السبت، 10 يناير 2015

أي مستقبل للجبهة الشعبية في تونس؟ / توفيق المديني


من الواضح أن الرئيس التونسي الجديد السيد الباجي قائد السبسي و»حزب نداء تونس» لم يستدعيا «الجبهة الشعبية» للمشاركة في الحكومة المقبلة حسب تصريح النائب في البرلمان التونسي عن الجبهة الشعبية الجيلاني الهمامي في حوار لإذاعة «اكسبريس آف آم« يوم الإثنين 29 كانون الأول/ ديسمبر 2014. ولهذا «ستبقى الجبهة في المعارضة مبدئيا« حسب الهمامي «خصوصاً ان ملامح البرنامج الاقتصادي والاجتماعي المقبل مناف لقناعاتها. لكن الجبهة لن تكون مبدئيا خارج الحكومة بسبب برامجها فقط بل لشروطها التي تبدو تعجيزية. صحيح أن «حزب نداء تونس« قادر على تعديل برامجه بما يتلاقى أو على الأقل يقترب من برامج الجبهة حتى بتحالف معها أو بتوافق، ولكن هذا لا يكفي ليطلب ودها بل عليه أيضا أن يستبعد فرضية الإبقاء على بن جدو في وزارة الداخلية والقطع مع أي تقارب أو توافق مع حزب «حركة النهضة«.


الجبهة الشعبية بحاجة إلى تطوير أطروحات اقتصادية جديدة، لأن الطرح الاشتراكي اليساري الكلاسيكي لا يمكن أن تكون له نجاعة اليوم، في ظل سيطرة العولمة الليبرالية على الاقتصاد العالمي، وفي إطار مناخ اقتصادي عالمي وإقليمي مرتبطين بالأفكار الليبرالية والرأسمالية، الأمر الذي يتطلب من اليسار التونسي استنباط أطروحات جديدة تطالب بتنمية عادلة والأخذ في الاعتبار احتياجات مناطق المحافظات المهمشة والمحرومة، وتغيير التعامل مع القطاع العام من ملكية مشاعة للدولة محكومة ببيروقراطية مقيتة إلى ملكية جماعية كما يجب أن تسيّر قطاعات الإنتاج من قبل أهله بالإدارة الذاتية.

وتبقى العلاقة بين اليسار والمجتمع التونسي علاقة في غالب الأحيان نخبوية وقد تصل الى نوع من الفوقية لأن الأحزاب اليسارية التي هي من المفترض أن تكون ممثلة للطبقة العاملة والشرائح الاجتماعية الأكثر تهميشا واضطهادا تجد نفسها تعيش نوعا من الانفصام الثقافي وتجد هوة عميقة بينها وبين مختلف تلك الشرائح الاجتماعية اعتبارا لكون الخطاب الفكري والسياسي الذي تروجه غالبية التيارات اليسارية يبقى خطابا مبهما وغامضا بالنسبة للشرائح الاجتماعية الدنيا.. فالأطروحات الاقتصادية التي تقوم على تأسيس الاقتصاد الاشتراكي الذي تحكمه الطبقة العاملة أصبحت تصنّف شيئا ما في خانة الأفكار الطوباوية الاقتصادية.

هناك الكثير من مجموعات اليسار هيأت نفسها لكي تدافع عن الاتجاه الليبرالي للاقتصاد مثل دفاعها عن الليبرالية السياسية وبالتالي وفي أقصى الحالات اما متعايشة مع هذا الاقتصاد الليبرالي المعولم الذي يبدو أن فك الارتباط معه صعب لأنه يمثّل بناء اقتصاديا فوقيا ليس من السهل بالنسبة للاقتصاديات المحلية التخلّص من تداعياته وتأثيراته الاّ باقناع نفسها بأنها تقوم بدور في هذا المجال يعود الى نوع من حمائية الدولة الى ذلك الاقتصاد حتى تشعر بالتماهي مع أطروحاتها التقليدية.

بالنسبة لليسار التونسي ممثلاً للجبهة الشعبية، حتى ينجح في استعادة مكانته الفكرية والثقافية والسياسية، ينبغي أن يغير أيضا من جلده الذي أصبح ضيقاً جداً عليه، وهو جلد مرحلة الحرب الباردة وأيديولوجية القرن العشرين الذي ارتبط في مفهومه وأسلوب تجليه وقيمه وغاياته بالقضية الاشتراكية، ليلبس جلد الفكرة الوطنية الديمقراطية الإنسانية، أي أن يكون في نمط تفكيره ووسائل عمله وغاياته حاملاً لقضية الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة الأخلاقية والقانونية. عندئذ سيكون يساراً للمستقبل، وسيرتبط به لا محالة الانبعاث الفكري والاجتماعي والسياسي اليساري القادم، فيكون أيديويولجية المستقبل لا أيديولوجية الماضي.

تتناقص «الجبهة الشعبية« في برنامجها الاقتصادي والاجتماعي في عدة نقاط مع برنامج «حزب نداء تونس« الليبرالي، والمعني بتشكيل الحكومة الجديدة، ولعل خير مثال على ذلك الموقف من صندوق النقد الدولي وكيفية رفع القدرة الشرائية وكيفية تحقيق النمو الاقتصادي بالإضافة إلى الموقف من رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية الضرورية. والأكيد أن تنازل بقية الأحزاب المشاركة في الحكومة عن بعض برامجها أو تعديلها لن يصل إلى حد القبول ببرامج الجبهة كما هي بل عليها أن تقدم بدورها بعض التنازلات ما يجعلها في حرج مع قواعدها التي لم تصوت لها إلا لقناعتها بتلك البرامج. كما إن مشاركة الجبهة في الحكم يعني بالضرورة إقصاء النهضة منها ما يجعل الحكومة في مواجهة معارضة قوية (النهضة ومن سيلتقي معها في المعارضة) فتعجز الحكومة عن تطبيق أهدافها ومشاريعها ما يجعل فرص فشلها أكبر من نجاحها. وبهذا تكون الجبهة شريكا في الفشل على فرضية فشل الحكومة ما ينعكس عليها بالسلب في الانتخابات القادمة.

إذا أردنا لليسار التونسي(الجبهة الشعبية) أن يعيش، ويستمر عبر القرن الواحد والعشرين، ينبغي له صوغ فكره وثقافته وسياسته على عكس فلسفة وإرث انحطاط الاشتراكية المشيدة، التي أدت إلى ما نسميه النظام الشمولي المتناقض مع الحداثة والديمقراطية. وهو ما يستدعي إعادة بناء اليسار التونسي بمفهومه العصري خارج السلطة المرجعية للإشتراكية المشيدة في القرن العشرين، وربطه بالقيم الديمقراطية الإنسانية، وبالتالي اندراجه في تاريخ الحضارة الكونية.

إن أهم درس قدمه القرن العشرون التونسي (في ما يتعلق بالمسار السياسي) متمثلاً في حقيقة أن التيارات، التي تفاعلت مع الثقافة المحلية (الحزب الاشتراكي الدستوري) أو أخذت مخزونها الأيديولوجي منها الإسلاميين)، كانت في حالة صعود وترسخ، فيما ظل اليسار التونسي مرتبطاً وتابعاً فكرياً وأيديولوجيا للمدارس الفكرية في موسكو وبكين وتيرانا وباريس. ونظراً للفراغ الفكري الذي تميز به اليسار الجديد في تونس، والذي كان وراء فشل أطروحاته اليسارية الطوباوية، المتمثلة بتوزيع الثروة وإزالة الفروق الطبقية وطي صفحة استثمار الانسان للإنسان، الخ. بينما أثبتت تجربة قرن من حياة الاشتراكية المشيدة وقرنين من حياة الماركسية، أن الأولوية في حياة البشرية المعاصرة هي لسؤال الحرية لا لسؤال العدالة الاجتماعية، من غير انتقاص من أهمية العدالة الاجتماعية.

لقد ظلت تنظيمات اليسار الجديد سجينة حرب الخنادق المغلقة في حرم الجامعات، الموروثة والمرتبطة بصراعات الحركة الطلابية التونسية، وبالصراعات النقابية العمالية، فعجزت عن بلورة مشروع سياسي وطني وديمقراطي يقدم أجوبة عقلانية وواقعية لمعضلات المجتمع التونسي، ولأنها أيضاً لم تستطع (أو لم ترد) إيجاد حالة تفاعل أو استناد إلى عوامل الثقافة المحلية التي يشكل الإسلام أهم مكوِناتها، استمرت قابعة عند حدود القشرة السطحية للمجتمع التونسي.

هل يقدم اليسار التونسي، في القرن الحادي والعشرين، صورة معاكسة على هذا الصعيد تكون مختلفة عما شهدناه في القرن المنصرم، وفي مرحلة ما بعد الثورة ؟ 

هناك أمل لبعث جديد لليسار يتمثل في الشباب الذي قاد الثورة والذي يعبّر عن نفسه ويجدها في أفكار يسارية وقومية واسلامية ولا يخضع لا للقيود الايديولوجية ولا للثقل العقائدي ولذلك قد يبشّر الشباب بولادة يسار جديد بعد أن يكون رموز اليسار اكتشفوا أن يسارهم أصبح كلاسيكيا مقارنة مع شباب الثورة لأنه لم يستوعب جوهر تجربته ولم يقم بقراءتها قراءة علمية لما أفرزته من تشتّت تنظيمي. فالرأي العام التونسي لا يعرف ما هو الفرق بين حزب العمّال الشيوعي وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، وحركة «اليسار الاشتراكي«، و»حزب المسار الديمقراطي».. بالاضافة الى تغييب كلي للشباب في هياكل هذه التنظيمات اليسارية. وكل ذلك التشتّت أسفر عن عجز اليسار في تشكيل قطب متماسك قادر على توجيه الأحداث والتأثير فيها، وبالتالي تقديم أنموذج جديد للتنمية، يشكل تخطياً ديالكتيكياً للأنموذج الموجود حالياً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق