السبت، 3 يناير 2015

المذنبون بلا ندم! / ناظم مهنا



كان سارتر يرى في مثقفي عصره «مذنبين كباراً» لما يشيعون من «وعي تعس» في مجتمعاتهم، ويرى إنهم خدعوا الشعب في الظروف الهامة كافة، وحملوه على أن يدير ظهره لمصالحه بالذات، وخدعوا بعضهم بعضاً بصدد كل شيء  
 ويرى أن مفهوم المثقف غير مستقر. في الوقت الذي كان آخرون كثر يرون في المثقف منارة، وفي جماعة المثقفين طليعة ترشد إلى التنوير، ولكلا الرأيين وجاهته ونصيبه من الصواب ربما. ولكن ما الذي يدفع سارتر صاحب كتاب «دفاع عن المثقفين» لأخذ هذا الموقف في السنوات الأخيرة من حياته؟! يشير سارتر إلى العجز والخور عند هؤلاء وإلى أنهم ضعاف بالطبيعة، فهم لا ينتجون وليس لهم إلا أجرهم أوداً لحياتهم، وهذا ما يجردهم من كل إمكانية للدفاع عن أنفسهم في المجتمع المدني والسياسي على حد سواء ويقول: «هاهم هؤلاء عديمو الفعالية، متذبذبون. ونظراً إلى افتقادهم كل سلطة اقتصادية أو اجتماعية تراهم يعدون أنفسهم نخبة مدعوة إلى تقييم كل شيء والحكم عليه..» ومع ذلك ورغم أنهم «يتلبسون روح النفي دوماً وأبداً» لا مناص من وجودهم للحفاظ على الثقافة ونقلها وإغنائها.

ويشير سارتر منذ عام 1968 إلى الدعوات القائمة في أوروبا على قدم وساق إلى موت هؤلاء الناس الذين يدعون معرفة كل شيء، وذلك بتأثير أفكار أمريكية تطلق التكهنات حول اضمحلال أو موت المثقفين التقليديين كدور وفاعلية، لأن تقدم العلم، حسب هؤلاء، سيفضي لا محالة إلى الاستغناء عن هؤلاء الموسوعيين المزعومين بفرق من الباحثين المتخصصين. ويبدو أن هذا قد تحقق في أماكن عديدة وفي درجات متفاوتة، ويبقى لهم في بلداننا دور وظيفي قد يزول عندما تنتفي حاجة مموليهم إليهم. ولعل واحداً من أخطر الأدوار التي يقوم بها بعض المثقفين عن قصد أو عن غير قصد هو الروح العدمية الرافضة لكل شيء، ومثقفو القرن العشرين امتهنوا الرفض حتى صار عقيدة شبه مقدسة تترافق مع الهجوم على المؤسسات وعلى المنظومات بكافة أشكالها باعتبارها ذات بنيان هرمي، لا تتناسب مع الروح الفوضوية للمثقفين. وتقوم الثقافة الأدبية والسردية لهذا النمط من المثقفين على الإعلاء من شأن الهامشيين والمنعزلين والمنفيين، قسراً أو طوعاً، والمنشقين، والمعادين لدولهم ولجماعاتهم. وأصحاب هذه النظرة حتى ولو انتموا لليسار إلا أنهم نخبويون، لا يبالون بالناس ولا بمشاعرهم، وهم يقينيون أيضاً إلى أبعد حد، ليس لهم إلا أن يشهروا الـ«لا» في وجه كل اقتراح أو مبادرة. وهم ضد أي إصلاح جملة وتفصيلاً، وعندهم التراجع عن الموقف، حتى ولو كان بيّن الخطأ، يعد هزيمة شخصية لا يمكن احتمالها، فلا يجرون مراجعات بل المزيد من المكابرات المتتالية والراديكالية التي توقعهم، وتوقع آخرين معهم ممن يعجبون بهم في أخطاء مميتة.
إنهم يفتقرون الموضوعية، وهم بعيدون عن ما يدعون من انفتاح على الأفكار وعلى الآخرين، بل يتمترسون في مواقفهم (الثورية) ولو كانوا يركبون بغال الليبرالية، ويتحدثون صبح مساء حتى في خلواتهم عن الديمقراطية وحرية الرأي والرأي الآخر، فهم في الحقيقة على عداء مع أي رأي يخالفهم، ويعتقدون بكل بطر واستعلاء أنهم وحدهم، يملكون الحقيقة، ولا يوجد عندهم إلا اليقين الصلف والشك كل الشك بالآخرين! يسمى هؤلاء بالفوضويين أو الراديكاليين في السياسة وفي الفلسفة والفكر يعرفون بالعدميين، وأشهر أعلامهم الروسي باكونين الذي عاصر كارل ماركس واختلف معه، وهو زعيم الفوضويين عبر العصور بلا منازع، وهو من دعاة العنف ضد أي شكل من أشكال الدولة والمؤسسات! ورغم الجاذبية الثقافية للرفض إلا أنه يأخذ منحى هداماً وتخريبياً عندما يتحول في الواقع إلى عنف منفلت، ويقوض المجتمعات. مثل هؤلاء المثقفين المذنبين لايعول عليهم في بناء الأوطان وإصلاح المجتمع، مهما بلغت درجة ثقافتهم.
أتباع هذا التيار موجودون في كل مكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق