الجمعة، 30 يناير 2015

ثقافة الإصلاح استوطنت عقول الصينيين!


مراجعة : د. مسعود ضاهر
 الكتاب: الصين في السنوات الثلاثين المقبلة
 الكاتب: مؤلف جماعي
المترجم: وانغ فو
الناشر: مؤسسة الفكر العربي، بيروت 2014



إستفادت الصين في مرحلة الإصلاح والإنفتاح من استيراد التكنولوجيا الغربية وتدريب عدد كبير من الكوادر البشرية الصينية في الدول الصناعية المتطورة، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية واليابان، لتنمية طاقاتها البشرية. وحققت نسبة نمو مرتفعة مقارنة مع الاقتصادات المتطورة. وعملت على ردم فجوة التكنولوجيا، والإنتاج الصناعي المتطور من خلال إستغلال القوى العمالية بكلفة منخفضة، وساعات عمل طويلة، وأجور متدنية لكي تزيد من متوسط نصيب المواطن الصيني من الدخل السنوي. ونجحت في رفع متوسط دخل الفرد، وباتت تصنف اليوم في عداد الدول ذات الدخل المتوسط العالي، وتتمتع بمدخرات مالية عالية، وتوفر ضمانات إضافية كبيرة لشعبها، وإحتلت المرتبة الأولى كأكبر إقتصاد عالمي في نهاية العام 2014. 

حافظ الاقتصاد الصينى على نسبة نمو سريع راوحت بين 7 - 10 % سنويا منذ بداية الإنفتاح والإصلاح عام 1978. وبنتيجة النمو الأكثر سرعة بوتيرة ثابتة، حققت الصين مكاسب أساسية ساهمت في دعم التنمية المستدامة للاقتصاد الصيني. وأنجزت سلسلة من الاصلاحات الإقتصادية والإجتماعية لتطوير المؤسسات الحكومية وإدارات الدولة. وأنجزت خططا متكاملة لبناء مدن صينية عصرية، وشجعت الصينيين على السكن المديني الذين يؤمن الحاجات الأساسية للمواطن، ويساعد على زيادة الاستهلاك المحلية وتحويل سكان المدن إلى طاقة كبيرة وداعمة للتنمية الاقتصادية في جميع مناطقها .بيد أن بعض الخبراء الصينيين دعوا مؤخرا إلى إعادة النظر في سياسة دعم النمو المرتفع نظرا لأثرها السلبي على التنمية البشرية والإقتصادية المستدامة. ومنهم من إنتقد سياسة الإفراط طوال العقود الماضية في التركيز على مشاريع البنى التحتية الكبيرة ذات الكلفة العالية لسنوات عدة. ودعوا إلى معالجة أكثر عمقا لقضايا التنمية البشرية في مجالات التعليم، والصحة، وبناء المؤسسات بما يضمن سيادة القانون ومكافحة الفساد. وطالبوا حكومة الصين بتقديم رؤية تنموية أكثر إنسانية، بخصائص صينية واضحة لإعادة بناء التعاون مع الدول الأخرى، وبخاصة الفقيرة والنامية منها، على أسس سليمة وفق المبادئ الإنسانية التي تدعو الصين إلى إحترامها في مجال العلاقات الدولية.

اليوم، يحتل موضوعان رئيسيان مكانة بارزة في التنمية المستدامة في الصين ،هما: الاقتصاد الأخضر في إطار بيئة كونية سليمة،وبناء مؤسسات حاضنة للتنمية المستدامة على المستوى المحلي والدولي. وفي حين يركز الاقتصاد الأخضر على حماية الإنسان في بيئة نظيفة، تعالج مؤسسات التنمية المستدامة قضايا ذات أبعاد دولية: الفقر، والسكن، والأوبئة، والتصحر، والبطالة، والتعليم، ومكافحة الجريمة والمخدرات، والحد من إنتشار الأسلحة النووية، ومنع استخدام الأسلحة المحرمة دوليا، وتطبيق الإتقاقيات الدولية في مختلف المجالات. 

وقد ركزت الخطط الأولى للتنمية الشاملة في الصين على توفير مزيد من رؤوس الاموال بهدف إيجاد فرص جديدة للعمل والإنتاج. وتبين للخبراء الصينيين أن الحصول على انتاج أعلى لا يوفر بالضرورة مزيدا من التنمية المستدامة على مستوى البيئة وحماية المجتمع. 

تحتاج معالجة المشكلات الإقتصادية في الصين إلى سياسة جذرية لكنها متدرجة. وهذا ما تؤكده الدراسات العلمية الرصينة التي تضمنها كتاب جديد لمجموعة مؤلفين صينيين وأوروبيين وأميركيين.

تضمنت موضوعات الكتاب عناوين عدة أبرزها: الإصلاح الصيني يدخل المرحلة الأكثر خطورة، ونظرة إستشرافية إلى السنوات الثلاثين المقبلة، وخصائص النموذج الصيني : التحديات والآفاق، والديموقراطية في الصين، ونظام سياسي وإقتصادي وثقافي عالمي لتجاوز الهيمنة، والتجارة الدولية الصينية، والزراعة الصينية في القرن الحادي والعشرين، والطاقة النظيفة محرك أخضر محرك قوي للإقتصاد الصيني، والتحديث الصيني في الجيل الثالث، والتنمية الخضراء والإختراقات التكنولوجية، والصين والعالم، وهوية الصين اليوم، وغيرها. 

دخل الإصلاح الصيني المرحلة الأكثر خطورة حيث لا يمكن القضاء على العيوب الناجمة عن عدم إكمال الإصلاح إلا بالمزيد من تعميق الإصلاح. فمن دون إصلاح النظام السياسي، يقول رائد الإصلاح والإنفتاح دينغ شياو بينغ، لا يمكن لنا أن نضمن نتائج الإصلاح الإقتصادي، وعندما لا يتقدم الإصلاح الإقتصادي يشكل معوقا لتطور القوى المنتجة.

وتجذرت ثقافة الإصلاح في عقول الصينيين، وهي تعني تغيير النظام ووجوب إصلاح كل الأنظمة غير السليمة . وباتت الصين اليوم ترتدي صورة الدولة القوية الجبارة والتي تعتمد القوة الناعمة العظيمة ،وتتحمل مسؤولية تنمية البشرية بأسرها، وتحترم سيادة جميع الدول، وتحافظ على مصالح شعوبها. ولكي تصمد تجربة التحديث في الصين حتى تحقق النهوض العظيم للأمة الصينية، لا بد من معالجة ثلاث قضايا كبيرة: إستمرار النمو الإقتصادي، وعدم إثارة المشكلات السياسية مع الحفاظ على المجتمع المتناغم، والعمل على تحقيق العدالة الحقيقية بين مكونات المجتمع الدولي. فالنظام السياسي الصيني قابل للتكيف مع جميع المتغيرات الدولية، وهو يتفادى الوقوع في فخ التغريب السياسي. 

لقد فاجأت الصين العالم بما حققته في السنوات الثلاثين المنصرمة، وبخاصة في سرعة التنمية الإقتصادية، وبات لديها أكبر احتياط من العملات الصعبة العالمية. لعل أبرز خصائص نموذج التحديث الصيني هي التالية: قوة الدولة المركزية وفاعليتها، ونجاح تجربة الإنفتاح على الخارج والتعلم من نماذج التحديث الأخرى، والتقويم المستمر لخطط التنمية وتصويب مسارها، والبراغماتية السياسية والقدرة على التكيف، والتنمية التدريجية مع الحفاظ على الاستقرار الداخلي، والأثر الكبير للعامل الديموغرافي والإنتاج الموجه للتصدير إلى الخارج.

ويواجه النموذج الإقتصادي الصيني مشكلات عدة منها المشكلة الديموغرافية بعد أن دخل المجتمع الصيني مرحلة كثرة المسنين، وسيشهد نقصا في اليد العاملة الشابة بعد أن كان لديه فائض كبير منها، وتبدل سيكولوجية الشعب الصيني تجاه حكامه بعد كثرة الفضائح المالية والأخلاقية وإنتشار الفساد على نطاق واسع، ومشكلة الانتقال من تدمير البيئة الطبيعية إلى حمايتها، ومن كثرة استهلاك الطاقة إلى الإقتصاد فيها وإعتماد الطاقة النظيفة بديلا للطاقة الحالية. وفي العقود الثلاثة المقبلة ستتأثر الصين إلى حد كبير من تدهور إقتصاد الدول الغربية المثقلة بالديون وخصخصتها. وعلى الصين أن تتخذ إجراءات صارمة لضبط حركة رأس المال على المستوى العالمي، ومنع الولايات المتحدة الأميركية من إحتكار شركات وعقارات في الدول الأخرى، أو محاولة تغلب البنوك الأميركية على البنوك الأخرى. 

لقد نهضت الصين بسرعة وفق أسلوب تنمية سياسية تميز عن الإشتراكية السوفياتية وعن الحرية والديموقراطية الغربية معا. فالإتحاد السوفياتي عمم الإصلاح الديموقراطي قبل تحديث الإقتصاد. أما التحديث الصيني فعمل على تغيير المجتمع بأكمله ولم يقتصر على التقدم الإقتصادي بل شمل التقدم السياسي والثقافي أيضا .ولعل أعظم إبتكار نظري حققه الصينيون منذ إنتهاج سياسة الإصلاح والإنفتاح هو بناء نظام إشتراكي بخصائص صينية. وفي السنوات القادمة سيتم الإنتقال من الإصلاح الاقتصادي تدريجيا إلى الإصلاح الإجتماعي والسياسي مما يشكل تأكيدا لمفهوم التنمية الشاملة والمستدامة للسياسة والإقتصاد والثقافة والمجتمع والطبيعة. وتؤكد الصين على أن النظام الديموقراطي والعدالة الإجتماعية هي أول قيم الإشتراكية. لكن الديموقراطية لا ترتدي شكلا واحدا لأنها قيمة عامة وذات سمات مشتركة، وتندرج خصوصية الديموقراطية في عموميتها. ومن المحتمل أن يخرج القطار الإقتصادي الصيني الفائق السرعة عن مساره في الثلاثين سنة القادمة بسبب كثرة العقبات، وأبرزها: فجوة الدخل الآخذة في الإتساع، وعدم الإستقرار الإجتماعي، والنزاعات مع دول الجوار، ونقص الوقود، وندرة المياه، والتلوث البيئي، ونظام البنوك الذي لا يزال ضعيفا، وغيرها. 

ختاما، لم تعد الصين اليوم دولة نامية بل أصبحت دولة كبيرة ناهضة حديثا. وقد تبنت سياسة الإنفتاح على الخارج لربط تنميتها بالإقتصاد العالمي. وتواجه مشكلات داخلية كبيرة أبرزها: عدم المساواة في الدخل، وتدهور البيئة الطبيعية، ومشكلة الفساد المتنامي. وخيارها الوحيد أن تواصل التنمية والإزدهار مع الحفاظ على الأمن والإستقرار وحماية البيئة العالمية، وبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب تشارك فيه الصين بفاعلية كبيرة. كتاب متميز ببحوثه العلمية الرصينة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق