السبت، 3 يناير 2015

الباجي قائد السبسي رئيساً للجمهورية الثانية .. ماذا بعد؟ / توفيق المديني




أصبح الأستاذ الباجي قائد السبسي زعيم "حزب نداء تونس" أول رئيس منتخب بشكل حر وديمقراطي في تاريخ تونس، وأول رئيس لجمهوريتها الثانية، وذلك عقب فوزه في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي شهدتها البلاد يوم 21 ديسمبر / كانون الأول الماضي، إذ حصل فيها حسب بيان "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" في تونس الصادر منذ يومين، على نسبة 55.68 في المئة من الأصوات، مقابل 44.322 في المئة للرئيس المنتهية ولايته، المنصف المرزوقي. وكان رئيس الهيئة، شفيق صرصار، أعلن خلال مؤتمر صحافي، أن السبسي "حصل على مليوناً و731 ألفاً و529 صوتاً، ، فيما حصل منافسه محمد المنصف المرزوقي مليوناً و378 ألفاً و513 صوتاً بنسبة، من إجمالي ثلاثة ملايين و189 ألفاً و672 تونسياً شاركوا في التصويت. وأفاد صرصار أن نسبة المشاركة في الانتخابات بلغت 60.11 في المئة من إجمالي نحو 5.3 ملايين تونسي مسجلين على القوائم الرسمية للاقتراع، معتبراً أن الهيئة لم تسجل انتهاكات جسيمة قد تؤثر في نتائج الانتخابات. وأشار إلى أن "المناخ العام للعملية الانتخابية كان في جو من السلم والنزاهة ويعد نجاحاً آخر يُحسب للمسار الانتقالي في تونس".

وأقر منصف المرزوقي رسمياً بهزيمته، وهنأ منافسه السبسي، ويعني ذلك أن المرزوقي لن يتوجه بأية طعون لهيئة الانتخابات، ما يعني إقرار النتيجة المعلنة بشكل رسمي. وبذلك أصبح الباجي قائد السبسي أول رئيس منتخب ديموقراطياً، وأول رئيس للجمهورية الثانية في تونس وخامس رئيس في تاريخ تونس المستقلة بعد رئيسين في عهد الجمهورية الأولى (1957-2011) هما الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ورئيسين في المرحلة الانتقالية (2011-2014) هما فؤاد المبزع ومنصف المرزوقي.

يشكل فوز الباجي قائد السبسي انتصاراً تاريخياً للمشروع الوطني الحداثوي الذي قاده الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة منذ تأسيسه الجمهورية التونسية الأولى عقب حصول تونس على استقلالها في عام 1956، حيث شيد بورقيبة الدولة المدنية الوحيدة في العالم العربي، فيما أخفقت الأيديولوجيات الشمولية الأخرى: الماركسية والقومية والإسلامية، فضلاً عن إقامة بورقيبة مشروعاً اجتماعياً تحررياً شعاره تحرير المرأة التونسية، ونشر التعليم الديموقراطي، ومحاربة الفقر، وتحقيق الضمان الصحي. 

من المعروف تاريخياً أن الدولة البورقيبية طغت على المجموع الاجتماعي باسم عقلانية مشروعها السياسي، حيث كان البرنامج الأساس للنخبة الحاكمة بعد الاستقلال يتكون من أهداف التحديث والعلمنة مع مبدأ لـ "الجمعنة" السياسية، إنه الكيان التونسي "القطري" المنفصل عن "الأمة" الإسلامية وعن الأمة العربية. وقدمت الدولة التونسية الفتية نفسها على أنها مجموعة من "مؤسسات رسالية" للتحديث، وضعت نصب عينيها، بصورة خاصة إعطاء الشعب التونسي ثلاثة أشياء مهمة: التعليم وحقوق المرأة ونشر أنماط جديدة من السلوك، وفرض نفسها بصفتها مرجعاً لتكريس الرأسمال الرمزي، وبالتالي فرض الرقابة على المجتمع.

وقاد هذا التطور المفرط لدولة الوصاية البورقيبية في الوقت عينه إلى غياب فضاء عام محدد تحديداً متميزاً، ومجهزاً بقواعده الخاصة وممثليه. ولما كانت دولة الوصاية هذه تشكل وحدة مع جهازها وبيروقراطيتها وغير مفصولة عن المجتمع، فقد عجزت عن أن تكون التعبير المباشر عن الكلية العينية، كلية المجتمع والشعب، لأن قوام هذه الدولة والسلطة المتمسكة بزمامها لم يكن القانون الذي لا يقوم إلا على قاعدة الحقوق. ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه الدولة خارجة عن المحكومين، وهذا التخارج بين السلطة والشعب، وجد التعبير عنه في مركب الدولة - الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، الذي أنتج نسقا سياسياً مغلقاً، أفضى في النهاية، إلى تقلص الدولة في شكل عملية تحرر نسبي لها.

الرئيس الباجي قائد السبسي تمرد على نظام والده الروحي الحبيب بورقيبة، عندما انشق رمزياً عنه في نص استقالة شهير سنة 1970 في جريدة "لوموند" عندما كان سفيرا لتونس في باريس.. وفي المؤتمر الثامن للحزب الاشتراكي الدستوري المنعقد في مدينة المنستير عام 1971، حقق الجناح الذي كان ينادي بالليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية في آن واحد، الأغلبية في المؤتمر، وتمثل هذا الجناح في أحمد المستيري والباهي الأدغم والباجي قائد السبسي، والحبيب بولعراس، فتدخل بورقيبة شخصياً، وألغى انتخابات المؤتمر، وحسم الصراع لمصلحة الجناح المتصلب ذي النزعة الفاشية، الذي كان يقوده محمد الصياح مدير الحزب سابقاً - وقاد ذلك إلى تصفية جناح المستيري- الباجي قائد السبسي المضروب على صعيد السلطة منذ مؤتمر 1971.


ومع ذلك فإن عدداً كبيراً من المؤرخين التونسيين يتجاهلون أن الباجي قائد السبسي كان قائد الجناح الديموقراطي داخل النظام البورقيبي عينه، والرجل الذي وضع كل امكاناته المالية على ذمة الحركة الديموقراطية الناشئة فأسس مجلة "ديمقراطية" الناطقة بالفرنسية، وكان قريباً من مجموعة "الرأي" ورابطة حقوق الانسان وحركة الديموقراطيين الاشتراكيين. ولم يعد الباجي قائد السبسي إلى الحكومة الا بعد اكثر من عشر سنوات وبعد اعتراف الزعيم بورقيبة بالتعددية الحزبية في 1981.

انطلاقاٌ من هذا الإرث البورقيبي، عمل الباجي قائد السبسي على تأسيس حزب جديد بعد أن سيطرت الترويكا الحاكمة سابقا بقيادة حركة النهضة الإسلامية على مقاليد السلطة في تونس عقب الانتخابات التي جرت في 23 أكتوبر 2011. ونجح الباجي قائد السبسي، الوزير السابق في عهد بورقيبة والرئيس الأوّل للبرلمان في عهد بن علي، وصاحب الكاريزما "البلدية" العتيقة (كابن برجوازية تونس العاصمة )، في أن يقدّم نفسه كـ"أمل للخلاص والتغيير" لجزء هامّ من المجتمع التونسي، عبر تجميعه في "حزب نداء تونس" في بداية سنة 2012، أطيافاً سياسية وفكرية عديدة: شتات الجزء الأهمّ من كوادر ورجال أعمال نظام بن علي وحزبه المنحلّ، "التجمّع الدستوري"، ممّن لم يختاروا الانضمام لـ "حزب النهضة الإسلامي"، وبقيّة الأحزاب "الدستوريّة"، ومن فئات الطبقة المتوسطة المتضررة من الثورة، ومن النقابيين واليساريين الليبراليين المتخوفين من مشروع حزب النهضة القاضي بـ "أخونة الدولة التونسية" والقضاء على مظاهر مدنيتها وعلمانيته، من خلال تمظهرات مسودّة مشروع النهضة للدستور، التي تضمّنت "الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع"، وبعث مجلس أعلى إسلامي. 

بفوز "حزب نداء تونس" في الانتخابات التشريعية، وفوز زعيمه الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية، استطاع هذا الأخير المدعوم من قبل الأحزاب السياسية الوطنية الديمقراطية والليبرالية والعلمانية، أن ينجح في استمالة كوادر النظام السابق لـ "حزب نداء تونس"، ويواصل تمثيل مصالح برجوازيّة العاصمة والساحل، والاحتفاظ بدعم القاعدة الاجتماعية التقليديّة للحزب الحاكم منذ الاستقلال، وأن ينقذ تونس ودولتها المدنية، ومكاسبها الحداثية، ويخلصها من براثن مشروع الإخوان الرجعي الذي يقوده بالوكالة منصف المرزوقي المدعوم من قبل حركة النهضة والجماعات السلفية، و"رابطات حماية الثورة"، والذي يستهدف تهديم أسس الدولة المدنية الحداثية واستبدالها ببناء الدولة الإسلامية بالتدرج .إنه انتصار للبعد الديموقراطي الذي كان مفقوداً في النظام البورقيبي، وهو ما كان يتطلع إليه التونسيون، على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية.

فالتونسيون الذين خرجوا إلى الشوارع واحتجوا على النظام السابق في أكثر من مدينة سواء في أحداث سليانة 1990 أو الحوض المنجمي في 2008 أو بنقردان في صيف 2010 أو بداية من 17 ديسمبر 2010 إلى 14 كانون الثاني / يناير 2011 كان هاجسهم الأساسي هو الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية، وليس تخريب الدولة ونسف مكاسبها. والحال هذه عرف زعيم "حزب نداء تونس" والرئيس المنتخب الباجي قائد السبسي كيف يستثمر الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها حركة النهضة، لا سيما ضعف الكفاءة في إدارة الحكم، والعجز عن تقديم أجوبة شافية على المطالب الاجتماعية، وتساهلها الكبير مع التيّارات السلفيّة التكفيرية والإرهابية، في النصف الأوّل من فترة حكمها، وكذلك تهميش النهضة لحليفيْها في "الترويكا" الحاكمة، حزبيْ "المؤتمر من أجل الجمهورية" و"التكتل من أجل العمل والحرّيات"، وصدمة زلزال اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد في شباط/فبراير 2013، وتعاظم خطر الإرهاب إثر اغتيال النائب القيادي بالجبهة الشعبيّة محمّد البراهمي في 25 تموز/يونيو 2013.

إضافة إلى أخطاء حركة النهضة، لعبت العوامل الإقليمية والدولية لمصلحة تزايد نفوذ "حزب نداء تونس"، ومنها: أولاً: الحرص الواضح للدول الغربيّة المؤثّرة، تحديدا الولايات المتحّدة وفرنسا وألمانيا، على أن تكون تونس "النموذج الديموقراطي" الناجح في المنطقة، وهو ما يفترض وجود توازن بين قوّتين سياسيتين كبيرتين تحت سقف شروط المنظومة الليبراليّة المعولمة. وثانياً: تداعيات تغيّر المشهد الإقليمي، وتحديدا سقوط الإخوان المسلمين في مصر على تراجع حركة النهضة، والصعوبات التي واجهها مؤخّرا حليفاها في أنقرة والدوحة .وثالثاً: أجواء الخوف للشعب التونسي من الإرهاب المستوطن في تونس، والحنين إلى "الأمن والاستقرار الضروريّين لعودة الحركة الاقتصاديّة"، وخيبة أمل أغلب التونسيين من حكم "النهضة". 

فنجح الباجي قائد السبسي في إقناع الكثيرين من التونسيين بخطابه عن "استعادة هيبة الدولة"، و"المحافظة على الإرث الحداثي البورقيبي والنمط المجتمعي التونسي". كما استفاد في ذلك من الماكينة الحزبيّة والانتخابيّة القويّة التي ورثها عن حزب بن علي المنحلّ. ونجح زعيم "حزب نداء تونس" الباجي قائد السبسي خلال الحملة الانتخابية في كسب تأييد قطاعات واسعة من الرأي العام، حيث نحت لنفسه صورة "رجل الدولة القوي" الذي يدافع عن مكاسب التونسيين الاجتماعية والسياسية ضد أجندة حركة النهضة التي يرأسها راشد الغنوشي، والتي تسعى لنسف تلك المكاسب والعودة بتونس إلى القرون الوسطى من خلال أسلمة الدولة والمجتمع. وفي الوقت الذي انتهج المرزوقي خطاباً يحرّض على العنف والكراهية وإثارة النعرات الجهوية والقبلية، انتهج قائد السبسي خطاباً وطنياً يدعو إلى الوحدة الوطنية بين جميع التونسيين، مشدداً على "الوفاق الوطني" من أجل إنقاد تونس من الأزمة التي تعصف بها منذ حوالى أربع سنوات.

ومع فوز قائد السبسي يكون التونسيون قد انتصروا للمشروع الوطني الحداثوي، الذي ناضلت من أجله أجيال من المصلحين مند منتصف القرن التاسع عشر من أجل بناء دولة مدنية ذات مؤسسات سيادية قوية تتمتع باستقلالية قرارها الوطني، وأيضاً من أجل مجتمع تعددي ديموقراطي يضمن الحق في الاختلاف والتعايش السلمي، وبذلك أجهضوا الأمل الأخير لمشروع الإخوان الذي يقوده بالوكالة منصف المرزوقي في تحالف انتهازي مع الإسلامويين المدعومين من قبل المحور التركي القطري. وكان من نتائج هذا المشروع زيادة "الشرخ الجهوي" أو المناطقي الذي بدا واضحاً في نتائج الانتخابات. إذ صوّت الشمال والساحل بكثافة لصالح زعيم "حزب نداء تونس"، وولايات الجنوب لصالح منصف المرزوقي وكيل النهضة، فيما كان حجم التصويت لهما في ولايات الوسط متقاربا.

والحال هذه، تكون الصورة بالنسبة إلى الناخب التونسي، إمّا مع النهضة أو ضدّها، وهو ما تجسّد فعلياً، من خلال مواقف العديد من الكتل والتوجهات السياسية والمراقبين الذين اعتبروا أن المرزوقي هو مرشح النهضة وليس غيره، لذلك انقسم الناخبون إلى قسمين، لكلّ منهما نموذج للدولة وللمجتمع، من خلال مقاربتين، الأولى تتأسس على المقولات المرتبطة أكثر بالهوية، والثانية المرتبطة أكثر بالرؤية الوضعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق