الجمعة، 9 يناير 2015

المثقفون.. بناء على تعليمات السيد الرئيس! / محمد شعير



خرجت الشاعرة فاطمة ناعوت من لقاء عدد من المثقفين بالرئيس السيسي بتصريح أكدت فيه أن الرئيس كلفها بتصحيح صورة الإسلام. أما الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي فأكد أن الرئيس كلفه باستعاده دور الصالونات الثقافية القديمة للحوار مع الشباب وتبصيرهم بالمخاطر.



بعد ساعات من تصريح ناعوت تمت احالتها إلى محكمة الجنايات بتهمة ازدراء الأديان بسبب «بوست» كتبته على صفحتها الشخصية على «الفيس بوك»، أما أحمد حجازي فقد بدأ - بناء على توجيهات الرئيس - اتصالاته لإقامة صالون ثقافي يحمل اسمه، واختار حجازي موضوع «دور المقاهي في الثقافة» عنوانا للنقاش في صالونه الأول الذي سيعقد في الجمعة الأولى من كل شهر في مقهى ريش الثقافي في وسط القاهرة. نحن إذًا أمام مثقفين ينتظرون توجيهات السيد الرئيس، أمام مثقفين خارج الزمان، وأمام سلطة تتصور أن الصالونات الأدبية (على طريقة قوت القلوب الدمرداشية) في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته هي ما يجذب الشباب. ربما تلخص القصتان السابقتان علاقة المثقف المصري بالسلطة، ومدى فاعليته التي تأتي دائما خارج التاريخ وخارج الزمن. وتلخص أيضا تلك العلاقة التي ينبغي أن تحكى من البداية.
2
ربما تلخص مقولة الكاتب الصحافي الراحل أحمد بهاء الدين عن‮ «‬الأسلاك الشائكة‮» ‬التي ينبغي أن تتوقف عندها الكتابة ولا تتخطاها‮ «أزمة النخبة‮» ‬المصرية‮. ‬هذه الأسلاك أو الخطوط منعت دائما التقدم نحو‮ «‬علمنة‮» ‬حقيقية للمجتمع‮ ‬وعقلنة الفكر‮. ‬عندما كتب طه حسين كتابه الشهير‮ «في الشعر الجاهلي‮» ‬خرج سعد زغلول صارخا أمام البرلمان‮ «‬وماذا علينا إن لم يفهم البقر؟‮».. ‬وتلقى قاسم أمين‮ ‬أعنف هجوم على أفكاره حول‮ «‬تحرير المرأة‮» ‬من مصطفى كامل صاحب المقولة الشهيرة ‮»‬لو لم أكن مصريا‮ً...»‬،‮ ‬كما تخلى النحاس باشا زعيم حزب الوفد عن العقاد بعد هجومه الشهير على»‬الملك‮». ‬وعندما أثيرت قضية الخلافة الإسلامية على يد علي عبد الرازق صمت سعد زغلول‮.. ‬وقال لمقربين منه‮: «‬الموضوع حساس عند العامة‮.. ‬وأخشى أن يستغل خصومنا ما سأقوله ضدنا‮..»، ‬وعندما أثيرت قضية ترقية نصر أبو زيد أصدر بياناً للإعلام ليشرح فيه أفكاره،‮ ‬أضاف البعض إلى البيان‮ ‬عبارة‮ «‬لا إله إلا الله‮» ‬بدون الرجوع إليه‮! ‬
هذه المواقف تلخص باختصار لماذا فشلت النخبة المصرية السياسية والثقافية في أن تنقل المجتمع نحو تحرر حقيقي بعيداً عن التلفيق"‬الحداثي" ‬الذي جعل رفاعة الطهطاوي يكتب كتابه عن رحلة "باريز"‮ ‬سارداً ما شاهد هناك من قوانين وقواعد.. ‬ولكنه يختم كل واقعة بنقدها لأنها لا تناسب المجتمع‮. ‬قد يكون ما فعله الطهطاوي حيلة‬،‮ ‬ولكن لم تكن مقولة سعد زغلول: «‬قد يستغل خصومنا ما أقوله...» ‬حيلة أيضاً.. ‬بل‮ إنه "‬نهج‮ "‬سار عليه الجميع في ما بعد حتى وصلنا إلى لحظة اكتشف فيها الجميع وهم‮» ‬التلفيق‮».. ‬أصبح المثقف عاريا أمام ذاته،‮ ‬لم تصمد تنظيراته المتوهمة عن‮ «‬التغيير من الداخل‮» ‬طويلاً بينما ترتقي تيارات الإسلام السياسي إلى الحكم‮. ‬باختصار خرج المثقف من‮ «‬كهف أفلاطون‮» ‬الذي ظل سجينا فيه طويلاً ليكتشف أنه‮ «‬لا يعرف من الحقيقة إلا الأشياء المصنوعة‮». ‬
أربكت الثورة الجميع،‮ ‬أدرك المثقف،‮ ‬أو لم يدرك بعد،‮ ‬أنه كان يعيش في كهف السلطة،‮ ‬نشأ وتربى في حضانتها‮.. ‬مساحات الحركة والحرية التي حصل عليها كانت بإذن منها‮. ‬لم تقعمه يوماً لأنها لم تجد حاجة لقمعه‮.. ‬لماذا تقمعه؟
جاءت الثورة لتفض الاشتباك بين المثقفين والسلطة،‮ ‬أصبح المثقف عاريا‮ً‬،‮ ‬وحيداً، عليه أن يواجه قدره‮، ‬لا كما كان يحدث من قبل حيث يجد نفسه أمام سلطة فاسدة لكنها تدعي علمانيتها ومدنيتها ودفاعها عن المثقف.. ‬هذا الصراع الذي نشأ بين العمامة والطربوش،‮ ‬لم تتخذ فيه السلطة موقفاً حيادياً،‮ ‬وإنما انحازت إلى ما يخدم مصالحها سواء أكانت هذه المصالح لديى «العمامة‮» ‬أو‮ لدى «‬الطربوش‮».. ‬وهكذا أيضا اعتبر المثقف نفسه ابناً باراً للسلطة،‮ ‬تستدعيه وقتما تشاء ليخوض معاركها نيابة عنها وتتخلى عنه أيضا عندما تتعارض مصالحها معه‮. ‬هكذا كان يسير المثقف باتجاه‮ «‬الأسلاك الشائكة‮» ‬ولكنه‮ ‬غير مسموح له أن يتجاوزها،‮ ‬ولكنه أيضاً لم يحاول المغامرة من أجل تجاوزها‮. ‬
‮ ‬وفي مقابل إحساس المثقف باليتم،‮ ‬ومحاولته البحث عن أب بديل،‮ ‬لا يتناسى الكثيرون أن‮ ‬الثورة لم تكن ضد سلطة فاسدة وإنما ضد سلطة أبوية بالأساس،‮ ‬ضد طرق من التفكير القديمة‮‬،‮ ‬الأمر الذي دفع‮ «‬أسئلة‮ ‬الغرف المغلقة‮» ‬إلى الفضاء العام‮. ‬الأسئلة الخجولة التي كان مكانها الوحيد بين أغلفة الكتب،‮ ‬وأحياناً قاعات الدرس المغلقة،‮ ‬وندوات المثقفين ونقاشاتهم. كان الاقتراب منها عملاً محفوفاً بالمخاطر‮. ‬كان المثقف يطرح سؤاله في خجل،‮ ‬أسئلة حول‮ ‬الدين والسياسة،‮ ‬والشريعة ومفهومها،‮ ‬الحدود،‮ ‬وأساطير التدين،‮ ‬والقداسة التي يضفيها البعض حول الشخصيات الدينية البشرية،‮ ‬وغيرها احتلت مساحة واسعة في النقاش العام،‮ ‬تخطت حدود‮ «الكتب‮» ‬لتصبح مجالاً للحديث في برامج التلفزيون،‮ ‬وعربات المترو،‮ ‬بل في المناقشات العائلية أحيانا‮ً.‬
في ندوة أقيمت بالقاهرة بعنوان‮ «‬المجال العام والدين‮»‬،‮ ‬انقسم الحضور في القاعة إلى فئتين،‮ ‬الأولى‮: ‬تنتمي إلى الإسلام السياسي،‮ ‬يتحدثون‮ ‬عن الهوية والعلمانية الجزئية ويطعِّمون خطابهم بالحديث عن ميشيل فوكو والسلطة والانعتاق‮ «‬المستحيل‮» ‬من أسرها، بينما يتحدث الفريق الثاني الذي يضم‮ ‬مجموعة من الشباب يقدمون أنفسهم بأنهم ينتمون إلى تيار‮ «‬علمانيون‮» ‬لا يتحسسون كلامهم،‮ ‬لا يبحثون أثناء الحديث عن مصطلحات متقعرة‮. ‬يتحدثون بجرأة ويطرحون الأسئلة التي لم يطرحها كبار مفكري النهضة،‮ ‬بداية من طه حسين وحتى نصر أبو زيد‮. ‬خطابهم واضح‮: « ‬ليست المشكلة في ما يقدمه شيوخ الفضائيات من خطاب معاد للإنسانية.. ‬مشكلتهم الحقيقية مع‮ «‬النص‮» ‬هكذا يعلنون بكل جرأة‮.. ‬يفككون خطابات علاها الصدأ لسنوات،‮ ‬ويطرحون من الأسئلة ما لم يكن ممكناً طرحه من قبل طوال سنوات التلفيق بين الدين والحداثة‮.. ‬وهذه النقاشات كان من المستحيل أن تخرج من قبل إلى العلن بتلك الصورة،‮ ‬بل إن تيار‮ «علمانيون‮» ‬بدأ في النزول إلى الشارع يترك أفكاره على الحوائط في رسومات‮ «‬جرافيتي‮»..‬ وبدأ أصحابه نقاشات جادة في كل مكان تقريبا‮ً. ‬
قبل الثورة،‮ ‬عندما كانت تيارات الإسلام السياسي خارج السلطة،‮ ‬ترك لهم نظام مبارك في ما يشبه الصفقة،‮ ‬منابر المساجد،‮ ‬لينشروا أفكارهم،‮ ‬ويكفروا من يشاؤون،‮ ‬ترك لهم مجالاً كبيراً في الشارع‮ ‬لينشروا أفكارهم‮.. ‬مقابل محاصرة الشارع وتقويض أحلامه في العدالة الاجتماعية،‮ ‬وبعد وصولهم إلى السلطة لمدة عام اكتشف الشارع بالتجربة العملية أن‮ «‬الإسلام هو الحل‮» ‬مجرد شعار فضفاض لا يعني شيئاً،‮ ‬ولا يشعر أحد بالخوف أو الخجل وهو يعلن ذلك‮. ‬لم يعد من الجنون أن يعلن أحد أن العلمانية هي الضمان الوحيد لتقدم المجتمع وتطوره والحفاظ على وحدته،‮ ‬لم تعد الحرية منحة من حاكم‮ ‬ينتظرها المثقف‬،‮ ‬لكي يخرج لنا بإبداعاته ونصائحه‮..‬ وحكمه الكبيرة‮.. ‬ليست منحة من أحد بل معركة ينبغي أن نخوضها بقوة وبلا خجل.. ‬وبلا احتساب للخسائر والمكاسب‬، بلا شعار‮: «‬الموضوع حساس عند العامة‮... ‬وأخشى أن يستغل خصومنا ما سأقوله ضدنا...».‬
3
لم تمر المجتمعات العربية بمرحلة‮ « ‬الحداثة‮».. ‬مرت بمراحل‮ «‬تحديث‮» ‬على اعتبار أن الحداثة، ‬حسب تعريف محمد اركون لها هي‮ «‬موقف للروح أمام مشكلة المعرفة.. ‬موقف أمام كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل إلى معرفة ملموسة للواقع‮»، ‬بينما‮ «‬التحديث‮» مجرد إدخال التقنية والمخترعات الحديثة إلى الساحة العربية‮. ‬نحن إذًا أمام آلات حداثية وعقل ينتمي لما قبل القرون الوسطيى. ‬ وفي مقارنة بين المجتمعات الحداثية والتقليدية نجد أن الفروقات كبيرة‮‬،‮ ‬على مستوى التنظيم الاجتماعي نجد أن المؤسسات التقليدية تتضاءل في الحداثة مقابل هيمنة للمؤسسة الدينية‮ ‬في المجتمعات التقليدية،‮ ‬نجد أيضا أن الدين يتم النظر إليه كشأن شخصي في حين أن تأثيره‮ ‬حاسم في المجتمع التقليدي.‮ إن الطابع العام للمجتمع الحداثي‮ «‬شديد التنوع‮» ‬في مقابل التجانس في المجتمعات التقليدية‮.. ‬كما أن الحداثة تنظر إلى المستقبل والحاضر في حين تمجد المجتمعات التقليدية‮ «‬الماضي‮» ‬وتبحث فيه عن نفسها.. ‬إذًا نحن في حداثة ملفقة لم ترقَ بعد حتى للتقليد‮.‬ يلخص المثقفون الأزمة بأنها أزمة حداثة فوقية،‮ ‬تحاول السلطة أن تفرضها من أعلى‬،‮ ‬ولكن الحقيقة‮ ‬أن الدولة الحديثة نفسها منذ تأسيسها على يد محمد علي لم‮ تحسم هويتها‮..‬ هل هي دولة دينية أم دولة مدنية؟‮ ‬ وكان الصراع دائما علي من يمثل الدين‮.. ‬هل السلطة بمؤسساتها الرسمية أم تتركه لمؤسسات أخرى بعيدة عنها‮. ‬واضطرت السلطة في أحيان كثيرة إلى المزايدة على التيارات الدينية الأصولية في قضايا كثيرة خاصة بحرية الرأي والتعبير طوال سنوات التسعينيات وما بعدها‮..‬ لعلنا لا ننسى أنه في أزمة نصر أبو زيد‮ ‬رفضت السلطة الدفاع عن أفكار نصر.. ‬وكان اختياره المنفى الاختياري حلا أراحها.. ‬وفي عام‮ ‬2000‮ ‬عندما تفجرت أزمة رواية‮ « وليمة لأعشاب البحر‮» ‬اهتزت السلطة قليلا ولكنها دافعت عن‮ «‬حرية الرأي والتعبير‮».. ‬ولكن بعد شهور قليلة اضطرت السلطة نفسها إلى المزايدة على تيارات الإسلام السياسي لتصادر ثلاث روايات‮.. ‬وأقالت رئيس هئية قصور الثقافة وقتها علي أبو شادي،‮ ‬وحولت الكاتبين إبراهيم أصلان وحمدي أبو جليل إلى النيابة بتهمة نشر أعمال إباحية‮.. ‬واعتبر بعض النقاد أن هذه الأعمال تعبير عن‮ «الواقعية الجنسية‮».. ‬وهذه إجراءات عبرت عنها جماعة الإخوان بأنها فوق مستوى تخيلهم‮ ‬ومطالبهم‮‬،‮ ‬هذه السلطة نفسها تبنت في ما بعد الهجوم على وزير الثقافة فاروق حسني بسبب تصريحات عن الحجاب،‮ ‬لم يهاجمه الإخوان،‮ ‬ولكن أعضاء في الحكومة وفي الحزب الحاكم هم الذين هاجموه‮. ‬الصراع إذًا كان على رأسالمال الرمزي.. من يمتلكه؟ من يعبر عنه؟ وكيف يمكن استغلاله لكسب مشروعية سياسية؟
4
كان الهدف الرئيسي من الثورات العربية هو تخليص المجتمع من هيراركيته،‮ ‬من تفكير القبيلة،‮ ‬للبدء في البحث عن طرق تفكير أخرى جديدة بعيداً عن سلطة الوصاية الأبوية،‮ من أوهام المثقفين الذين يظنون أنفسهم «المصابيح الملونة». المثقف هو مجرد موظف لدى سلطة أو لدى معارضة، هذه هي الحقيقة، وهذه هي فاعلياتهم الحقيقية.. فقد انتهت عصور التفويض!
(كاتب مصري)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق