الأربعاء، 21 يناير 2015

متى يطلع الفجر على سوريا؟ / جهاد فاضل



إذا استعدنا سيرة الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت سنة ١٩٧٥ واستمرت حتى بداية التسعينيات، أي سبع عشرة سنة، أمكننا القول ان الحرب الأهلية السورية، وهي في وجه من وجوهها كذلك، قابلة لأن تستمر أكثر من هذه المدة، أي عشرات السنين.


 وأوجه الشبه بين «الحربين الشقيقتين» أكثر من أن تُحصى، وأولها أن الصراع لم يكن في لبنان صراعاً داخلياً بحتاً بين فرقاء وطوائف الداخل، وإنما كان صراعاً خارجياً أيضاً شاركت فيه دول إقليمية وغير إقليمية، وقد تخلّل الحرب اللبنانية فترات قليلة شهد فيها الصراع الدموي الوحشي هدوءاً ولو محدودا ليعاود هذا الصراع تأججه. وفي فترات الهدوء هذه كان الناس يقولون: «خلصتْ!» أي أن الحرب وضعت أوزارها وانتهى أمرها. ولكن لتعود بعد حين قليل وتندلع من جديد أقسى من السابق ولتستمر على هذا المنوال سبع عشرة سنة ذاق فيها اللبنانيون من ويلات الحروب الأهلية ما لم يذقه شعب آخر في التاريخ.

ويبدو أن سيناريو الحرب اللبنانية هذا يتكرر بشكل أو بآخر في سوريا الآن. قد لا يكون ما يجري في سوريا اليوم، ومنذ أربع سنوات، هو نسخة طبق الأصل مما جرى في لبنان السبع عشرة سنة، ولكن الخطوط العامة واحدة: فالصراع الداخلي بوجه عام هو في سوريا بين السنّة والعلويين في حين كان في لبنان بين الموارنة والمسلمين. كان الموارنة متشبثين بالسلطة التي مكّنهم منها الفرنسيون قبل مغادرتهم لبنان، تماماً كتشبّث العلويين بالسلطة التي استولوا عليها كبعثيين قادمين من الجيش والمناطق النائية لتحقيق الأحلام الوردية للناس ولتحرير فلسطين.

ولكن الصراع في واقع أمره سواء في سوريا أو في لبنان ليس صراعاً داخلياً فقط لا غير، بل هو بالإضافة إلى ذلك صراع خارجي بين قوى عالمية وإقليمية نافذة، وخلال الحرب اللبنانية بدا واضحاً للعيان أن هذه الحرب عالمية ولو، أنها تُخاض على مساحة جغرافية محدودة هي مساحة الأرض اللبنانية. ويمكن قول ذلك عن الحرب السورية الحالية، فهي وإن كانت في الظاهر «حرباً سورية» إلا أنها في الواقع «حرب عالمية» لأن المشاركين فيها، إلى جانب هذا الفريق أو ذاك، هم الأمريكيون والأوروبيون والروس وإلى حدّ ما الصينيون، بالإضافة إلى الفرقاء الإقليميين الأقوياء وهم الإيرانيون والأتراك وسواهم. وهؤلاء الفرقاء جميعاً مشتبكون الآن في صراع من الصعب في المدى المنظور تصور وضع حد له نظراً لتعقيده وتشابك مصالحه ولأن أمر سوريا ليس أمر دولة عادية ولأن خسارة سوريا بالنسبة لكل من هؤلاء الفرقاء خسارة هائلة يمكن أن تجرّ عليها الويلات. ولا ننسى تجار السلاح وتجار الأوطان وفقدان الضمير وسائر القيم. وفي الحروب لا تسأل القوى العظمى عن الدمار والدموع وكون حوالي عشرة ملايين سوري أي نصف الشعب، هم نازحون داخل وطنهم أو خارجه. فما تسأل عنه هو نفوذها ومصالحها ولا تلتفت أبدا إلى شقاء الشعوب وآلامها.
السؤال بالنسبة لأمريكا يتعلق بما إذا بالإمكان زحزحة النفوذ الروسي والإيراني، وهي حينا تُقدم ثم تحجم، تهدّد وتضع يدها على الزناد، كما يقولون، ولكن تتراجع بأقل من لمح البصر. وبعد أن تُفقد الأسد شرعيته في أكثر من بيان أو موقف، تكُسبه، لاحقاً وضمناً هذه الشرعية على أساس أن سقوطه قد يجعل داعش والبغدادي ينتقلان من الرقة إلى دمشق. وبعد أن تقرر تسليح ما تسميه «بالمعارضة المعتدلة» تتراجع عن التسليح خوفاً من أن يقع السلاح المتطور في أيد دواعشية.

والمسألة بالنسبة للأوروبيين قريبة مما هي بالنسبة للأمريكيين مع فروق لا تُذكر. تراجعت أمريكا كما تراجعت أوروبا عن إسقاط الأسد نظراً «لدوره البنّاء» في الحرب على الإرهاب، ولدوره البنّاء الآخر في حماية حدوده مع إسرائيل، وباتت السياسة الأمريكية- الأوروبية تصبّ في اتجاه حل سياسي لا يبدو أمره سهلاً لأن روسيا ومعها إيران تريدانه على طريقتهما وأسلوبهما، أي أن يبقى الأسد (أو خليفة له) في السلطة وأن تُعطى المعارضة المعتدلة عدداً من المقاعد.

والمسألة مسألة حياة أو موت بالنسبة لروسيا وإيران. روسيا تنظر إلى سوريا على أنها نوع من شبه جزيرة القرم بالنسبة إليها، وإيران ومعها شيعة لبنان والشيعة العرب، تعتبر أن سيطرتها على سوريا تعني أنها انتقمت للإمام علي بن أبي طالب من معاوية بن أبي سفيان وبقية الرموز السنّية. فمن المستحيل التفكير، بالنسبة إليها وإلى روسيا، إلا ببضعة مقاعد وزارية من المستحسن أن يشغلها معارضون من نوع حسن عبدالعظيم وهيثم منّاع!.

والزمن يسير وما من حَكَم دولي يمكن اللجوء إليه لوضع حدّ لهذه الحرب المتوحشة فالمفترض أنه حَكَم هو خصم، والخصوم أمامهم على الطاولة جداول بمصالحهم ومشتهياتهم ويخططون لتعزيزها لا للتنازل عنها. وفي خضّم كل ذلك يزداد النزيف السوري هجرة إلى الخارج، أو مزيداً من هدم المدن والقرى، أو ما تبقى من العمران في هذه المدن والقرى. ورغم أن سوريا تشارك في مثل هذه المحنة الكبرى مع «دول ربيعية» أخرى مثل اليمن أو ليبيا، من حيث سيطرة الدهماء وانسداد آفاق الحلول، فإن سوريا ليست اليمن ولا ليبيا.

إنها القطر الأبرز في المشرق العربي وكانت الأقدار تخوّلها قبل وصول الأسدَين إلى السلطة، قيادة الأمة العربية وتزعُّم دور ريادي هي جديرة به. ولكن الرياح كثيراً ما جرت بعكس ما تشتهي السفن.

إذا استمرت الحرب الأهلية اللبنانية سبع عشرة سنة، فإن الحرب السورية يمكن أن تستمر سبعين سنة أو أكثر. ليس قرار وضع حد لهذه الحرب بين جهة واحدة، لا داخلية ولا خارجية. وما من جهة من جهات هذه الحرب «يشتغل» عقلها في هذا الاتجاه. وما يُسمّى «بالحل السياسي» ليس حلاًّ سهلاً كما قد يُظّن. ولا تملك سوريا رجالاً تاريخيين يمكنهم أن يقدّموا أو يؤخّروا في مثل هذا الأمر الجلل. ولم تبرز المعارضة السورية. بكل أطيافها وتجمعاتها، سوى مثقفين عاديين لا حول لهم ولا طول.

وبشار الأسد نفسه لا يستطيع وحده أن ينفرد بقرار الحرب والسلم، فهذا القرار تشترك معه فيه قوى إقليمية ودولية نافذة.

ولا يظهر أن داعش مخلوق عجائبي أسطوري مرُسل من قبل القضاء والقدر، فهو بلا شك تابع وغير مستقل. كما لا يظهر أن الأمريكان جادّون بالفعل في القضاء عليه من خلال نشاط طائرات التحالف.

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً

أبشر بطون سلامة يا مربعُ!

فداعش لها وظيفة بل وظائف، وأكثر من جهة تعمل على أساس مبدأ: لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم. لقد أجهزت روسيا نهائياً على أي حل يريده الغربيون على - مقاس مصالحهم.

ومن الطبيعي أن يرد لها الغرب التحية بمثلها. المؤتمر الذي دعت إليه فاشل منذ الساعة لأن قوى أساسية في المعارضة السورية أعلنت أنها لن تحضره، وهذا يعني أن الوقت الضائع هو سيد الأوقات، وأن نزيف سوريا مستمر إلى أجل غير محدود.

ولا يستطيع أحد أن يحدد موعداً لهذا الأجل لأن الصراع الدولي والأقليمي على سوريا أقوى من الصراع الداخلي المحتدم بين النظام من جهة، وداعش والنصرة والجيش السوري الحر وسائر الفئات المعارضة الأخرى. ثمة حربان طاحنتان لا أفق لهما ولا عقل ولا حل، حرب داخلية يبدو الفرقاء المشتركون فيها بمثابة «بيادق» أو «ممثلين ثانويين» ليس لهم دور رئيسي فيها. والحرب الثانية أكثر اشتعالا من حرب الداخل لأنها تدور بين فرقاء لا رحمة في قلوبهم ولا دموع في عيونهم، وهمُّهم منحصر في المزيد من المصالح والنفوذ، ولا فرق عندهم إذا كان عدد النازحين السوريين هو في حدود العشرة ملايين أو أكثر أو أقلّ!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق