الأحد، 4 يناير 2015

خطوة أوباما " التاريخية " / نعوم تشومسكي



يُعتبر قرار استعادة العلاقات الديبلوماسيّة بين الولايات المتحدة وكوبا، والذي أُشيد به على نطاق واسع، حدثاً ذا أهميّة تاريخيّة. ويخلص في هذا الإطار مراسل مجلة «نيويوركر» الأميركية جون لي أندرسن إلى ردّ فعل عام ظهر بين المثقفين الليبراليين، عندما يقول إنّ «الرئيس الأميركي باراك أوباما أظهر أنّ في استطاعته أن يتصرّف كرجل دولة ذي ثقلٍ تاريخي، وهو ما أظهره راوول كاسترو أيضاً. وستكون هذه اللحظة بالنسبة إلى الكوبيين شافية عاطفياً، بالإضافة إلى كونها تحولاً تاريخياً. وبقيت علاقة كوبا مع جارتها الأميركية، القوية والغنية، مجمّدة منذ الستينيات، ولأكثر من نصف قرن. وقد جُمّدت مصائرهم كذلك. تعتبر المسألة ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى الأميركيين أيضاً. يُعيدنا السلام مع كوبا، للحظات، إلى ذلك الوقت الذهبّي عندما كانت الولايات المتحدة أُمّة مُحبّبة في جميع أنحاء العالم، عندما كان الشاب الوسيم جون كينيدي في منصبه – وذلك قبل فيتنام، وقبل أليندي، وحتى قبل العراق، وكل المآسي الأخرى – الأمر الذي يسمح لنا بالشعور بالفخر حيال أنفسنا للقيام أخيراً بخطوة في الاتجاه الصحيح».
لم يكن الماضي بهذه المثالية التي يُصوّر فيها، وكأنه استمرار لمملكة كاميلوت. فجون كينيدي لم يكن «قبل فييتنام» – ولا حتى قبل أليندي والعراق، ولكن لندع ذلك جانباً. عندما تسلّم كينيدي منصبه (كانون الثاني 1961)، كانت وحشية نظام ديم في فيتنام (الجنوبية) التي فرضتها الولايات المتحدة، قد أثارت، أخيراً، مقاومة داخلية لم يعد بإمكان أميركا السيطرة عليها. لذا واجه كينيدي ما أسماه «الهجوم من الداخل»، أو «العدوان الداخلي»، وهي عبارة لافته يُفضّل سفير كينيدي لدى الأمم المتحدة أدلاي ستيفنسون استخدامها.
وبناء على ذلك، صعّد كينيدي من التدخل ضدّ العدوان الصريح، آمراً سلاح الجو الأميركي بقصف فيتنام الجنوبيّة، كما أجاز استخدام النابالم، والأسلحة الكيميائية لتدمير المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية، وأطلق برنامجاً لاقتياد الفلاحين إلى معسكرات الاعتقال الافتراضية بهدف «حمايتهم» من المقاتلين الذين كانوا يدعمونهم، كما تعلم واشنطن.
مع حلول العام 1963، بدا أن الحرب التي يقودها كينيدي تقترب من النجاح، بحسب التقارير الواردة آنذاك، ولكنّ مشكلة خطيرة ظهرت في المقابل. ففي آب من العام ذاته، علمت الإدارة الأميركية أنّ حكومة ديم الجنوبية بدأت تسعى إلى مفاوضات مع فيتنام الشمالية بهدف إنهاء الصراع.
ولو كان لدى جون كينيدي أدنى نيّة للانسحاب، حين كانت الفرصة مثالية ومؤاتية للقيام بذلك، من دون أيّ تكلفة سياسية، كان بإمكانه الادّعاء أنّ الثبات الأميركي والدفاع المبدئي عن الحريات أرغما الفيتناميين الشماليين على الاستسلام. ولكن خلافاً لذلك، أيّدت واشنطن انقلاباً عسكرياً لتثبيت جنرالات يعتبرهم كينيدي أكثر انسجاماً مع التزاماته الفعليّة، وقتل، في هذه العمليّة، الرئيس ديم وشقيقه. ومع اقتراب النصر، وافق كينيدي، على مضض، على اقتراح كان قد تقدّم به وزير الدفاع آنذاك روبرت ماكنمارا لبدء سحب القوات الأميركية (NSAM 263)، ولكن بشرط حاسم: بعد الانتصار. وحافظ كينيدي على رغبته بإصرار، حتى اغتياله بعد بضعة أسابيع (تشرين الثاني 1963). وتم تلفيق الكثير من الأوهام بشأن تلك الأحداث، إلا أنها انهارت بسرعة تحت وطأة السجل الوثائقي الذي كان غنياً.
القصة، على المقلب الآخر، لم تكن مثالية كذلك، كما هو الحال في أساطير كاميلوت. وكانت إحدى أكثر قرارات كينيدي المترابطة منطقياً، عندما حوّل، في العام 1962، مهمّة الجيش الأميركي اللاتيني من «الدفاع في نصف الكرة الغربي» – المستمرة منذ الحرب العالمية الثانية – إلى «الأمن الداخلي»، أي بتعبير ألطف الحرب ضدّ العدو الداخلي: السكان.
ووفقاً لتشارلز ميتشلينغ، الذي قاد مكافحة التمرّد والتخطيط الدفاعي الداخلي في الولايات المتحدة في الفترة بين العامين 1961 و1966، فبعد قرار كينيدي، تحوّلت السياسية الأميركية من التسامح بشأن «جشع وقسوة الجيش الأميركي اللاتيني» إلى «التواطؤ المباشر» مع جرائمهم، وكذلك إلى الدعم الأميركي لـ «أساليب فرق الإبادة على غرار تلك التي كانت تابعة لهاينريش هيملر». ولأولئك الذين لا يفضّلون ما يسميه المتخصّص في العلاقات الدوليّة مايكل غلينون بـ «الجهل المتعمّد»، يمكنهم استخدام التعابير التي تناسبهم.
الوقائع واضحة للعارفين، بالرغم من انها لم تمرّ في «مصفاة» الثقافة الفكرية والشعبية العامة، وهي لذلك تشكل مفاجئة لمعظم الأميركيين، بمن فيهم قطاعات المتعلّمين. وبحسب الباحث اللاتيني جون كوتسوورث في الفصل الذي يتحدّث فيه عن أميركا الوسطى في الدراسة العلميّة الصادرة عن جامعة كامبريدج حول الحرب الباردة، فإنّ «التكلفة البشرية» لهذا الجهد، كانت مرتفعة جداً. فبين العام 1960، وهو الوقت الذي فكّك فيه السوفيات معسكرات الاعتقال لدى ستالين، والعام 1990 الذي شهد انهيار الاتحاد السوفياتي، فإن عدد المعتقلين السياسيين وضحايا التعذيب والإعدامات بحق المعارضين السياسيين السلميين في أميركا اللاتينية، تجاوزت إلى حدّ كبير تلك الموجودة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. بعبارة أخرى، فما بين العامين 1960 و1990، كانت الكتلة السوفياتية ككل أقل قمعاً، من حيث أعداد الضحايا البشرية، مقارنة بالعديد من بلدان أميركا اللاتينية».
وفي كوبا، ورث كينيدي سياسة سلفه دوايت إيزنهاور، التي قامت على الحصار وكذلك على خطط رسميّة لقلب نظام الحكم، سرعان ما تصاعدت من خلال غزو «خليج الخنازير». وتسبب فشل ذلك الغزو، بما يمكن وصفه بالهستيريا في واشنطن.
لم تختلف إجراءات كينيدي العمليّة عن تصريحاته. إذ أطلق حملة إرهابيّة قاتلة لجلب «أهوال الأرض» إلى كوبا، بحسب تعبير المؤرخ ومستشار الرئيس الأميركي آرثر شليزينغر. وبمعزل عن قتل الآلاف إلى جانب الدمار الكبير، كانت، «أهوال الأرض» عاملاً رئيسياً في اقتراب العالم إلى حافة حرب نوويّة، كما تكشف الدراسات الأخيرة. واستأنفت الإدارة الأميركية هجماتها الإرهابية حالما هدأت أزمة الصواريخ الكوبيّة (تشرين الأول 1962).
وهناك معيار مُحدّد للتهرب من المسائل غير السارة، وهو الحفاظ على مؤامرات وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) ضدّ فيدل كاسترو. تلك المؤامرات كانت موجودة فعلاً، لكنها كانت هامشيّة مقارنة بالحرب الإرهابيّة التي شنّها الأخوان كينيدي (جون وروبرت) بعد فشلهما في غزو خليج الخنازير، وهي حرب تصعب مطابقتها في سجلّات الإرهاب العالمي.
ويكثر الجدل حول ما إذا كان يجب شطب كوبا من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وهو ما يعيد إلى الأذهان كلمات كورنِليوس تاسيتُس (مؤرخٌ ورئيس قضاة في إحدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية): «عندما تُكشف الجريمة، فلا ملجأ لها سوى الوقاحة»، إلا أنها لم تُكشف، وذلك بفضل «خيانة المثقّفين».

بعد توليه منصبه عقب اغتيال كينيدي، قلص الرئيس الأميركي ليندون جونسون من سياسات الإرهاب، لكنه لم يكن ليسمح لكوبا أن تعيش بسلام. وشرح جونسون للسيناتور فولبرايت أنّه «لن يدخل في أيّ صفقة تتعلّق بخليج الخنازير»، لكنه أكد حاجته إلى نصيحة بشأن «ما يتعيّن على أميركا القيام به للتضييق على كوبا أكثر».
إلا أن البعض شعر أنّ الوسائل المعتمدة لهذا الغرض لم تكن كافية. من بين هؤلاء عضو المجلس الوزاري المصغّر الكسندر هيغ، الذي طلب من الرئيس جونسون أن يسمح له بتحويل «تلك الجزيرة اللعينة (كوبا) إلى موقف للسيارات».
وقد عبر هذا الكلام عن الإحباط الذي كان يعاني منه القادة الأميركيون بشأن «الجمهورية الكوبية الشيطانية»، بحسب تعبير ثيودور روزفلت، الذي غضب بشدة بسبب عدم قبول كوبا مكرُمة الغزو الأميركي في العام 1898، وتحويلها إلى مستعمرة افتراضية.
وقد علّق المؤرخ الكوبي لويس بيريز بالقول إنّ التدخل الأميركي، الذي اعتبر بمثابة تدخّل إنساني لتحرير كوبا من الاستعمار الاسباني حينها، حقّق أهدافه الفعلية في «تحويل حرب التحرّر الكوبيّة إلى فتوحات أميركية».
كيف تغيّرت الأمور خلال قرنين من الزمن؟
كانت هناك جهود مبدئية لتحسين العلاقات الأميركية - الكوبية خلال السنوات الخمسين الماضية، وهو ما استعرضه، بالتفصيل، وليام ليوغراندي وبيتر كورنبلا في دراستهما الشاملة الأخيرة بعنوان: «قناة العودة إلى كوبا». وسواء شعرنا «بالفخر» بفضل الخطوات التي اتّخذها الرئيس باراك أوباما أم لا، إلا أن ما حصل يعدّ بالتأكيد «خطوة صحيحة»، برغم أنّ الحصار المفروض على كوبا ما زال قائماً، في تحدٍ للعالم بأسره (باستثناء إسرائيل)، فيما السياحة ما زالت ممنوعة.
وخلال خطابه الذي أعلن فيه عن السياسة الجديدة، لمّح الرئيس الأميركي إلى أنّ معاقبة كوبا ستستمر بسبب رفضها الخضوع للإرادة والعنف الأميركيين. ومع ذلك، فإن ما يلي من خطابه كان جديراً بالاهتمام:
لقد دعمت الولايات المتحدة، بكل فخر، الديموقراطية وحقوق الإنسان في كوبا خلال العقود الخمسة الأخيرة. وقد فعلنا ذلك من خلال سياسات تهدف إلى عزل الجزيرة. وبرغم أنّ النوايا خلف تلك السياسة كانت حسنة، لم تنضم إلينا أيّ دولة أخرى في فرض العقوبات التي لم يكن لها أثر يذكر، باستثناء إعطاء ذريعة للحكومة الكوبية لفرض القيود على شعبها. اليوم سأكون صادقاً معكم: لا يمكن أبداً أن نمحو التاريخ بيننا وبين كوبا.
على المرء أن يُعجب بالجرأة المذهلة لتلك التصريحات، والتي تذكّرنا مرّة أخرى بكلمات كورنِليوس تاسيتُس (مؤرخٌ ورئيس قضاة في إحدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية): «عندما تُكشف الجريمة، فلا ملجأ لها سوى الوقاحة». بالطبع، لا يجهل أوباما التاريخ الفعلي، والذي يتضمّن بالإضافة إلى الحرب الإرهابية القاتلة والحصار الاقتصادي الفاضح، احتلالاً عسكرياً لجنوب شرق كوبا منذ أكثر من قرنٍ مضى، برغم مطالبة الحكومة الكوبية، منذ الاستقلال، استرداد ما سُرق منها تحت تهديد السلاح. وعلى سبيل المقارنة، تبدو سيطرة بوتين، غير المشروعة، على شبه جزيرة القرم حميدة.
لقد بلغ التفاني ذروته بهدف الانتقام من الكوبيين الذين يقاومون الهيمنة الأميركية، إذ أبطلت رغبات قطاعات قوية مثل مجتمع الأعمال أو حتى المستحضرات الطبية في التطبيع، ما يعتبر تطوراً غير عادي في السياسة الخارجية الأميركية.
وترغب واشنطن ومعاونوها في التظاهر بأنهم «عزلوا» كوبا، بحسب تصريح أوباما، لكن السجل يُظهر بوضوح أن الولايات المتحدة هي التي جرى عزلها، وهو ما يمكن أن يكون السبب الرئيسي للتغيير الجزئي الذي طرأ.
لا شك أنّ الرأي العام المحلّي كان له دور أساسي في خطوة أوباما «التاريخية»، برغم أنّ الجمهور كان يعمل لمصلحة التطبيع منذ فترة طويلة. فقد أظهر استطلاع للرأي للعام 2014 نشرت نتائجه شبكة «سي ان ان»، أنّ ربع السكان الأميركيين يعتبرون أنّ كوبا تُشكّل تهديداً خطيراً على الولايات المتحدة، بالمقارنة مع أكثر من ثلثي الشعب الأميركي عندما كان ريغان في منصبه (1981 – 1989).
وتعليقاً على قرار أوباما، كانت الفكرة الرائدة تدور حول جهود واشنطن «الحميدة» التي تهدف إلى تحقيق الديموقراطية وتعزيز حقوق الإنسان في كوبا. ولكن «الأهداف السامية» لم تتحقّق، لذا فإن تغيير السياسات كان مطلوباً.
هل كانت السياسات فاشلة؟ هذا يعتمد بالضرورة على الأهداف. وفي هذا السياق، يبدو الجواب واضحاً إذا ما ألقينا نظرة على السجل الوثائقي. كان التهديد الكوبي مألوفاً، إذ كان جزءاً من الحرب الباردة. لكن القلق الأساسي تركز حول احتمال ان تتحول كوبا إلى «وباء» وأن «تنشر العدوى»، في استعارة لتعبير كيسنجر عندما أشار إلى الرئيس التشيلي الراحل سلفادور أليندي.
وللتركيز على أميركا اللاتينية، أنشأ كينيدي، قبل توليه منصبه، «بعثة أميركا اللاتينية» برئاسة مستشاره آرثر شليزينغر. وقد حذّرت البعثة من إعجاب الأميركيين اللاتينيين «بفكرة قيام كاسترو بالاهتمام بالمسائل على طريقته»، وهو ما اعتبره شليزينغر خطراً حقيقياً. وكان شليزينغر يكرر رثاء وزير الخارجية جون فوستر دالاس الذي اشتكى للرئيس إيزنهاور من الأخطار التي يشكلها «الشيوعيون»، إذ إن في استطاعتهم «السيطرة على الحركات الجماهيرية»، الأمر الذي اعتبره ميزة غير عادلة «ليست لدينا القدرة على تكرارها».
وكانت الطريقة المُثلى للتعاطي مع أي وباء قابل للانتشار، تتمثل بقتل ذلك الوباء وتطعيم الضحايا المحتملين. تلك السياسة الحساسة التي سعت واشنطن إلى تحقيقها باعتبارها هدفاً رئيسياً، كانت سياسة ناجحة. وجرى «تلقيح» المنطقة بالديكتاتوريات العسكرية الشرسة لمنع انتقال العدوى، بدءاً بالانقلاب العسكري في البرازيل بعد وقت قصير من اغتيال كينيدي.
الأمر نفسه ينطبق على حرب فيتنام، التي توصف بالهزيمة أو الفشل الأميركي. لقد كانت واشنطن تخشى من انتقال العدوى إلى المحيط، ومن وصول هذه العدوى إلى اندونيسيا، أو إلى اليابان حتى، التي كان بإمكانها تطويع شرق آسيا لتتحول إلى مركزها الصناعي والتقني. هكذا، دمرت فيتنام تماماً. لم تعد نموذجاً لأحد. وتمت حماية المنطقة عبر استيلاد ديكتاتوريات دموية، تماماً كما حصل في أميركا اللاتينية في السنوات ذاتها.
لقد شكلت فيتنام نجاحاً جزئياً بهذا المعنى. لم تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق هدفها الأقصى المتمثل بتحويلها إلى فيليبين أخرى، لكنها تمكنت من تخطي هواجسها الكبرى، تماماً كما فعلت في كوبا، وفق المنطق الإمبريالي نفسه! اما ما تبقى من هذه السياسة فيمكن وصفه بالهزيمة، او الفشل، او القرارات شديدة السوء.
ترجمة ملاك حمود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق