبب هذا العامل من التهجير والبقاء هناك، جبراً كان أو اختياراً.
والمهم في مطالعة سريعة الإلمام بالواقع التاريخي، فإن مصر لم تستطع أن تنشئ لها قوة نخبوية حضارية بديلة بما يجعلها صنواً لاسطنبول أو غيرها من العواصم المهمة، لم تستطع ذلك بعد هذا التاريخ السحيق إلا في بدايات القرن التاسع عشر مع حكومة محمد علي لمصر التي تولاها وبدأ يشكل فيها هذه الاستقلالية النخبوية الحضارية، والتي كان لها من بعد فضل النهضة بمصر على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، برغم الصعوبات الهائلة التي مرت بها، وخصوصاً بالاستعمار البريطاني لها سنة 1882، والأطماع التي عانت منها قبل ذلك أيضاً منذ 1840 وحتى الآن. بمعنى أن مصر انتظرت نحو ثلاثمئة سنة حتى واتتها فرصة النهوض الحضاري بعد تلك النكبة القديمة.
(5)
على أي حال، فأنا لا أذكر هذا التاريخ البعيد لمجرد التذكير بواقعة تاريخية سابقة. ولكني أقصد بها أن أضرب المثل على الأثر الحضاري الذي تمثله هذه الفئات إيجاباً بتوافرها وسلباً بفقدانها، وأسوق هذا المثل مدخلاً للحديث عن مثيل جرى بمصر ويجري بمثيل له منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين، وهو أمر ملاحظ في وقائعه وكان متوقعاً في آثاره منذ هذا التاريخ من أربعين سنة مضت. وما يثير إعادة الحديث عنه وتجديد هذا الحديث هو ما شعرنا به ونشعر، من ضياع جرى بعد «ثورة 25 يناير» 2011 وحتى الآن، حتى أننا بعد ثورة حقيقية اضطرب بنا الأمر، ولم ندر ماذا نصنع ولم يتقدم أحد بمشروع حضاري متكامل الأركان وطنياً واجتماعياً واقتصادياً، ووقعنا في دوامة صراع مصطنع عجيب عن «دينية الدولة أو مدنيتها»، ولم نجد سياسات نملأ بها طموحنا الوطني الديموقراطي، فغرقنا في الصراع المصطنع.
والحاصل أنه مع انتهاء حرب 1973 بنحو عامين، بدأ الاستعداد لعملية الصلح بين مصر وإسرائيل بقيادة الرئيس الأسبق أنور السادات، وكان ذلك مصحوباً بسياسات خارجية تخرج مصر من عداد دول عدم الانحياز المستقلة وتلقي بها في إطار الهيمنة الأميركية، وكذلك بسياسة تصفية البرامج الاقتصادية والاجتماعية لبناء مصر بناءً مستقلاً غير تابع للهيمنة العالمية، وإعادة التشكل الطبقي القديم لمصر بإعادتها لسيطـرة طبقة جديدة من الأغنياء الطفيليين الذين لا يكوّنون ثرواتهم من الإنتاج، بل من التجارة الخاصة ومناصب الدولة، وتتاح لها فرص السيطرة الاقتصادية على البلاد من خلال المشاريع الخاصة المرتبطة بالخارج.
(6)
ظهرت فكرة هجرة النخب من العاملين في هذا الإطار. ونحن نعتمد في ذكر ما سنذكره على كتابات ظهرت في هذه الحقبة، من عادل حسين رحمه الله ونادر فرجاني وسعد الدين ابراهيم وعبد الباسط عبد المعطي وماهر سليمان النجار، وهي كتابات ظهرت في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وذلك عن سياسة قامت الدولة المصرية بنفسها بتنفيذها وتشجيعها.
وأول ما تظهر به سياسة تهجير النخب كسياسة ترسمها الدولة وتعمل على تنفيذها، هو تصريحات لعبد العزيز حجازي، الذي كان نائباً لرئيس الوزراء ثم رئيساً للوزراء في هذه الفترة، يقول «فالعمالة المصرية قوة تصديرية ضخمة بدأنا نصدرها فعلاً إلى بعض دول أوروبا، ولكن لكي أوجهها كقوة تصدير، لا بد من توسيع قاعدة التعليم والتدريب...» وقال كذلك «لا بد أن يكون هدفنا بالنسبة لتصدير العمالة واضحاً كهدفنا بالنسبة لتصدير القطن والأرز، وأن نكسر الكلام الخاص بقيد الهجرة وعـدم تصدير البشر، لأننا محتاجون لهذه الخبرات. بالعكس، فإن العمالة المصرية ضرورة لشعب ينمو ولا تتوازن إمكانياته مع النمو البشري المرجو (المرجع / عادل حسين: الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية. الجزء الثاني. ص 99 – 100). وقد تضمن دستور 1971 نصاً جعل الهجرة حقاً لكل مواطن هو نص المادة 52 منه، وبدأت المصالح الحكومية تشجع الهجرة بالإعارات والإجازات. وصدرت قرارات جمهورية وقرارات وزارية تنظم هذا «الحق الدستوري»، مع جعل الحق للمهاجر في أن يعود إلى عمله الحكومي السابق خلال سنة من استقالته، وذلك تشجيعاً لهم على الهجرة بضمان إمكان العودة بعد التجريب.
أما عن حجم العمالة المصرية في الخارج، فقد ورد في التعداد الرسمي لمصر لسنة 1976 أنها بلغت 1,425 مليون نسمة، ويذكر عادل حسين أن الرقم ارتفع في سنة 1979 إلى 1,89 مليون نسمة (المرجع السابق ص561) بتشجيع الحكومة للهجرة من القطاع العام بطريق الإعارة، وأن الهجرة ذات طبيعة انتقائية، لأن أصحاب المهارات هم المطلوبون، وأن 90 في المئة كانوا من ذوي الشهادات من الإعدادية إلى الدكتوراه، وأنه في الكويت كانت نسبة ذوي المهن العلمية والفنية سنة 1965 هي 52 في المئة زادت سنة 1975 إلى 60,5 في المئة (ص562، 563).
ويستخدم نادر فرجاني رقم مليوني نسمة للعمالة المصرية في البلاد العربية، وأنها يمكن أن تصل إلى 3 ملايين نسمة، وأنه إذا كان تعداد مصر في سنة 1980 هو 42 مليون نسمة، فإن نسبة هذه العمالة تصل إلى 5 في المئة من السكان أي 10 في المئة من جملة الذكور و15 في المئة من ذكور في سن العمل، وأن الكثيرين منهم ينتمي إلى قمة السلم المهني فضلاً عن سُدسي الأعمال الكتابية (الهجرة إلى النفط، أبعاد الهجرة في البلاد النفطية وأثرها على التنمية في الوطن العربي - د. نادر فرجاني، «مركز دراسات الوحدة العربية» ص 56 – 58). كما يذكر فرجاني أن عدد العمالة في الخارج يؤثر في حالة 15 مليون مصري خلال الفترة من 1974 إلى 1984، أي يؤثر في ثلث عدد سكان مصر في بداية سنة 1985 (تقرير أول عن مسح الهجرة من مصر سنة 1985 د. نارد فرجاني. «المجلس القومي للسكان»).
كان عادل حسين، في ما يبدو لي، أول من لفت النظر إلى هذه الظاهرة في كتابه المهم السابق الاشارة إليه والصادر في أوائل الثمانينيات. وهو يعلق على فتح باب هجرة العمالة المصرية من بلدها فيقول «إن المهارات البشرية هي المحرك الأساسي لتسارع التنمية»، وإن عدد المؤهلين لذلك في بلادنا لا يزيد عن احتياجتنا، وإن ما بدأ «منذ سنة 1974 كان أخطر في آثاره من فتح الباب بلا ضوابط أمام استيراد الاستثمار الاجنبي»، و «إن أخطر من كل ما ذكرنا على المجتمع ككل فتح الباب بلا ضوابط أو ترتيبات لتصدير قوة العمل المصرية للخارج». وهو يعتقد أن ذلك كان مخططاً لوأد التنمية المستقلة في مصر (المرجع السابق ص 99 – 100). ثم يذكر أنه حتى زيادة الأجر للعامل بغير زيادة الإنتاج القومي يعود على سلع ترفيه لا يجدها في بلده، ما يفتك بالنسيج المجتمعي، وأن الهجرة قد أدت إلى أن دخل الفرد لم يعد مربوطاً بزيادة الإنتاج ولا بالتنمية الشاملة لمجتمعه، إنما صار ممكناً بمجرد الحصول على تذكرة سفر وتأشيرة سفر لقطر مجاور (ص566).
(7)
يذكر الدكتور نادر فرجاني أنه يتعين النظر إلى «العلاقة بين ظاهرة الهجرة من مصر للعمل بالبلدان العربية النفطية خلال السبعينيات، وبين الانقلاب الذي أطاح بالتشكيلة المجتمعية التي كانت قائمة في مصر عند نهاية الستينيات»، وأن الهجرة كانت من أبرز عوامل دعم هذا الانقلاب «وأكثر من هذا أن للهجرة دوراً مهماً في توطيد أسس التبعية الاقتصادية ثم السياسية»، «بدرجة لا تسمح بالفكاك منها» (تقرير أول عن مسح الهجرة من مصر سنة 1985 د. نادر فرجاني، «المجلس القومي للسكان»). ويضيف أن الهجرة أدت إلى تفريغ مصر من طاقة إنتاج «فضلاً عن انفصال مَن كانوا يعملون في الخارج عن شؤون بلدهم وتخلخل مَن هم في الداخل» (ص 59). وهو يشير إلى ظاهرة أخرى نتجت عن ذلك غير فقدان مصر هذه القوة العاملة ذات المهارات الكبيرة، يقول إنها أدت إلى توافر عملة أجنبية لدى المصريين في الخارج ثم لم تدخل مصر بطريق مشروع، وإنما حولت في الخارج عن طريق المستوردين إلى ما سمي وقتها «الاستيراد من دون تحويل عملة»، ما كانت له آثار سلبية جداً على الاقتصاد الإنتاجي في مصر. وقد فتحت هذه الهجرة الباب كذلك لانفصال المصري عن بلده كسبيل لحل مشاكله الخاصة (المرجع السابق ص 61 – 67).
ويذكر سعدالدين ابراهيم في دراسة له بعنوان «مراجعة نقدية لدراسات هجرة العمالة المصرية للخارج»، أن آثار هذه الهجرة لا تقل عن آثار أي من ثورتي 1919 و1952 في الأجلين المتوسط والطويل، وأن حجم من تأثروا بها على مدى 15 سنة تلت سنة 1973 يفوق من تأثروا بكل قوانين الاصلاح الزراعي والتأمينات خلال الخمسينيات والستينيات، وأنه إذا كان بلغ حجمها مليون نسمة من سنة 1975 إلى سنة 1985، يتبدل هؤلاء كل أربع سنوات، فإن ذلك يعني أن عدد المتأثرين بها يبلغ 4 ملايين أسرة تحوي نحو 20 مليون فرد، وقد تأثروا في «أسلوب الحياة وأنماط الاستهلاك والعلاقات الأسرية أثناء وبعد العودة» (ص 1-3). ويضيف أن مصر «تصدّر عمالة على أرقى مستوى للمهارة من أساتذة الجامعات وأطباء ومهندسين وقضاة ومحامين، مروراً بالعمالة الفنية الماهرة والوسطية».
وهو في دراسة أخرى عن «النظام الاجتماعي العربي الجديد، دراسة عن الآثار الاجتماعية للثروة النفطية»، يذكر أن غياب المعارضة في بلاد النفط عن الساحة المصرية أضعفت المعارضة الداخلية، وهذا الغياب جعل هؤلاء يركزون على جمع الثروة بدلاً من إشعال الثورة (ص 147) (والدراسة هي كتاب صادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية» ببيروت).
وفي ظني أن هذا التصور يُظهر ضخامة الأثر الذي ترتب على هذه الهجرة، ولكن مقارنة المؤلف المذكور هذا الأثر بأثر ثورتين مجيدتين وتحريريتين في تاريخ مصر، تفيد كما لو أن المؤلف يرى أن هجرة الخبرات المصرية للخارج هي ظاهرة إيجابية نافعة لهم ولمصر، وهذا نظر لا يصدر الا عن اعتبار تصدير البشر كتصدير القطن والأرز، وأن البشر الحاملين للنهضة والحضارة والإنتاج هم من سلع التصدير، كما ذكر ذلك من قبل رئيس وزراء مصر عبدالعزيز حجازي. وهذا نظر لا يراعي حتى الناحية الاقتصادية البالغة الأهمية والظهور، وهي أن القطن والأرز سلعتان ينتجهما البشر، وأن البشر هم العاملون المنتجون، وبغير البشر لن تنتج سلع ولا غيرها ولن يكون ثمة قطن ولا أرز، والبشر هم السبب المنتج والسلعة المادية هي النتيجة، وبغير السبب لن يكون المسبَّب.
ويذكر إبراهيم في هذه الدراسة الأخيرة أن تصدير العمالة المصرية واجتذاب رؤوس الأموال من الخارج صار «جزءاً» لا يتجزأ من سياسة جديدة نشأت ونمت لتعالج أمراض الاقتصاد المصري»، ونظر إلى الفائض السكاني باعتباره من سلبيات الأوضاع المصرية ويؤدي إلى فائض عمالة وانخفاض المدخرات (ص 111). لكنه يلاحظ بحق أن معظم المهاجرين من مصر إلى البلاد العربية لا يبحثون عن عمل لأن لديهم أعمالهم، ولكنهم يبحثون عن زيادة المرتبات والأجور (ص 135)، بما يعني أنهم يسببون نقصاً في العمالة العاملة والمنتجة في مصر، وأن أعمالهم في مصر تفتقد جهودهم بها. ويذكر أن العمالة المهاجرة اعتادت بالدخل المرتفع في عملهم بالخارج على أنماط استهلاك غير متوافرة في بلدهم، واعتادت بذلك على حجم دخل لا يستطيع به المهاجر أن يتكيّف مع أوضاع بلده عند العودة إليها، فتدهورت أخلاقيات العمل وتغيّرت المستويات الثقافية والتقليدية (ص 168).
وفي دراسة ميدانية لعبدالباسط عبدالمعطي عن خمسين حالة عمالة مصرية في الخليج، ذكر أن 98 في المئة من العينة تحول مدخراتها لمصر عن طريق السوق السوداء، فانتعشت بهذا التحويل تجارة الاستيراد إلى مصر من دون تحويل عملة من الداخل، وصارت مصدراً لتوظيف العملة للبنوك الأجنبية، وأفادت ما أسماه «الرأسمالية الطفيلية» غير المنتجة (كتاب في بنية المجتمع المصري سوسيولوجية ص 198-199). ولا شك في أن ذلك كان مما يضعف الخطط الاقتصادية للنهوض والانتاج التي كانت تتبعها الدولة المصرية من قبل، أو يقوّض من نتائج هذه الخطط.
ويلاحظ باقر سليمان النجار في كتابه «حلم الهجرة للثروة، والهجرة والعمالة المهاجرة في الخليج العربي. مركز دراسات الوحدة العربية» أنه «إذا قدر للمصريين أن يذهبوا (أي يتركوا الخليج)، لأغلقت الكثير من المرافق المدرسية أبوابها». وهذا يوضح حجم العمالة المهاجرة من المدرسين المصريين، بمراعاة أن الهجرة كانت من نصيب الأكثر مهارة وكفاءة منهم، سواء في المدارس أو الجامعات. ويذكر المؤلف أن الدخل الذي يكسبه أستاذ الجامعة المعار في ست سنوات، يساوي ضعف ما يتقاضاه في بلده خلال ثلاثين سنة (ص 39-43)، وأن الهجرة بالنسبة للدول المصدرة أدت إلى الاستقرار السياسي بها لهجرة المعارضين والساخطين، ولتهجير المشكل الاقتصادي للبطالة.
(8)
يكاد يتفق الكثيرون على أن ظاهرة العمالة في الخارج أفرغت البلاد المصدرة للعمالة الماهرة من قوى التغيير والنهوض والارتقاء، وأنها ظاهرة واكبت الدخول بالبلاد أو العودة بها إلى سياسات التبعية والإلحاق بالدول الخارجية الكبرى، والقضاء على مقومات النهوض الذاتي والاستقلال الاقتصادي. كما أنها أدت بجملة هذه المهارات من المواطنين إلى فك ارتباط كل فرد منهم بمصير جماعته الوطنية، فزادت الفردية بين المتعلمين والمهرة، وأفقدتهم إحساسهم بالانتماء إلى الجماعة، وبأن مصير كل منهم ومستقبله ونوع حياته مرتبط بمصير الجماعة من خلال النهوض الشامل، فانهار الجانب «الرسالي» في العمل المهني والأداء الوظيفي، وهو الجانب الذي يشكل المعنى القيمي والمثالي لأداء الانسـان في عمله، ومن دونه لا يُرجى بناء للجماعة وتنمية في عمومها، وانهار الأداء الوظيفي المجتمعي لحساب الخلاص الفردي ولو على حساب من يشاركون في الجماعة ذاتها.
وهذا الذي جرى، إن نظرنا إليه من حيث المصلحة العامة طويل المدى، نجد أنه كان عنصراً مهماً من عناصر تحطيم مشروع نهضوي استقلالي كان يشكل المطمع العام للمصريين، وتعمل له نخبهم الثقافية والمهنية والحرفية عبر سني القرن العشرين بثوراته ونهضاته. وجرى تحطيم هذا المشروع والكثير الذي أنجز منه وتراكم عبر عشرات السنين حتى سبعينيات القرن العشرين، مقابل ما يتمتع به أفراد العاملين المصريين في الخارج من ارتفاع في دخولهم الشخصية وإذا نظرنا على هذا المدى الطويل ذاته، نلحظ أن استفادة أفراد العاملين في الخارج لم تحقق لهم أكثر مما كانوا يحصلون عليه في بلدهم بزيادة إنتاجه من جهة، وبضغوطهم السياسية على القوى السياسية والحكومة في بلدهم مصر، فإن ما انكفل للنخب المهاجرة من عملهم في الخارج لم يؤد إلى نفع لم يكن متحققاً لهم في بلدهم. ومثال ذلك أن المهني صاحب الأجر المحدود يحتاج إلى مسكن ينشئ فيه أسرته الصغيرة، وكان إن عجز عن الحصول عليه لارتفاع الأسعار برغم مستوى دخل أمثاله، يرتبط مع غيره بحراك اجتماعي لخفض إيجارات المساكن أو لرفع الأجور، وكان يتحقق له ذلك على مدى عشرات السنين السابقة. وهو الآن بعد أن جرى ما جرى، لا يستطيع أن يحصل على هذا المسكن ذاته الا بهجرة سنين، ليوفر منها ما كان يحصل عليه في بلده من قبل، سواء لنفسه أو لابنه عندما يصل إلى سن الزواج وتكوين الأسر. وكذلك بالنسبة للتعليم الذي كان مجانياً أو شبه مجاني، يوفر له أرقى المستويات التعليمية سواء في المدارس أو الجامعات، بفضل كفاحه في بلده وتوافر الخبرات العلمية ذات المستويات الرفيعة. وهو الآن لا يستطيع أن يكفل لأولاده المستوى التعليمي ذاته، إلا من يعمل في الخارج يوفر لأبنائه التعليم الخارجي، أو ما يتوافر لهم في مصر من تعليم خارجي أيضاً باهظ التكلفة.
هكذا ألحقت مصر وسياساتها الداخلية بالخارج وصارت جزءاً منه ولا تملك لنفسها قراراً مستقلاً عنه ولا وضعاً ذاتياً فيه، وهي متجرّدة من نخبتها الماهرة التي كانت تمكّنها من النهوض بهذه الذاتية.
(9)
إن هذا الذي يعتبر انهياراً أو تدهوراً فيما نسمّيه النخب أو الشرائح العليا والمتوسطة في الطبقة الوسطى، هو ما سهّل على نظام حسني مبارك أن يفكك الدولة وأجهزتها التنفيذية، مما كان سيواجه مقاومة من هذه الفئات المهنية في الدولة وأجهزتها، لو كانت هذه النخب بقيت في قوتها السابقة وتماسكها القديم، بدليل أن هذا الجهاز بما يحوي من نخب مهنية، واجه وعاصر ثورات سابقة وأعاصير سياسية عديدة، ولكن بقيت له قوة تماسك عبر السنين والثورات والمراحل التاريخية، وكان يزداد مع الوقت تماسكاً وقوة. وبدليل أنه في ظل السنوات العشر الأولى لحكم مبارك، ظلت له قدرة على المقاومة والتماسك حتى في مواجهة السياسات التي تتخذ، ثم بدأت عوامل التفكك تظهر مع التسعينيات من القرن العشرين مع ضعف مقاومته لعمليات التفكك، ثم انهار وفقد المقاومة تماماً مع نهايات التسعينيات. ولا شك في أن الأثر البعيد المدى لهجرة العمالة المصرية الماهرة كان من أهم عناصر فقدان هذه المقاومة.
خلاصة هذه النقطة أن حسني مبارك خلال التسعينيات، بعدما استقرّ تماماً مركزه في الدولة، وضمن عدم وجود أنداد له في القوات المسلحة، وأمسك بنواحي الأجهزة السيادية، وعرف تماماً ما يمكن من السيطرة عن طريق مجموعة من رجال ارتبطوا به واستوثق من علاقاته مع الولايات المتحدة بعد حرب العراق في الكويت، أعمل معاول الهدم في جهاز الدولة ضماناً للتخلص من آثار السياسات الاستقلالية السابقة، واتباعاً لسياسة إلحاق مصر ذاتها بالمجتمع الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة. وكان من وسائله في ذلك إدخال سلسلة من التعديلات في النظم الإدارية لأجهزة الدولة، أفقدت كبار رجالها ما كان لهم من ضمانات وظيفية وقانونية تمكنهم من قدر من الاستقلالية النسبية في الإدارة والتنظيم ورسم السياسات وتوجيهها. ولم يجد مبارك مقاومة تذكر في ما أفقدهم من ضمانات لأنهم كانوا فقدوا هذا الحس الجماعي الذي يربط بعضهم ببعض، ويصلهم بالشعور بقدر من المسؤولية الجماعية إزاء المجتمع. وذلك يرجع في ما يرجع إلى ما سبقت الاشارة إليه، لأن العمل بالخارج واحتمالاته وتجاربه الذاتية قد تحولت به الكثرة من هذه الفئة إلى الفردية في آمالها وطموحاتها، وافتقدت الشعور بالجانب «الرسالي» والجماعي في الأداء الوظيفي، وصار الخارج «محط آمال تحل محل التماسك الداخلي للنهوض أو بالأقل يشاركه.
ويمكن أن نضرب لذلك مثلاً من القضاء المصري والمؤسسة القضائية. فإن جمال عبدالناصر بكل ما كانت لديه من قوة سياسية وسيطرة مؤسسية على أجهزة الحكم، ومن حراك ثوري على نطاق المجتمع كله، لم يقتحم الهيئة القضائية ويعيد تشكيلها بما يناسب التغيرات الثورية العميقة التي كان يتخذها، لم يفعل ذلك الا في حادث واحد في مجلس الدولة في سنة 1954 ضد رئيس المجلس عبدالرزاق السنهوري والذي كان له وجه نشاط سياسي. وكان عبدالناصر اعتاد في نظام حكمه أنه إذا اتصل شأن قضائي بسياساته وأراد له وجه تصرف قضائي محدد، أن يشكل محاكم خاصة من خارج رجال القضاء للنظر في ما يرى من قضايا سياسية ضد خصومه، أو أن يصدر قانوناً بمنع التقاضي في شأن سياسي يهتم به، وذلك من دون أن يتدخل في شأن داخل الهيئة القضائية برجالها ولا أن يُملي على أي متهم أمـراً. وبقي القضاة بتربيتهم ورجالهم وأساليب عملهم على حالهم، ولم يقترب منهم عبدالناصر إلا بعدما ضعفت قوته السياسية بهزيمة سنة 1967 واحتاج في تنفيذ بعض سياساته إلى ساتر من قضاء، فضغط على الهيئة القضائية ليدخلها في تنظيمه السياسي أو ليفرض عليها عناصر من خارجها باسم «القضاء الشعبي»، فوقفت ضد هذا المسعى واستحال عليه تنفيذ مسعاه، برغم أنه فصل نحو مئتي قاض من القضاء ومجلس الدولة. وهذا يوضح كيف كانت قوة المقاومة والتماسك لدى العاملين في جهاز الدولة. ويمكن أن يقارن هذا الوضع القضائي بهذه الدرجة المعتبرة من الحصانة، بما جرى ويحدث الآن بعد أحداث 3 تموز 2013. وهذا يرجع في ما يرجع إلى الظاهرة ذاتها التي سبقت الإشارة إليها.
(10)
هذا عن الآثار التي ساهمت بها الهجرة للخارج في تحقق تفكك أجهزة الدولة، على ما أجراه نظام حسني مبارك خلال السنوات العشرين الأخيرة منه، ولعل هذا التفكك هو ما تيسر به تحقق نجاح «ثورة 25 يناير» سنة 2011 في سرعة إزاحة النخب الحاكمة لحسني مبارك خلال ما لا يبلغ العشرين يوماً من بدايتها. فلم تكن قوة الحركة الثورية من حيث التنظيم والتدبر هي السبب الرئيس أو الوحيد في الإزاحة الحاصلة لقيادة الدولة، إنما شارك في ذلك مبلغ الضعف والوهن الذي كانت عليه أجهزة الدولة ومدى التفكك الذي كانت تعاني منه.
ولا أريد أن أزيد كثيراً في هذا الموضوع، ولا أن أكرّر ما سبق أن كتبته في مناسبات أخرى بعد الثورة عن مدى قواها وما أنتجت من آثار. وحسبي أن أشير إلى رؤوس موضوعات تتعلق بعناصر هذا الوضع وتكشف عن أثر العمالة المهنية والنخب المهنية الماهرة للخارج في سياق أحداث الثورة، وما أصابها من بعد شبوبها من وهن، وأن الإشارة إلى المقارنة بين ثورات مصر الحديثة توضح هذا الأمر.
إن كلاً من هذه الثورات السابقة، كان يسبقها ليس فقط الوضع الشعبي المتفجّر والسخط الشامل الذي ما يلبث أن يتجمّع ليودي بالنظام القائم، وليس فقط التبيان لفساد هذا النظام القائم وعيوبه ومشاكله، بل كانت تصاحب الحراك الثوري نظرة واعية للمشاكل المحدقة وبالأساليب الصحيحة للخروج منها وحلها، وكانت تصاحبها جهود مدروسة لوجوه النهوض والإصلاح التي يتعين تحقيقها بعد الإطاحة بالنظام القائم، وتقدير طيب للأساليب التي يتعين اتباعها لهذا التحقق الإصلاحي. وكاد بعضها أن يكون مشروعات محددة لوجوه التطوير في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية.
ففي ثورة المصريين التي أنتجت حكم محمد علي في سنة 1805، اكتسبت مصر بعدها قدراً من الاستقلال الذاتي عن الدولة العثمانية، وكان واضحاً فيها هذا الهدف، فضلاً عن وضوحها في الإطاحة ببقايا النخبة المملوكية المشاركة في الحكم، وهذا ما صنعه محمد علي في سنة 1811، ثم بدأ تطوير نظامه وإنشاء دولته الإصلاحية من العناصر الأهلية، ببطء تفسره ظروف العصر، ولكن بإصرار ووضوح فكري وتحقق جاد وصحيح.
وفي «ثورة عرابي» سنة 1882، يكفي أن تقرأ برنامج الحزب الوطني الذي ظهر وقتها ونعرف منه بأي دقة متناهية وأي ذكاء وفهم وحرفية عالية كان هؤلاء القوم يفهمون ظروف عصرهم وقواه وقدراتهم الخاصة، وما كانوا يستطيعون بنظر واقعي دقيق لتحقيق ما يصبون إليه من نهضة واستقلالية وإصلاح، في إطار شعارهم الاثير الذي لخّص طموحهم السياسي وهو «مصر للمصريين»، ليربطوا بهذا الشعار مطلب الاستقلال الوطني مع التنظيم الديموقراطي.
وثورة 1919 بهدفيها المحددين عن الاستقلال ضد الاحتلال البريطاني وعن الديموقراطية ضد سيطرة الملك على السلطة، هذه الثورة كان سبقها في سنة 1911 مؤتمر سمي بـ «المؤتمر المصري» خصّ أهم جلساته ومعظمها لرسم برامج النهوض بالمجتمع المصري في جوانبه المختلفة، من اقتصاد وإنشاء للمصارف الوطنية وجمعيات تعاونية وتعلم وسياسات شتى، حتى صار هذا الصنيع من جانبهم يكاد أن يكون برنامجاً جرت به حركات الإصلاح الاجتماعية والاقتصادية لنحو ثلاثين سنة.
وكذلك ثورة سنة 1952، سبقها العديد من الدراسات الاجتماعية والاقتصادية ومنها مشروعات محددة كبرى مثل مشروع الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية الزراعية وتوزيع الأرض الزائدة على صغار الفلاحين، فضلاً عن تطوير الصناعة والتعليم وغير ذلك، وفضلاً عن السعي لإنهاء الاحتلال البريطاني العسكري لمصر، واتخاذ سياسات للتحرر الوطني من نفوذ الدول الكبرى.
فكان الحراك الثوري الفعلي يسبقه حراك فكري لجماعات تشغلهم مشاكل بلادهم ويكرسون حياتهم وجهودهم الخلاقة لإدراك الحلول لها.
وفي الحقيقة، فنحن لا نجد أموراً على هذا المستوى فيما لابَسَ «ثورة 25 يناير» سنة 2011 من أحداث ووقائع سابقة أو لاحقة. لقد اجتمعت القوى السياسية والشعبية على إزالة نظام حكم ظهر فساده ووجبت الإطاحة به، وهذه القوى ذاتها لم يكن الكثير منها على تجمع ذاتي وتبلور وفقاً لأهداف أو برامج سياسية أو اجتماعية سابقة، تجمع حولها تكوينات تنظيمية ذات تشكل مؤسسي، وذلك فيما عدا جماعة «الاخوان المسلمين» التي يغلب على تشكلها النشاط الدعوي لا البناء السياسي، ولم تكن ذات برامج سياسية. ولم يواكب الإجماع الشعبي على إزالة الحكم القائم أو سبقه نقاش وتداول لوجوه الاصلاح العينية الملموسة التي يتعين القيام بها في الوضع الجديد بعد إزاحة النظام القائم، وذلك حتى تمكن محاسبة القائمين على الحكم بعد الثورة على مقدار ما أنجزوه وفقاً لبرامج شائعة التداول، معروفة ومستقرة معرفتها لدى غالب الرأي العام السياسي الفعال.
هناك كتابات ودراسات لا شك في أهميتها الكبيرة ووجوب أن تكون موضع الاهتمام في تشكيل أوضاع البلاد في المستقبل، نراها في الجانب الاقتصادي وجوانب الأبنية الديموقراطية وغيرها، ولكنها بقيت تتداول في نطاق جد محدود من مثقفين، هم أقرب إلى الرهبان الفكريين المتخصصين في البحث العلمي، من دون اتصال سياسي بالرأي العام. وبقيت هذه الدراسات بعيدة عن أن تشغل الرأي العام السياسي، وبعيدة عن التشكيلات الحزبية الضيقة، ومحدودة التأثير في السياسات الجارية. وبقيت بعيدة تماماً عن الإعلام وأجهزة الدولة، وذلك مثل عدد من الكتابات تضمها مشروع «عشرين عشرين»، الذي يشير إلى مستقبل مصر ما يتعين أن يصبر عليه لــ سنة 2020.
(11)
والملاحظ أنه عندما بدأت تتجمع خيوط المعارضة العلنية لنظام حسنى مبارك وتعلن عن نفسها بوضوح وتتابُع في سنة 2005، ما مهد لما حدث بعد سنوات في سنة 2011 وأزال النظام القائم، يلاحظ أنه لم يتضمن الحراك السياسي الحاصل من وقتها أي مطالب سياسية واجتماعية تذكر، بما يتعين أن تكون عليه سياسة البلاد بعد إزالة هذا النظام، اللهم الا أن يكون مطلب تعديل دستور 1971 الذي طولب به وبقي الإصرار عليه، وهو مطلب سليم وصميم طبعاً، باعتبار ما كان يتعين من إدخال تعديلات على الدستور تنهي إمكانات الاستبداد والحكم الفردي.
لكن طرح مطلب تعديل الدستور أو إدخال دستور جديد قبل أن يتم الفعل الثوري ويؤتي نتيجته بالإطاحة بالنظام، وتتحدد به القوى السياسية التي ستحل محله، يكون ضرباً من المحال في ضمان وضع دستور جديد أو تعديل الدستور القائم بما يفيد القوى الثورية. ذلك أن الدستور – تعديلاً أو استبدالاً – هو وثيقة تتحدد بها سلطات الدولة وعلاقتها ببعض، وذلك طبقاً لما هو متحقق في الحياة السياسية من علاقات للقوى السياسية المنظمة المشاركة في الحكم والثورة التي تطيح بالنظام القائم. وقواه السياسية المسيطرة هي ما سيتحدد بها بعد نجاحها – لا قبل ذلك – ماهية القوى الثورية المنظمة التي قامت بالثورة وعلاقات بعضها ببعض، وهذا ما سيقننه الدستور الجديد بعد الثورة – لا قبلها – وفقاً لما أسفرت عنه الأحداث من توازن للقوى في ظل الوضع الجديد الذي نشأ بعد تمام الثورة. فالدستور يوضع بعد الثورة. والحاصل أن هذا المطلب الذي ركزت فيه قوى الثورة مطلبها وحصرته فيه قبل الثورة، قد أفاد نظام حكم حسني مبارك بما أجراه من تعديل للدستور لمصلحته ولمصلحة أولاده في سنة 2005. فلما أصرت القوى الثورية على بقاء مطلبها الوحيد السابق لأوانه بعد ذلك، أجرى تعديلاً آخر في سنة 2007 لمصلحته ولمصلحة بقاء حكمه ولمصلحة توريث حكمه لابنه.
كذلك، فإن هذا الزخم الثوري الحادث لم يطرح على الرأي العام ولم يتبن أي مطالب اقتصادية أو اجتماعية ورؤية محددة لتنظيمات ديموقراطية بشكل مدروس وتفصيلي. لذلك لما سقط نظام حسني مبارك في شباط 2011، صارت الساحة السياسية خالية أو تكاد تخلو من أي أهداف أو برامج يتحاكم الناس بها وإليها في تحديد صورة لبناء مصر بعد الثورة. ولذلك انقسم المجتمع المصري بواسطة نخبه السياسية، وانقسم الاعلام إلى قسمين في قضية صورية، حول هل تصير مصر دينية أم مدنية. وهي صورية بدليل أن الخلاف تركز في حكم المادة الثانية من الدستور، التي تعترف بأن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع.
وبعد خلافات حادة ومستمرة في هذا الشأن عند وضع دستور ما بعد الثورة، بقي النص على حاله في دستور 2012، كما بقي النص على حاله أيضاً في دستور 2014. وذلك ينبئ أن الخلاف في هذا الشأن كان خلافاً صورياً، تبدد به وقت وجهد، وشغل الناس عن حقيقة ما يتعين أن ينشغلوا به من بناء نظام مصري ديموقراطي بأجهزته ومؤسساته وبتشكيلاته الأهلية الشعبية، مع رسم سياسات خارجية استقلالية وسعي للنهضة بالاقتصاد، دعماً لاستقلال البلاد وتنظيم المجتمع على أسس من العدالة الاجتماعية، فتسترد مصر إرادتها السياسية الحرة المستقلة عن ضغوط القوى الغربية، وتسترد قدرتها على إعادة بناء اقتصادها وتأمين شعبها بما تتخذه من سياسات نحو الاكتفاء الذاتي بأكبر قدر ممكن منه، وتستقيم به سياساتها لتنظيم التوازنات الطبقية والاجتماعية بين أهاليها وفئاتها. وقد جرى تجاهل هذه الأمور الحيوية التي تشكل المضمون الحقيقي للمطلب الديموقراطي. وانحصر الحديث في الصراع الصوري حول الدينية والمدنية، برغم أنها محسومة في دساتير مصر كلها، وهي أن الإسلام دين الدولة الرسمي، وهذا يقتضي أن تكون مرجعيتها الفكرية آتية من الثقافة السائدة في المجتمع، وهي الثقافة الاسلامية بطبيعة الحال، ووفقاً للثقافة السائدة لدى جمهرة الشعب المصري، تماماً كما أن اللغة العربية هي لغتها الرسمية طبقاً للغة السائدة بين جماهير الشعب المصري. ولا يملك أحد تعديل أي من هذين الواقعين الحاصلين الثابتين.
وإن هذا الخلاف الحادث على مدى الفترة التالية للثورة هو ما أخفى حقيقة الصراع بين القوى الديموقراطية غير الواعية بحقيقة قضيتها وبين قوى الاستبداد التي كانت لا تزال مسيطرة على جهاز الدولة، فأدارت الصراع السياسي في اطار هذه الثنائية الخاصة بـ «هل الدولة دينية أو مدنية؟»، ودعمها في ذلك جمهور المسيطرين على وسائل الاعلام، و استردت الدولة بأجهزتها السابقة السيطرة على الحكم من جديد، واستعاد النظام السابق أسس وجوده المستبد القديم بدءاً بما جرى في 3 تموز 2013، وظهرت المعالجات للاقتصاد عن طريق الإعلان عن طرح أراضي مصر للاستثمارات العالمية والاستثمارات الخليجية لدول النفط بوجه خاص، وارتبطت سياسة مصر بسياسة دول الخليج النفطية احتياجاً للمعونات والقروض المالية.
هكذا، فقدت أجهزة الدولة أهم خبراتها الفنية وسلوكياتها المعنوية الرسالية في الادارة والحكم ورسم السياسات، وفقدت المعارضة والقوى الأهلية ذات الخبرات والسلوكيات، مما أفقدها إمكان الحلول محل الدولة.
لقد كانت نخب مصر المهنية والحرفية قد هاجرت تباعاً لدول النفط الخليجية على مدار ثلاثة أو أربعة عقود من السنوات على ما سبق ذكره، وظنت بذلك أنها تحل مشاكلها المعيشية والحياتية، وظنت حكومات مصر ذلك منذ السبعينيات أنها تحل مشاكل مصر بتصدير العمالة كما تصدر الأرز والقطن. ومع الوقت، فقدت مصر العنصر الفعال الأوحد الذي تبني به نهضتها واقتصادها واستقلالها، وغرقت في الديون وانحسر تصديرها تماماً من القطن ويتهدد أرزها بالمصير ذاته. إن كان الأمر كذلك، فإن الدولة الآن تسير في المسار ذاته، مسار العمل في دول الخليج النفطية. كما لو أن دولة مصر ذاتها قد هاجرت هي الأخرى لدى دول النفط لقاء أجر أنساها ما في بلدها من امكانات انتاجية كثيرة، وأولها وأهمها والذي يمثل العمود الفقري لها، هو عمالتها، التي كانت ماهرة، وندعو الله أن تعود إلى مهارتها وعلميتها وقدرتها على حمل بلدها في مستقبل آت بإذن الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق