السبت، 31 يناير 2015

«الربيع العربي» في سيرتَين: شيماء الصباغ وعبد الملك الحوثي / رستم محمود


وكأن مآل الربيع العربي بات مستقطباً بين أحد شابين، على الطرف الاول تقف شهيدة الحراك المدني السلمي الديمقراطي شيماء الصباغ، تلك الشابة الثلاثينية التي اختصرت بسيرتها النضالية والمهنية كل ما انطلق وانبنى عليه الربيع العربي؛ وعلى الطرف الثاني يقف زعيم «العُصبة الحوثية» عبد الملك الحوثي، الثلاثيني الآخر، حيث يختصر بنموذجه وجماعته وخطاباته وأعماله كل ما قام الربيع العربي ضده، وللأسف كل ما آل إليه. 


النموذجان بطاقتيهما القيمية والرمزية، يشكلان تعبيرين عميقين عن الأحوال الراسخة للمجتمعات العربية تقليديا، حيث ما كان الربيع العربي سوى لحظة لكشف اللثام عما كانت تستبطنه هذه المجتمعات في خبيئة أحوالها وحيواتها المحلية، المجتمعات التي كانت «شبه سرية» إلى حد كبير جدا. 

ينحدر الحوثي من أسرة بطريركية امتهنت وتوارثت التعليم الديني على مدى أجيال متعاقبة، وما لبثت أن أحدثت تحولا في قلب الهوية الأكليروسية للعائلة الدينية، لتغدو تياراً ذا ملمح جماعاتي وطموح سياسي واضح، متمايز عن عموم شيوخ طرق المذهب الزيدي التقليدي، وبالتالي تصنع تغيراً في طبيعية المتدينين المؤمنين «المقلدين» لهم، من أبناء هذا المذهب، تغيرهم من مجرد مريدين/مؤمنين ليتحولوا إلى أتباع ومتحزبين وجنود ومحاربين، في تنظيم عُصبوي إيديولوجي مغلق وعنيف وغامض. 

وبالترادف مع ذلك التكون الأسري الذي انحدر منه عبد الملك الحوثي، فأنه أيضاً شاب قادم من منطقة جبلية معزولة تماما، مازالت مركبة على انتظام تقليدي بالغ التعقيد، قبلي وجهوي ومذهبي وعائلي. إذ لم يدخل عبد الملك أية مدرسة مدنية قط - رغم أن عمره لم يتجاوز 35 عاما بعد - ولم يحصل على أية شهادة من أي اختصاص كان، وكل تحصيله المعرفي لم يتجاوز بعض دروس الكتاتيب على يد والده. تزوج وعمره لم يتجاوز أربعة عشر عاما، وأنجب الكثير من الأولاد. 

كانت المرة الأولى الذي سكن بها الحوثي مدينة ما، فقط قبل عشرة أعوام، حين عمل مرافقا شخصيا مسلحا لأخيه حسين بدر الدين الحوثي، المؤسس الفعلي لتنظيم «أنصار الله» العسكري، والذي يُعتبر الجناح المسلح للحركة الحوثية. الأخ الذي قُتل أثناء معارك تمرد الحركة عام 2005، بعدما بقي متخفيا في الجرود والكهوف لشهور كثيرة، يرافقه أخيه عبد الملك، الذي بقي بدوره متخفياً فيما بعد لسنوات، وبات فيما بعد ذلك زعيما فعليا لهذا التنظيم السياسي.

مع حفظ كامل الاحترام لكل الطبقات الاجتماعية، لكن أليست تركيبة عبد الملك الحوثي هذه وسيرته، تبدو وكأنها مختصرة لمجوع سيّر الزعماء العسكريين الذين حكموا بلداننا بُعيد الفترة الاستعمارية. فهو ريفي منحدر من منطقة قصية، وأمي لم يستحصل سوى ما يناسبه من «علوم»، وعصبوي ينتمي لجماعة مغلقة كثيرة التقية، بدوي لم يخالط قط أي مجتمع وطني عمومي مدني، وأيضا «فقير» تعتبر السلطة العسكرية مصدرا لعيشه الأول، وأخيراً يصير زعيماً وقائداً بُحكم الصدفة تقريباً.

توسيعا لذلك، فأن سلوك الحوثي السياسي والعمومي لم يكن إلا بالتضاد التام مع كل مخيلة وأفعال وأحلام الربيع العربي نفسه؛ أي تطابق مع كل «النُخب» الحاكمة التي ثار شباب الربيع ضدهم، أو الذين أعادوا تنظيم أنفسهم ليقودوا الحرب المضادة على هذا الربيع. 

قاد الحوثي تمردا مسلحا عنيفا، في أكثر اللحظات التي ارتبط الحراك السياسي الديمقراطي في بلاده ب»السلمية الثورية»، وبنى تنظيمه السياسي والعسكري على أساس مذهبي ديني مناطقي، بالذات حينما كانت الوطنية اليمينية هي التي تصبغ كامل الثورة اليمنية. فيما بعد، كان الحوثي وحده الذي رفض التوافق السياسي الذي حقق للثورة اليمنية المدنية السلمية أكثرية مطالبها، ثم كان الحوثي وحده صوت النشاز في حلقات الحوار الوطني اليمني، وأخيرا تحالف مع زعيم سياسي فاسد ومستبد قامت ثورة عارمة ضد نظامه، ليقود معه انقلابا واضح المعالم على مؤسسات البلاد وبناه الشرعية والدستورية الوحيدة. 

طبعا دوما كان الحوثي - كما كل «النُخب» العسكرية المستبدة التي حكمت بلداننا - مجرد وكيل لقوة إقليمية بالغة الشهرة والطموح والوضوح بما تكنه لكل مستقبل المنطقة، وبشعارات وخطابات ومخيلة عنيفة ورجعية وصدامية ومضادة لكل ما هو حداثوي ومدني. 

بالمقابل، فالناشطة المدنية شيماء الصباغ، الشابة الثلاثينية وعضوة حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، هي القطب الآخر المعاكس تماما لسيرة/نموذج الحوثي. 

تنحدر الصباغ من مدينة الإسكندرية البحرية، التي كانت عتبة مصر وكل العالم العربي والمنطقة للحداثة والفنون والترجمات والثقافات والإعلام والمعرفة وكل الحياة المدنية الملونة، منذ أكثر من قرنين من الزمن. تنتمي الصباغ للطبقة الوسطى، بما تحمله هذه الطبقة من قيم مدنية وخيارات حياتية وسلوكية وثقافية، تلك الطبقة التي تعتبر التحصيل المعرفي والعمل البيروقراطي مصدرا وحيدا لعائداتها المالية، ومحددا مركزيا لسلوكياتها الحياتية. كما أن الصباغ تنتمي لتيار سياسي وطني عمومي، غير جهوي أو طائفي أو قومي، واضح المعالم في يساريته وتراكبه مع الطبقات الاجتماعية الأكثر حرمانا وهامشية في السلم الاجتماعي والاقتصادي، الطبقة الأقل استفادة من قوة الدولة وخيراتها. 

بكل مدنية وسلمية وإصرار، شاركت الصباغ في الثورة المصرية الأولى في 25 يناير 2011، والتي كانت تعبيرا تاما عن الطموح السياسي والثقافي والطبقي للشباب المصري الشبيه لشيماء الصباغ. شاركت شيماء في تلك الثورة ضمن تنظيم سياسي «منشق» عن تنظيم يساري/قومي تقليدي، كانت معارضته للنظام الحاكم قد باتت صورية وسطحية ومناسبة تماما لمقاييس النظام الحاكم، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي بزعامة رفعت السعيد. 

بقيت شيماء متماهية مع القيّم الأولية التي انطلقت بها الثورة المصرية، فشاركت في التظاهرات التي حدثت ضد المجلس العسكري فيما بعد، والتي أجبرته على تسلم السلطة عبر انتخابات ديموقراطية مراقبة، ثم خرجت في جميع النشاطات والتظاهرات المضادة لحُكم حزب الحرية والعدالة وتبعيته لجماعة الإخوان المسلمين، ثم ما لبثت أن رفضت عودة حُكم الطبقة العسكرية المتحالفة مع بقايا البيروقراطية/الاقتصادية التي انتفضت ثورة 25 يناير ضدها. وأخيراً استشهدت بطلقة رصاص، اثناء الاحتفال بذكرى ميلاد الثورة نفسها. 

بأنوثتها المضادة لذكورة الأنظمة التي حكمتنا، ومدنيتها التي كانت خرقا للثنائية المزيفة التي احتكرت الخيارات في منطقتنا (عسكر - متطرفون)، وبانتمائها للطبقة الوسطى وذات التحصيل المعرفي العالي وابنة التنظيم السياسي اليساري الوطني وسنها الذي في بداية الثلاثينات وخيارها المطلق بالولاء للشارع والسلمية لا غيرهما، فأن شيماء الصباغ كانت تشكل تعبيرا مكثفا عن كل القيم التي قام عليها الربيع العربي.

ما يجرح الفؤاد، هي تلك اللقطات البصرية بالغة القسوة التي عاشتها شيماء الصباغ في لحظاتها الأخيرة، إذ اغتيلت برصاصات موجهة للرأس مباشرة، ثم حملها مسعف واحد وحسب، ولم يلبّ نداء دمها الرعاف المئات الذين كانوا مجرد أجساد متفرجة، على مصير شيماء الأليم/ مصيرهم، إذ لم يستعجل أحد إلى اسعافها، لتغرق في بحر دمها. بالضبط كصورة تعبيرية نموذجية وتراجيدية لمآل الربيع العربي، في الكثير من محطاته.

سيفتح الطفل بلال، صغير شيماء الذي لم يتجاوز الخمسة أعوام بعد، سيفتح صفحة والدته الشخصية على الفايسبوك يوما، ليقرأ آخر ما كتبته «البلد دي بقت بتوجع، مبقاش فيها دفا، يا رب يكون ترابها براح، وحضن أرضها أوسع من سماها«.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق