الثلاثاء، 13 يناير 2015

موت بائع متجول / توجان فيصل


قلة في بلادنا من يعرفون أو حتى سمعوا بـ"موت بائع متجول"، المسرحية المأساة التي أبدعها الكاتب الأمريكي آرثر ميللر، وحازت على جائزة "بوليتزر" وعلى"جائزة نقاد الدراما".. ولكنّ الأردنيين جميعًا يعرفون الآن تفاصيل قصة لا تقل مأساوية تتمثل في مقتل شاب"الديلفري" محمد أبو خديجة في حادث سير أثناء العاصفة الثلجية الأخيرة.. لا، ليس "حادث سير"، بل في جريمة لا يمكن للقانون أن يعاقب عليها بما يتوجب، لأنها جريمة منظومة ظلم متكاملة تُطوّع كل القوانين لصالحها، بل وتفصل فيها قوانين صريحة لتشريع الفساد والاستغلال والإفلات من تهمهما، ويُقاضى ويجرّم كل من يسعى بجدية لوقفهما.. حتى القانون العشائري الذي ظل لقرون يضمن حق الإنسان في بيئة صحراوية كان جلّ سكانها بدو متنقلين، بات يطوع الآن لخدمة ضياع الحق على يد متنفذين حازوا السلطة بالمال، والمال بالسلطة، حد اقتران هذين في زواج غير مقدس ولكنه غير قابل للتطليق.. بات ينجب أصحاب البورشه والمرسيدس إس كلاس.


وأحد هؤلاء (في حادثة استفزت الأردنيين) موثق في أقواله على صفحته على النت ومؤكد بأقوال جماعته المدافعة عنه على صفحاتهم، اعتبارهم سائقي "الكيا" - جمعًا- "متخلفين حاقدين" ، بل وشتمهم بأقبح كلمة شتم في العامية الإنجليزية لم تصل للأردنيين لأن أحدًا لم يترجمها لهم (رغم شهادتي العليا في اللغة والأدب الإنجليزي لم أفهمها فلزمني البحث في جوجل لأصدم متأخرًا بمعناها).. وهو شتم استحقته جموع فقط بدلالة نوع السيارة التي يقودونها! هكذا يُنظر لسائقي أي سيارة صغيرة، فكيف بالبائعين المتجولين في أصغر وأرخص وأقل السيارات استهلاكًا للوقود وأقلها أمانًا بالتالي، الذين يوصلون طلبيات قمامة الغذاء المغلفة بأسماء ماركات أمريكية تنحني أمامها كل القوانين، بدءًا بقوانين الغذاء والدواء وقوانين المواصفات والمعايير؟!.

"البائع المتجول" في مسرحية آرثر ميللر (الأكثر شهرة بين كافة المسرحيات الأمريكية أي بما يوازي شهرة مطاعم "الجيَف" الأمريكية لدينا) رب أسرة أفنى عمره بالعمل بائعًا متجولاً لدى شركة مقابل راتب شحيح. والحاجة وتّرت علاقته بابنيه، الأول الذي فشل في الدراسة ويحلم بالسفر بحثًا عن فرصة لتحسين أحواله، ولكن والده لا يستطيع تأمين ثمن تذكرة السفر.. والثاني الذي يبحث عن الطمأنينة المفقودة في صورة زوجة يسكن إليها. الأهم الذي تنتقده المسرحية هو استغلال رأس المال للبشر بما يسقط صورة "الحلم الأمريكي". وتنتهي المسرحية بانتحار البائع المتجول ليتيح لأبنائه قبض تعويض التأمين على حياته، على شحّه.

واستحالة تحقيق حلم الإنسان في ظل توحش الرأسمالية بات أكثر انطباقًا على عالمنا العربي الذي ينهشه الرأسمال الفاسد بدرجة غير مسبوقة، بأضعاف انطباق تلك المسرحية على واقع أمريكا حينها (منتصف القرن الماضي). ومأساة "عامل الديلفري" الأردني تجسد ما تحدث عنه آرثر ميللر، ولكن في صيغة مكثفة.

فمحمد أبو خديجة، ذو الثلاثة والعشرين عامًا، كان في آن واحد معيلاً لأسرته والابن الذي لا يتاح له أن يسافر في محاولة تحسين ظروفه، وبقي السفر حلمه الذي كان يتحدث به لأصدقائه . ومحمد لم ينتحر، بل هو أعلم الشركة التي تستخدمه بعدم مجيئه للعمل لمخاطر هذا في ظل حالة الطرق في قمة العاصفة الثلجية الأخيرة، وتحديدًا لكون الحكومة لم تعلن فقط تعطيل العمل وتحذر الناس من الخروج لغير الضرورات القصوى، بل أنذر وزير الداخلية لأول مرة في تاريخ المملكة (نتيجة الطقس وإن جرى قبله منع تجوّل لأسباب سياسية) من الخروج مشيًا وتحديدًا بسيارات غير مجهزة لهكذا طقس، مهدّدًا بعقاب من يخالفون الأمر، وتتداول أخبار مصادرة سيارات وتسجيل غرامات وصلت لخمسين دينارًا.. ولكن إدارة مطاعم الوجبات السريعة تلك هددت محمد بفصله معتبرة عدم قدومه للعمل تقديم استقالة منه، فخرج الشاب لأنه لا يقدر على خسارة راتب شهري لا يتجاوز المائتين وخمسين دينارًا ! وعلقت سيارة الديلفري الصغيرة عند نهايه جسر في منطقة الشمياني الموسرة، لتأتي سيارة "بورشه" يقودها صاحبها بسرعة خيالية على الجسر لتصدم مجموعة السيارات العالقة .. فيقتل محمد في سيارته الكرتونية ( وثانٍ في سيارة أخرى ) وفقط "يُصاب "صاحب البورشه المحصنة!.

لو أن "الأمن" أوقف محمد وصادر السيارة لما مات.. ولكن حتمًا حصانة "الديلفري" الآتية من حصانة طرفي التجارة :الحوت البائع والشاري الذي لم يأبه لحجم المجازفة التي يستلزمها إيصال وجبته وإشباع شهوته، كانت أهم من حياة عامل الديلفري.. ونراهن على أن المتسببين لن يحاكموا ولن يحكموا بغير حفنة دنانيير يقبضها أهل محمد الذي لم ينتحر كما فعل البائع المتجول المتخيّل في المسرحية ، ولا كما فعل محمد البوعزيزي .. بل نحر بسكاكين الطمع والجشع التي اجتمعت عليه كل أشكالها وبكل تراكماتها وتداعياتها! وهذا فارق رئيس بين محمد تونس ومحمد الأردن.. وقد يضاف له فارق آخر، هو أن محمد الأردن هو "محمد الذي لا يرث"!.

كاتبة أردنية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق