الأحد، 4 يناير 2015

هل يُستهدف التدين بعد «الإسلام السياسي»؟ / ياسر الزعاترة



ثمة نظرية في التعاطي مع الظاهرة الإسلامية ذات جذور صهيونية، ما لبث الغرب أن رحب بها، بخاصة بعد أن جرى تطبيقها على نحو ناجح (برأيه) في تونس «بن علي»، لكن الواقع العملي هو أن غالبية الأنظمة العربية قد طبقتها؛ بهذا القدر أو ذاك.
عنوان النظرية هو «تجفيف الينابيع»، وكان الصهاينة يشرحونها في سياق من الحديث عما يسمونه الإرهاب، قائلين إن محاربة بعوض الإرهاب لا يمكن أن يتم من خلال مطاردة كل بعوضة وقتلها، بل من خلال تجفيف المستنقع على نحو يقضي على كل البعوض.
في الحديث عن الظاهرة الإسلامية رأى دهاقنة الأنظمة، والناصحون لها من يساريين وليبراليين، وأحيانا من مشايخ ارتدوا على أدبارهم، أن ما يسمى الإسلام السياسي لم ينبت من الفراغ، وإنما هو نتاج التدين في المجتمع، وهو صانعه في آن، وإذا أرادوا تحقيق النجاح في محاربته، فلا بد من تحجيم ظاهرة التدين برمتها، ولن ينجحوا في ذلك من دون تقليل قيمة الدين في وعي الناس، وتسفيهه والحط من رموزه.
قبل سنوات ليست بعيدة نقل أحدهم حوارا قصيرا لرجل أعمال مع ضابط كبير في أمن الدولة في مصر كان يحتج على منع عمرو خالد من التدريس في أحد النوادي (نجل الرجل اهتدى من خلال دروس عمرو خالد بعد مرحلة ضياع). وحين قال رجل الأعمال إن الرجل (عمرو خالد) يخرج الشبان من أماكن اللهو والخراب إلى مربع الهداية، فكان رد الضابط، وإلى أين سيذهبون بعد ذلك؟!».
لماذا جاءت سيرة عمرو خالد التي تثير الحزن على ظاهرة دعوية جميلة ما لبثت أن وقعت في شرك السياسة فضيَّعت البوصلة؟!
نستعيد ذلك كله بين يدي ما يمكن للمراقب أن يلحظه في مصر، وعلى نحو أكثر سرعة مما توقعنا، ممثلا في استهداف الدين والتدين في المجتمع. وإذا كانت بعض الأنظمة قد استعانت بالسلفية التقليدية التي تنادي بطاعة ولي الأمر، وأخرى بالصوفية التي تغيّب الناس عن واقعهم من أجل محاربة الإسلام السياسي، فإن الموقف في مصر يبدو مختلفا هذه الأيام؛ إذ بدأت تجري ملامح واضحة لعملية استهداف للدين والتدين برمته، ويُرجَّح أن تتصاعد بالتدريج، وذلك من خلال إطلاق أعداد من صغار المشايخ كي يشككوا الناس في كل شيء. وربما في هذا السياق تنهض قصص موجة الإلحاد التي تنتشر بين الشباب.
قد يرى البعض أن من عمل الفضائيات الإثارة، وهي تبحث تبعا لذلك عن مشايخ يصدمون وعي الناس بطروحاتهم، لكن واقع الحال يقول: إننا أمام منظومة إعلامية تديرها مباحث أمن الدولة، وإن ما يجري ليس عفويا بحال من الأحوال، وقد حدث شيء من ذلك عمليا في مرحلة عبدالناصر حين استهدف جماعة الإخوان، وبدأت عملية تسخيف للتدين في وسائل الإعلام ومن خلال السينما التي أظهرت الشيخ بصورة «الأكول النكوح»، فكانت التراجع الذي وقع في منظومة الصحوة الإسلامية، والتي لم تبدأ رحلة صعودها من جديد إلا مع نهاية السبعينيات.
كل ذلك يعيدنا إلى تلك المجموعات التي حملها الثأر مع الإخوان، أو الطمع باحتلال مكانهم بعد استهدافهم، كما هو حال حزب النور، دفعها إلى تأييد الانقلاب، معتقدة أن موقفها هذا سيمنحها ما تريد، ولم يعتقد رموزها أن الاستهداف سيطال كل منظومة التدين في المجتمع، بوصفها هي ما ينتج ما يسمى الإسلام السياسي.
من هنا يمكن القول: إننا إزاء موجة من تسخيف الدين واستهداف المقدسات ستتصاعد في الواقع المصري، وربما يشمل ذلك أكثر الأنظمة العربية، بما فيها تلك التي تستند إلى شرعية دينية، ولا يقال إن دعم بعض المجموعات ضد الإخوان والجهاديين وغيرهم يؤكد التمسك بالدين، لأن من يفعلون ذلك يعلمون أن الصحوة مرتبطة بالاهتمام بشؤون الناس، وأية تدين ينحصر في الزوايا لا يمكنه البقاء في المدى المتوسط.
الصحوة الإسلامية في ضوء ذلك كله مستهدفة، وسنرى الكثير من معالم الاستهداف خلال المرحلة المقبلة، ليس في مصر وحدها، ولكن في معظم أنحاء العالم العربي، وستدرك تلك اللحى والعمائم التي شرَّعت الاستبداد أية جريمة ارتكبتها بحق الدين والتدين.
على أن ما ينبغي قوله أيضا هو أن لعبة كهذه لن تمر بسهولة، والأرجح أن لا تمر، لأن منظومة التدين في مجتمعاتنا باتت أكثر عمقا من أن يجري اقتلاعها، وما سيحدث هو أن موجة الربيع العربي ستعاود الصعود من جديد بعد أن تلتقط الشعوب وقواها الحية أنفاسها وتعيد ترتيب صفوفها وأوراقها مرة أخرى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق