الخميس، 8 يناير 2015

روسيا وبيتها الأوروبي / فلاديسلاف إينوزيمتسيف


برغم أن العقوبات بدأت تصبح مؤلمة بوضوح، فسوف يمر بعض الوقت قبل أن يستشعر القسم الأكبر من الشعب الروسي تأثيرها فعليا. وإذا دخلت أوكرانيا الحظيرة الأوروبية، فإن الشعب الروسي سوف يكون راغباً في اتباع خطاها.
في الربيع الماضي، بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وبدأت تتدخل في شرق أوكرانيا، فَرَضَت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات ضد أفراد وشركات في روسيا. ولكن إذا كان لهذه العقوبات أن تعمل كأداة فعّالة في مواجهة طموحات فلاديمير بوتن ــ وهو موضوع مناقشة جارية في الغرب الآن ــ فلابد أن تجمع بين اليد الحازمة في التعامل مع روسيا واليد المفتوحة تجاه شعبها.



ولفهم الدور الذي تستطيع العقوبات أن تلعبه في التعامل مع الكرملين فما علينا إلا أن نتأمل في أهمية المال لصاحبه. منذ بداية القرن وحتى وقت قريب للغاية، أُغرِقَت روسيا بدولارات النفط؛ ومع تزايد تدفق الأموال، تزايدت جرأة بوتن وعدوانيته.
في عام 1999، ساهمت عائدات النفط والغاز بنحو 40.5 مليار دولار أمريكي في الناتج المحلي الإجمالي الروسي. ومع ارتفاع الأسعار وزيادة الإنتاج، تزايدت هذه المساهمة بشكل كبير فبلغت في المتوسط 73.5 مليار دولار سنوياً من عام 2001 إلى عام 2004. وبفضل الثروة المتنامية تزايدت جرأة بوتن، وهو التغير الذي تمثل في القرار الذي اتخذه باعتقال وسجن ميخائيل خودوركوفسكي، مالك شركة النفط العملاقة يوكوس في عام 2003.
واستمر هذا الاتجاه. ففي الفترة من عام 2005 إلى عام 2008، كانت عائدات النفط والغاز السنوية أعلى بنحو 223.6 مليار دولار عما كانت عليه في عام 1999؛ وفي نهاية هذه الفترة غَزَت روسيا جورجيا. وفي الفترة 2011-2013، بلغ دخل روسيا من النفط والغاز ذروته بنحو 394 مليار دولار فوق مستويات 1999، الأمر الذي مهد الطريق لتدخلات الكرملين في أوكرانيا. وفي كل هذه الحالات، كان بوتن يتصرف انطلاقاً من اقتناعه بأن ثروة روسيا النفطية تعني أن القواعد ــ وحتى القوانين الدولية ــ لا تنطبق عليه.
ولكن مع فرض العقوبات أصبحت الأسواق المالية مغلقة في الأغلب في وجه الشركات الروسية. فأسعار النفط تسجل الآن هبوطاً شديدا؛ وطبقاً لتقديرات وزير المالية الروسي فإن الخسائر التي تكبدتها البلاد منذ الربيع الماضي تجاوزت 140 مليار دولار. كما بدأت احتياطيات روسيا الاستراتيجية من العملة تتمزق على أيدي أصدقاء بوتن، بل وربما تستنزف بحلول نهاية العام المقبل. وعلاوة على ذلك، خسر الروبل ما يقرب من 50% من قيمته على مدى الأشهر الستة الماضية.
ولكن برغم أن العقوبات بدأت تصبح مؤلمة بوضوح، فسوف يمر بعض الوقت قبل أن يستشعر القسم الأكبر من الشعب الروسي تأثيرها فعليا. ولذا، ينبغي للغرب أن ينتظر.
الواقع أن البحث عن حلول دبلوماسية ليس بالتصرف الوجيه تماما، فهي ببساطة لا وجود لها. فقد اختار بوتن التصرف دون اعتبار للسلامة الإقليمية، وأعلن نفسه مدافعاً ليس فقط عن المواطنين الروس، بل وأيضاً عن كل المنتمين إلى العرق الروسي، والناطقين باللغة الروسية، بل وحتى المسيحيين الأرثوذوكس. وهو يعتقد أنه يملك حق التدخل في شؤون جيرانه لأنه، على حد تعبيره، يرى أن "الاتحاد السوفييتي كان هو روسيا ذاتها ولكن باسم آخر". وبعبارة أخرى، فإن أوكرانيا هي مجرد منطقة انفصالية تنتمي إلى روسيا التاريخية.
ولكن الشعب الروسي يتمتع بقدر من الحداثة يجعله يتشكك في هذه السياسات. فكان "إجماع بوتن" مبنياً على وعد بالرخاء المتزايد ــ وهو الوعد الذي يتبخر الآن بسرعة تحت سخونة العقوبات. والواقع أن أغلب أبناء النخب الروسية يفكرون ويتصرفون كرجال أعمال، وليس بوصفهم قوميين رومانسيين: ومع انزلاق الاقتصاد إلى حالة من الركود المطول، فسوف تتزايد الانتقادات الموجهة إلى سياسات بوتن والأصوات المنادية بمراجعتها.
ولابد أن يكون هدف العقوبات الغربية فصل حكام روسيا المنتمين إلى عصر ما قبل الحداثة عن سكانها من أنصار الحداثة. وقد تكون هذه الاستراتيجية قليلة الجدوى في المجتمعات الخاضعة لسيطرة مُحكَمة مثل إيران وكوريا الشمالية؛ ولكن روسيا أوروبية في الأساس. وبدلاً من إهدار الوقت في محاولة التفاوض، ينبغي للغرب أن يركز على دراسة وتفصيل ونشر أجندة ما بعد بوتن.
فبادئ ذي بدء، يتعين على الغرب أن ينكر بصراحة ووضوح أي مزاعم من قِبَل روسيا بامتلاكها الحق في التدخل في شؤون الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. ولابد من احتضان أوكرانيا ــ حتى وإن باتت خسارة شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس مؤكدة. ولابد من إعداد "خطة مارشال جديدة" القادرة على تحويل أوكرانيا إلى دولة حرة مزدهرة وبوسعها أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، إذا رغبت في ذلك.
وينبغي للغرب في المقام الأول من الأهمية أن يؤكد بكل وضوح أنه يمد تعريفه لأوروبا ليس إلى حدود روسيا فحسب، بل وأيضاً عبرها. ولابد من الاعتراف بروسيا باعتبارها جزءاً طبيعياً لا يتجزأ من أوروبا ــ ودولة ربما تنضم إلى الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف. ولابد أن تركز الاستراتيجية الكبرى للعقود المقبلة على فكرة بسيطة: رغم أن روسيا لن يُسمَح لها أبداً بالتأثير على أوروبا من الخارج، فإنها تظل موضع ترحيب إذا رغبت في اكتساب مكانة تسمح لها بالتأثير من الداخل، وقبلت بقواعد ومعايير أوروبا.
ولابد أن يفهم الروس أنهم يستطيعون الاختيار بين مسارين. فبوسعهم أن يتبعوا بوتن إلى العزلة، وربما تنتهي بهم الحال إلى الخضوع للنفوذ الصيني (الواقع أنه من منظور الصين تُعَد مطالبتها بكل سيبيريا حتى بحيرة بايكال أقوى من مطالبة روسيا بشبه جزيرة القرم). أو يمكنهم أن يقرروا التحرك نحو أوروبا، وربما الانضمام في المستقبل البعيد إلى الاتحاد الأوروبي باعتبار بلادهم العضو الأكبر فيه ــ وربما الأكثر نفوذاً وتأثيرا.
كان الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الغرب في التعامل مع روسيا وأوكرانيا أنه اختار طريق عدم المبالاة بعد نهاية الحرب الباردة. فقد أدى ذلك إلى إنشاء كومنولث الدول المستقلة في عام 1991 ومذكرة بودابست بشأن الضمانات الأمنية في عام 1994. ولو كانت أوروبا شجعت روسيا وأوكرانيا بدلاً من ذلك على العمل نحو الانضمام إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية ووجهت إليهما الدعوة للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، فإن مسار التاريخ كان ليسلك اتجاهاً أكثر سلمية.
إن التاريخ نادراً ما يقدم فرصة ثانية. ولكنه فعل هذه المرة. ولابد من تصحيح الأخطاء التي ارتُكِبَت في تسعينيات القرن العشرين، على أن تكون نقطة البداية عَرض الفرصة على أولئك الذين يريدون الانضمام إلى الغرب للعمل نحو تحقيق هذه الغاية. وإذا دخلت أوكرانيا الحظيرة الأوروبية، فإن الشعب الروسي سوف يكون راغباً في اتباع خطاها ــ وبسرعة أكبر كثيراً مما قد يتصور كثيرون الآن.


فلاديسلاف إينوزيمتسيف أستاذ الاقتصاد في الكلية العليا للاقتصاد في موسكو ومدير مركز الدراسات ما بعد الصناعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق